القضية الفلسطينية

المعادلة المعقدة.. كتائب القسام ومعركة محاور غزة

بعد أن دخل الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة شهره الحادي عشر -وهو الهجوم الإسرائيلي الأطول من حيث المدى الزمني والزخم القتالي في تاريخ القضية الفلسطينية- يبدو من الضرورة بمكان النظر بشكل دقيق للتأثيرات التي طالت القدرات البشرية والتسليحية لفصائل المقاومة الفلسطينية خاصة كتائب القسام التي دخلت في اشتباك متعدد الأشكال والاتجاهات مع الكتائب المدرعة الإسرائيلية، توزعت مفاصله بين شمال ووسط وجنوب القطاع.

هذه النظرة تقتضي أن نضع في الاعتبار عدة متغيرات أساسية طرأت على أسلوب القتال والتكتيكات المتبعة من جانب القوات الإسرائيلية، بين مرحلة العمليات العسكرية الأساسية في شمال ووسط القطاع، وبين المرحلة الثانية للعمليات، التي شملت أولًا القسم الشمالي من جنوب القطاع “خانيونس”، ثم ركزت بشكل طاغٍ على المحور الجنوبي “رفح” الذي أظهرت التطورات على الأرض أن أهميته بالنسبة للاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية العامة تتعدى موقعه الجغرافي، لتصل إلى حد اعتبار أن السيطرة عليه هي بمثابة “انتصار حاسم” في هذه المواجهة.

حتى على مستوى التكتيكات القتالية، تراجعت تل أبيب بشكل حاد عن أسلوب القتال المتلاحم الذي تتحرك فيه وحدات المشاة تحت غطاء الدبابات وناقلات الجند المدرعة، لتطهير وتأمين المناطق السكنية، وهو الأسلوب الذي اتُبع في المرحلة الأولى من العمليات، وحقق نجاحات محدودة للغاية تمثلت في التمكن من السيطرة على محور “نتساريم” الفاصل بين شمال ووسط القطاع. في حين ثبت فشل هذا التكتيك في المناطق كثيفة الكتلة السكانية، مثل مخيم جباليا، وعمق مدينة غزة، وفي أحياء مثل الزيتون والتفاح، وكذلك في المخيمات الوسطى، خاصة مخيم النصيرات. وقد كان السبب الرئيس في هذه النتيجة حقيقة أن هذا التكتيك يقلص بشكل كبير من دور الدعم الجوي القريب، ويجعل وحدات المشاة في مواجهة الألغام والقناصة، وفي مدى القتل للأسلحة الخفيفة الخاصة بعناصر المقاومة.

لذا لوحظ تغيير في التكتيكات الإسرائيلية، بدأ بشكل تدريجي منذ السيطرة على محور نتساريم، وتطور مع نهاية العمليات الأولى في خانيونس، ومن ثم بات مطبقًا الآن بشكل كامل. ويتلخص هذا التغيير في اعتبار أن الهدف العملياتي الأساسي يتركز على الحد قدر الإمكان من القدرات البشرية واللوجستية لعناصر المقاومة، وفي هذا تراجع كامل عن هدف تم التلويح به في بداية العمليات ألا وهو “إنهاء الجوهر الأساسي للقوة المسلحة في غزة ألا وهي كتائب القسام”. لذا اتبعت القوات الإسرائيلية تكتيكًا بات يُعرف باسم “الغارة – المركز”، ومن خلاله يتم استخدام المحاور المتوفرة حاليًا للجيش الإسرائيلي شمال وجنوب ووسط القطاع. المحور الأول يفصل بين بيت حانون وبيت لاهيا من جهة والمناطق الواقعة شمال معبر إيريز من جهة أخرى، والثاني هو محور نتساريم وسط القطاع، والثالث هو محور فيلادلفيا جنوب القطاع.

أوضاع الهيكل القيادي لكتائب القسام

مما سبق نستخلص أن تعديل الهدف العملياتي للقوات الإسرائيلية ليصبح هدفًا “أكثر واقعية” جعل الوحدات المقاتلة في قطاع غزة تركز على تتبع تحركات الكادر القيادي لفصائل المقاومة في القطاع، وهو تتبع ركز بشكل طاغٍ على كتائب القسام، لكنه خلال الأسابيع الأخيرة بدأ في إيلاء جزء من تركيزه لتحركات القيادات الميدانية لسرايا القدس.

عشية بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، كان الهيكل الميداني لكتائب القسام يتألف من خمسة ألوية أساسية “الشمال – غزة – المخيمات الوسطى – خانيونس – رفح”، يبلغ مجموع الكتائب التابعة لها نحو 24 كتيبة، حيث ضم لواء الشمال ست كتائب، هي “بيت حانون – الشيخ رضوان – بيت لاهيا – جباليا – جباليا البلد – قوة بحرية وجوية”، وضم لواء غزة ست كتائب أيضًا، هي “الفرقان – الشجاعية – الزيتون – الشاطئ – الدرج والتفاح – الصبرة والهوا”. في حين ضم لواء المخيمات الوسطى أربع كتائب هي “دير البلح – البريج – المغازي – النصيرات”، وضم لواء خانيونس أربعة كتائب “شمال – غرب – شرق – جنوب”، وضم لواء رفح أربعة كتائب، هي “يبنا – الشابورة – تل السلطان – شرق رفح”.

خلال المرحلة الأولى من العمليات العسكرية الإسرائيلية، استهدفت القوات الإسرائيلية بشكل مركز لواء الشمال ولواء مدينة غزة، ومن ثم في المرحلة الثانية استهدفت بشكل أساسي لواء خانيونس وقسم من لواء المخيمات الوسطى، في حين تستهدف في المرحلة الحالية ألوية رفح، مع ملاحظة أن القوات الإسرائيلية قد أنهت منذ أيام قليلة مضت عمليات مركزة في شرق خانيونس وجنوب دير البلح، وتستمر في عملياتها شرق محور نتساريم “حي الزيتون وتل الهوى” وفي جبهة رفح.

على المستوى القيادي، زعمت إسرائيل أنها تمكنت من تنفيذ مجموعة من عمليات الاغتيال في قيادات الصف الأول بكتائب القسام، بدءًا من قائد الكتائب، محمد الضيف، ونائبه مروان عيسى، مرورًا بقائد قسم القوة البشرية، رائد ثابت، وقائد منظومة الصواريخ، أيمن صيام، وقائد قسم الإسناد، غازي أبو طماعة، وصولًا إلى قائد المنظومة الجوية، عصام أبو ركبة، وأربعة قادة خلفوه في هذا الموقع، هم محمد مزيد وأبراهيم الصعيدي ورامي أبو رحمة، وسامر إسماعيل خضر أبو دقة، وقائد قسم التصنيع العسكري، حسن الأطرش، ونائب قائد جهاز الاستخبارات، شادي بارود، وقائد قسم الوسائل القتالية، محسن ابو زينة.

على مستوى الألوية، كان لواء غزة الأكثر تضررًا في عديد عناصره القيادية الأساسية، من جراء عمليات الاغتيال والتصفية الإسرائيلية خلال العمليات في قطاع غزة، حيث فقد هذا اللواء عددًا كبيرًا من قيادات كتائبه، في حين ما زال قائده، عز الدين الحداد، وقائد كتيبة الزيتون عماد أسليم، وقائد كتيبة الفرقان جبر عزيز، بمنأى عن عمليات الاغتيال الإسرائيلية، أما الألوية الأخرى فقد لحقت بها على المستوى القيادي أضرار أقل بكثير من لواء غزة، كما هو موضح في الشكل المرفق. خلال الفترات الأخيرة، لوحظ بدء الجيش الإسرائيلي في إيلاء سرايا القدس جانب من عمليات الاغتيال التي ينفذها في أنحاء القطاع، ومؤخرًا تمكن من اغتيال كل من أشرف جودة، قائد لواء الوسطى في السرايا، وعبد الله خطاب، قائد كتيبة جنوب دير البلح، وحاتم أبو الجديان، قائد كتيبة شرق دير البلح.

الموقف العملياتي لكتائب القسام في قطاع غزة

مع بدء العمليات العسكرية البرية في قطاع غزة، بمرحلتها الأولى “شمال ووسط القطاع”، ومرحلتها الثانية “جنوب القطاع”، استهدفت القوات الإسرائيلية تفكيك الألوية الموجودة في نطاق هذه المناطق، وكان التقدير الإسرائيلي أنه مع انتهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية الأولى في خانيونس، أوائل أبريل الماضي، سيظل لكتائب القسام ست كتائب فقط، مازالت محتفظة بقوامها الأساسي، بواقع أربعة كتائب في رفح، واثنتين في المنطقة الوسطى “دير البلح – النصيرات”. وقد تطور هذا التقدير في شهر يونيو الماضي حين أعلن الجيش الإسرائيلي أنه قام بتفكيك نحو نصف قوة حماس القتالية في رفح، حيث افترض هذا التقدير أنه من بين الكتائب الأربع في لواء رفح التابع لحماس تم تفكيك كتيبتين بشكل كامل هما كتيبة “يبنا” وكتيبة شرق رفح”، في حين أن قدرات الكتيبتين الأخريين، وهما كتيبة “الشابورة” وكتيبة “تل السلطان”، باتت متدهورة إلى حد بعيد.

لكن بحلول شهر يوليو الماضي اتضح من خلال مجمل التطورات التي شهدها قطاع غزة منذ أبريل الماضي أن أنشطة كتائب القسام قد تجددت في عدة مناطق بقطاع غزة، على رأسها مخيم جباليا وأحياء الزيتون والشجاعية والدرج والتفاح وبيت لاهيا بشمال القطاع، ونطاق شرق المخيمات الوسطى، وشرق مدينة خانيونس، وأظهرت مجريات العمليات الميدانية أن القوات الإسرائيلية لم تفلح بشكل مؤكد سوى في إنهاء الفعالية القتالية لثلاث كتائب فقط من مجمل كتائب القسام الـ 24، وهما كتيبتا بيت حانون والشاطئ في شمال القطاع، وكتيبة شرق رفح جنوب القطاع. في حين تم الحاق اضرار متنوعة بـ 13 كتيبة، هي كتائب الشابورة في جنوب القطاع، وثلاث كتائب في خانيونس، وكتيبتي المغازي والبريج وسط القطاع، وكتائب الفرقان والشاطئ،  والدرج والتفاح، والصبرة والهوا، وبيت لاهيا وجباليا وجباليا البلد في شمال القطاع.

ومازالت هناك ثمانية كتائب فعالة بشكل معتبر، وهي كتائب تل السلطان ويبنا في جنوب القطاع، وكتيبة واحدة في خانيونس، وكتيبتي دير البلح والنصيرات وسط القطاع، وكتائب الشجاعية والزيتون والشيخ رضوان شمال القطاع. ولهذا السبب شنت القوات الإسرائيلية مؤخرًا، سلسلة من العمليات المحدودة في وسط وشمال قطاع غزة، لمحاولة تقليل الفعالية القتالية لهذه الكتائب، خاصة في محيط محور نتساريم.

اللافت أن أحدث التقديرات الإسرائيلية أشارت إلى أنّ نحو 3000 مقاتل من كتائب القسام، عادوا إلى العمل في شمالي قطاع غزة، ويعملون على تحسين القدرات العملياتية للكتائب، وبحسب هذه التقديرات، فإنّ الأمر يتعلق بتجنيد عناصر جدد من جانب حماس في الفترة الأخيرة، وليس انتقال مقاتلين من جنوبي القطاع إلى شماله. هذه التقديرات تشير أيضًا إلى وجوب إعادة الدخول المكثف لقوات الجيش الإسرائيلي إلى شمال القطاع، وهذا ربما يكون من أهم أسباب الموقف المتشدد المعلن من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بشأن عدم الانسحاب من معبر رفح.

مما سبق يمكن القول إن كتائب القسام قد تمكنت بشكل عام من إعادة تجديد القدرة القتالية لسبع كتائب على الأقل، يتركز معظمها في شمال القطاع، مستغلة في ذلك تركيز العمليات العسكرية الإسرائيلية خلال الأشهر الأخيرة، في اتجاه جنوب قطاع غزة، وهذا ظهر بشكل كبير من خلال الأنشطة القتالية التي رُصدت لكتائب القسام، في مناطق شمال القطاع، مثل مخيم جباليا ومنطقة بيت لاهيا، الذي أعادت القوات الإسرائيلية العمليات العسكرية فيه في شهر مايو الماضي، بعد أن أظهرت التقديرات الإسرائيلية أن كتائب القسام قد أعادت بناء ثلاث كتائب في محيط كلا المنطقتين، وبالتالي هذا يشير إلى أن كتائب القسام قد أعادت بناء قدراتها على نسق أسرع مما كان متوقعًا. نفس الشي تمت ملاحظته خلال العمليات الإسرائيلية الأخيرة في أحياء الزيتون والشجاعية، وقد شهدت هذه المناطق جميعها خلال هذه العمليات أنشطة قتالية عنيفة، كانت مؤشر على استعادة كتائب القسام، لجزء كبير من فعاليتها القتالية في هذه المناطق.

يضاف إلى ما سبق، قيام كتائب القسام بتشكيل “لجان طوارئ” لإدارة العمليات الميدانية في مناطق قطاع غزة المختلفة، وقد استهدفت إسرائيل بشكل ممنهج هذه اللجان التي كان هدفها الرئيس هو تأمين الأرضية اللازمة لإعادة الأنشطة القتالية لكتائب القسام في المناطق المختلفة التي شهدت عمليات تطهير إسرائيلية، ومن أمثلة عمليات الاستهداف هذه استهداف عناصر لجنة الطوارئ العاملة في مدينة رفح، وعلى رأسهم نضال العيد، رئيس اللجنة.

تعديلات تكتيكية في الأساليب القتالية لكتائب القسام

على المستوى الميداني، باتت كتائب القسام تعتمد بشكل أساسي خلال المرحلة الحالية على الانسحاب بشكل مؤقت من مناطق معينة خلال عمليات التطهير الإسرائيلية، قبل أن يعودوا إلى تلك المناطق بعد مغادرة الإسرائيليين. وبما أن عمليات التطهير الإسرائيلية لا تتضمن الحضور بشكل كامل في هذه المناطق، فهذا يسمح للمقاتلين الفلسطينيين بالعودة مرة أخرى، وهذا يمكن فهمه بشكل أكبر من خلال النظر إلى مجريات بعض عمليات التطهير التي نفذتها القوات الإسرائيلية في شمال قطاع غزة، مثل عملية تطهير مجمع الشفاء الطبي.

حقيقة الأمر أن كتائب القسام قد بدأت بتعديل أساسي في طريقة عمل عناصرها على الأرض خلال الأشهر الأخيرة، فبعد أن دخلت العمليات العسكرية الإسرائيلية مرحلتها الثانية بدأت الكتائب في تجميع صفوفها ودمج الفصائل والسرايا، لتكوين وحدات قتالية مصغرة، مدعومة بعناصر مسلحة مجندة حديثًا، وباتت عمليات هذه الوحدات القتالية تعتمد بشكل أكبر على تكتيكات الكمائن وحرب العصابات، خاصة وأن العنصر البشري المدرب المتوفر بات أقل مما كان عليه الحال في بداية العمليات.

تتكون هذه الوحدات المصغرة في العادة من عنصرين يحملان عبوات مضادة للدبابات، وعنصر للتصوير والرصد، وعنصر للقنص، وعنصر أو اثنين يحملان مقذوفات كتفية مضادة للدبابات، وقد أدى هذا التعديل إلى احتفاظ الكتائب بالقدرة على شن هجمات مؤثرة، تستفيد من انتشار المباني المفخخة في كافة مناطق القطاع، لإلحاق خسائر كبيرة في القوة البشرية الإسرائيلية، وهي هجمات تتم بنسق “الصيد الحر”، دون الحاجة إلى وجود أوامر قيادية محددة توجه هذه الهجمات.

من أمثلة هذه الكمائن العملية النوعية التي تمت في يونيو الماضي، في منطقة “الحي السعودي” الملاصقة لحي تل السلطان في مدينة رفح، وتم خلالها استهداف جرافة كانت تقوم بتدمير المنازل في هذه المنطقة، ومن ثم تم بعد ذلك استهداف عربة هندسة عسكرية مدرعة حاملة للجنود من نوع “نامير” بصاروخ مضاد للدروع، ما أسفر عن مقتل ما مجموعه ثمانية جنود إسرائيليين، أحدهما نائب قائد سرية، وكذلك عملية تفجير مبنى مفخخ في نفس الشهر، بمدينة رفح، ما أسفر عن مقتل ضابط برتبة رائد وأربعة رقباء.

يضاف إلى ذلك احتفاظ الكتائب بالقدرة على تنفيذ عمليات تسلل نحو غلاف غزة؛ ففي يونيو الماضي، تسللت عناصر فلسطينية -تشير التقديرات إلى أن عددها أربعة مقاتلين مسلحين بقذائف صاروخية ورشاشات- إلى منطقة تقع بين مستوطنة حوليت ومعبر كرم أبو سالم، واشتبكت مع القوات الإسرائيلية هناك. ولعل من أبرز هذه الكمائن الكمين الذي تم أوائل أغسطس الماضي في منطقة الفراحين شرق خانيونس، وفيه تم تفجير عبوة ناسفة في قوة راجلة إسرائيلية، علمًا أن هذه المنطقة تعد جزءًا من المنطقة العازلة التي أنشأها الجيش الإسرائيلي شرق خانيونس.

على المستوى التسليحي، كان ملحوظًا عودة النشاط الصاروخي من قطاع غزة نحو مستوطنات الغلاف خلال الأسابيع الأخيرة، وقد تعدت هذه العمليات نطاق غلاف غزة، لتصل إلى مناطق أبعد، وهو ما يعد تأكيدًا إضافيًا على استعادة الفصائل الفلسطينية قسمًا كبيرًا من قدراتها التسليحية والعسكرية في نطاق شمال قطاع غزة، خاصة أن بعض مناطق الإطلاق -مثل بيت حانون- كانت من أولى المناطق التي عملت بداخلها القوات الإسرائيلية خلال المرحلة الأولى من العمليات البرية. جدير بالذكر هنا أن شهر أغسطس الماضي قد شهد ما مجموعه 116 عملية إطلاق صاروخي من داخل قطاع غزة.

يضاف إلى ذلك أن بعض الأسلحة النوعية قد بدأت في الظهور مؤخرًا في تسليح الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، منها النسخة الإيرانية من صواريخ “مالوتيكا” السوفيتية الموجهة بالسلك -وتسمى I-RAAD-T- وهي نسخة ذات رأس حربي ترادفي، ظهرت للمرة الأولى في المعارك الحالية في عمليات الفصائل في المخيمات الوسطى، وهذا يشير إلى البدء في استخدام مخزونات الأسلحة النوعية التي كانت الفصائل تحاول تفادي استخدامها خلال الفترة الماضية منعا لاستنزافها، وكذلك الظهور الأول للصاروخ الصيني المضاد للدبابات “HJ-8L” المعروف باسم “السهم الأحمر”، خلال كمين لناقلة جند إسرائيلية في منطقة تل زعرب في جبهة رفح، ويمكن اعتبار ظهوره كإثبات آخر على أن الفصائل في قطاع غزة مازالت تحتفظ بمخزونات من الأسلحة، لم يتم تدميرها او التوصل إليها حتى الآن، ستبدأ في استخدامها خلال المراحل الأخيرة للقتال، مثله في ذلك مثل الظهور الأول في يونيو الماضي، للصواريخ المحمولة على الكتف المضادة للطائرات “سام-18” في مخيم الشابورة شرق رفح.

كما تشير كثافة العتاد العسكري الذي تم العثور عليه خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية في حي الشجاعية وحي الزيتون شمال قطاع غزة إلى مساعٍ جدية من جانب فصائل المقاومة لإعادة ترسيخ وجودها في المناطق التي تنسحب القوات الإسرائيلية من محيطها، وهذا يدل على أن هذه الفصائل مازالت تحتفظ بالحد الأدنى من القيادة والسيطرة، والقدرات اللوجيستية والتسليحية، حتى في المناطق التي سبق تطهيرها جزئيًا، مثل حي الشجاعية الذي عملت القوات الإسرائيلية فيه مرتين سابقًا، وهو ما يفسر استمرارية عمليات القصف بالهاون على المواقع الإسرائيلية في محور نتساريم، رغم الجهود الإسرائيلية المستمرة لتنفيذ عمليات تطهير شمال وجنوب المحور، وهنا تجدر الإشارة إلى توسع عمليات استخراج المتفجرات من الذخائر الإسرائيلية غير المنفجرة واستغلالها في تنفيذ كمائن العبوات الناسفة للمدرعات والمشاة الإسرائيليين.

ماهية المنظور الإسرائيلي للموقف العملياتي لكتائب القسام

أصبح ملحوظًا أن الجيش الإسرائيلي بات يعتمد على أسلوب “عقابي” في قطاع غزة، يتم من خلاله قصف المناطق التي يتم إطلاق الصواريخ منها بشكل متكرر، بعد أن يتم تحذير سكانها ليقوموا بإخلاء هذه المناطق، وهو ما شكل تحولًا إضافيًا في التحركات الميدانية الإسرائيلي، لتصبح مركزة بشكل شبه كامل على استهداف مناطق إطلاق الصواريخ، بجانب تنفيذ عمليات تطهير في المناطق القريبة من محوري نتساريم وفيلادلفيا. وقد أضيفت مهمة ثالثة للقوات العاملة في قطاع غزة حاليًا والتي تتألف في الوقت الحالي من وحدات تقاتل في كل من حيي الزيتون وتل الهوى في المحيط الشمالي لمحور نتساريم “الفرقة الاحتياطية 252″، وفي تل زعرب وتل السلطان في جبهة مدينة رفح “الفرقة 162”.

هذه المهمة تتلخص في توسيع المنطقة العازلة المحيطة بمحوري نتساريم وفيلادلفيا، حيث تشير المعلومات المتوفرة وصور الأقمار الصناعية الحديثة إلى أن عمليات توسيع الحرم الشمالي لمحور نتساريم وسط القطاع، وهو الحرم الذي يضم حيي تل الهوى والزيتون جنوب مدينة غزة، قد تكثفت بشكل كبير، وهو ما يمكن النظر إليه من زاوية تكريس تواجد القوات الإسرائيلية في هذا المحور، وتوفير الحماية لها من الأنشطة القتالية التي تزايدت من جانب فصائل المقاومة خلال الفترة الأخيرة، خاصة من حي الزيتون.

وقد أشارت كذلك أحدث الصور الجوية الملتقطة للقسم الغربي من محور فيلادلفيا إلى وجود مناطق مدمرة حديثًا في نطاق تل السلطان والسوق المركزية لمدينة رفح، وكذلك أشارت إلى أنه قد تم رصف مسافة إضافية من الطريق الذي بدأت القوات الإسرائيلية في رصفه بمحاذاة الحدود المصرية، انطلاقًا من القرية السويدية أقصى غرب المحور، وصولًا إلى تل زعرب. هذا يتطابق مع التوجهات المعلنة من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بشأن محور فيلادلفيا، فمن خلال الطريق الجديد الذي يتم تمهيده بموازاة المحور، وتوسيع هامش النطاق العازل المحاذي له، يمهد الجيش الاسرائيلي الطريق أمام تواجد طويل الأمد في هذا النطاق، وهو نفس ما يقوم به في محور نتساريم.

في ظل هذا المشهد الميداني كان لافتًا التصريح الأخير لوزير الدفاع الإسرائيلي الذي أفاد فيه أن “حركة حماس لم تعد موجودة كقوة عسكرية منظمة في غزة بعد أكثر من 11 شهرا من الحرب”، وهو تصريح يمكن القول حوله إنه يخلط بشكل واضح بين “تراجع الفعالية القتالية للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بشكل عام” -خاصة جبهة رفح- وبين مسألة “إنهاء وجود حركة حماس كقوة مقاتلة”، حيث توضح المعطيات الميدانية ان العنصر الأول قد تحقق بشكل أو بآخر، لكن العنصر الثاني مازال غير متحقق على الأرض.

هذا التصريح ربما يعيد إلى الأذهان تصريحات سابقة لوزير الدفاع الإسرائيلي قال فيها خلال زيارته لجبهة رفح إن لواء رفح في كتائب القسام “قد هزم”، وهو تصريح يخلط بين مسألة استمرار هذا اللواء كتشكيل قتالي له تراتبية قيادية، وبين استمرار وجود نشاط قتالي لكتائب القسام في رفح والجبهات الأخرى، علمًا أنه في الفترة بين 10 و21 أغسطس الماضي، رصدت القوات الإسرائيلية نحو 16 هجومًا لكتائب القسام في جبهة رفح، في حين نفذت فصائل فلسطينية أخرى 17 هجومًا مجتمعة خلال نفس الفترة.

في الخلاصة، يمكن القول إن كتائب القسام على المستوى القيادي قد خسرت قسمًا كبيرًا من قدراتها، خاصة على مستوى العناصر القيادية الميدانية، والكادر المختص في التخطيط والتصنيع، وكذا العناصر المقاتلة، وهو ما يمكن ملاحظته بشكل كبير فيما يتعلق بلواء غزة، الذي لحقت به الخسائر الأهم في هذا الصدد، مع تضرر بقية الألوية بأشكال متفاوتة.

وعلى الرغم من أن تعديل كتائب القسام لآلية عملها الميداني قد مكنها من استعادة بعضًا من تمركزها ونشاطها في عدد من المناطق التي نفذت فيها القوات الإسرائيلية سابقًا عمليات تطهير، إلا أن عمليات الإغارة المستمرة من جانب القوات الإسرائيلية في الجبهة الشمالية والوسطى والجنوبية في قطاع غزة تمنع بشكل مستمر من تحول عمليات استعادة النشاط هذه إلى انتعاش فعلي للنشاط المسلح من جانب كتائب القسام، وهو ما يعني في المجمل أن كتائب القسام كمنظومة عسكرية مقاتلة قد تعرضت لأضرار متوسطة تحول دون استمرارها في العمل على الأرض بنفس الأنساق السابقة، لكنها في نفس الوقت بعيدة عن الوصول إلى نقطة “اضمحلال الأثر والتأثير” نظرًا لتمكنها من تعديل تكتيكاتها القتالية لتصبح أقرب ما تكون إلى تكتيكات حرب العصابات التي كانت متبعة خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي.

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى