قراءة في المناظرة الرئاسية الأولى بين “هاريس” و”ترامب”
وُصفت المناظرة التي أُجريت اليوم بين دونالد ترامب وكامالا هاريس بأنها الحدث الأكثر أهمية وترقبًا في التقويم السياسي الأمريكي الذي يسبق الانتخابات المقررة في الخامس من نوفمبر المقبل. استطاع ترامب خلال المناظرة الأولى التي عُقدت في 27 يونيو الماضي، الإطاحة بمنافسه جو بايدن من السباق الرئاسي. لكنه تلعثم بعض الشيء خلال المناظرة الثانية، عندما واجه خصمته الديمقراطية الجديدة، وظهر معظم الوقت في موقف المدافع عن نفسه بشأن مشاكله القانونية، وإنكاره لنتائج الانتخابات، والتحريض على الهجوم على مبنى الكابيتول.
وكشفت المناظرة، عن عدد من الملاحظات الأساسية يمكن إبرازها فيما يلي.
- ركزت المناظرة بشكل كبير على الشؤون الداخلية للولايات المتحدة، في مقابل عدم الاهتمام إلى حد ما بالسياسة الخارجية. وحتى عندما كان يتم طرح أسئلة متعلقة بالشؤون الدولية، سعى المرشحان إلى إعادة النقاش حول القضايا الداخلية.
- دخلت هاريس المناظرة مصممة على الظهور بمظهر الزعيم الهادئ الذي يركز على مصالح الشعب، واستدراج ترامب إلى ردود غير متوازنة تجعله يبدو مهووسًا بمظالمه الخاصة وليس الشعب الأمريكي.
- وفرت المناظرة فرصة لهاريس لتقديم نفسها للناخبين الذين لا يزال لديهم انطباع غامض عنها، حيث كانت تتطلع إلى الاستفادة من ارتفاع شعبيتها في استطلاعات الرأي منذ توليها منصب المرشح الديمقراطي. واستخدمت هاريس المناظرة لرسم تباين مع ترامب، وصورت نفسها على أنها “طفلة من الطبقة المتوسطة” ووصفت ترامب بأنه أناني. وعقب انتهاء المناظرة، أظهر استطلاع سريع للرأي بين الناخبين المسجلين، أن عدد الناخبين الذين لديهم وجهة نظر إيجابية حول أداء كامالا هاريس كان أكبر من عدد الناخبين الذين لديهم وجهة نظر إيجابية حول أداء دونالد ترامب.
- ظل هدف ترامب الرئيس خلال المناظرة وصف هاريس بأنها متطرفة ونخبوية وماركسية ومهاجرة ومتطرفة. وسلط الضوء على ارتفاع معدل التضخم خلال رئاسة بايدن والقلق بشأن الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، وتورط الولايات المتحدة ولعبها دورًا كبيرًا في حربين، الأولى بأوكرانيا والثانية بقطاع غزة، وهو ما ترك الأمريكيين منقسمين بصورة غير مسبوقة بشأن القضايا الخارجية. ونجح ترامب في دفع الناخبين للتفكير في سجل هاريس من خلال ربطها بإدارة بايدن وما اقترفته من سياسات خاطئة، والتأكيد أن انتخاب هاريس يعني فترة حكم ثانية لإدارة جو بايدن، إلا أنها ستكون أكثر تقدمية.
- على الرغم من التزام ترامب بقواعد المناظرة، إلا أنه لم يكسب الفئة المترددة في دعمه في ظل تخوف الكثيرين من نيته الانتقام من أعدائه السياسيين، وفرض أجندة داخلية تهدد أسس الديمقراطية الأمريكية وثوابتها. وكرر ترامب الادعاءات المتعلقة بالاحتيال الواسع النطاق في انتخابات عام 2020 وعزز نظرية المؤامرة حول المهاجرين، سعيًا لرسم صورة لأمة في حالة من الفوضى. لذلك تسعى هاريس لحشد بعض من 15% من الجمهوريين الذين لم يصوتوا لترامب في الانتخابات التمهيدية. ومن شأن حصول هاريس على تأييد الجمهوريين المحافظين المتشددين مثل ليز تشيني ووالدها، نائب الرئيس السابق ديك تشيني، أن يساعد هاريس في الفوز في الانتخابات.
- لم تحسم المناظرة بعد أصوات الفئة المترددة لدعم أي من المرشحين، لذلك جاء انعقاد المناظرة في ولاية بنسلفانيا لأنها الولاية التي ستحسم نتائج الانتخابات لامتلاكها 19 عشر صوتًا انتخابيًا من إجمال أصوات المجمع الانتخابي البالغة 538، فهي تعد الأكثر أهمية بين الولايات المتأرجحة الأخرى التي تمتلك أصواتًا أقل في المجمع الانتخابي، ومن الصعب تعويضها بولاية أخرى إذا خسرها أي من المرشحين في السباق الرئاسي، ولهذا فهي تعد الجائزة الكبرى في نوفمبر إما لترمب أو لهاريس.
ومن خلال القضايا التي تم طرحها في المناظرة، سعى المرشحين إلى تحقيق عدد من الأهداف أبرزها:
كسب أصوات النساء: سعت هاريس خلال المناظرة إلى كسب الناخبين غير المؤيدين لترامب، وخاصة النساء فيما يتعلق بحقوق الإجهاض. فبالنسبة للنساء دون سن 45 عامًا، فإن حقوق الإجهاض -وليس الاقتصاد- هي قضيتهن الأولى. وهاجمت هاريس ترامب لدوره في تعيين قضاة المحكمة العليا الذين ألغوا الحق الفيدرالي في الإجهاض. ودافعت عن إعادة قانون “رو ضد وايد”، الذي يوفر حماية واسعة للحقوق الإنجابية. وألقت باللوم على ترامب في التحركات التي اتخذتها بعض الولايات لتقييد الإجهاض. وقد حاول ترامب أن يكسب رضا الإنجيليين بتلميحات عن حظر وطني للإجهاض ثم التحول بشكل جذري بأنه ساعد في إعادة القضية إلى الولايات، مع تأييده للاستثناءات في حالات الاغتصاب وزنا المحارم.
حمل لواء التغيير: سعى المرشحان خلال المناظرة إلى حمل لواء التغيير في بلد مليء بالناخبين المنقسمين. وقالت هاريس عن ترامب: “في هذه المناقشة، ستسمعون نفس الكتاب القديم والمستهلك: مجموعة من الأكاذيب والمظالم والشتائم”. وسعى ترامب إلى تصوير هاريس باعتبارها استمرارًا للرئيس جو بايدن فيما يتعلق بالهجرة والاقتصاد. وترى حملة هاريس أن المال سيكون العامل الحاسم في التغيير. فقد جمعت 361 مليون دولار أمريكي في أغسطس (أي أكثر من ترامب بنحو 230 مليون دولار). ولديها 110 ملايين دولار إضافية نقدًا. وهذا يعني أنها تستطيع تمويل المكاتب الميدانية وجيوش المتطوعين في الضواحي والمناطق المحيطة بالولايات الجمهورية لتقليص الفارق بين ترامب والجمهوريين، إن لم يكن هزيمته بشكل مباشر. وإذا فازت هاريس في ولايتي بنسلفانيا وجورجيا، فإنها ستكون على يقين من الفوز.
اللعب على وتر الاقتصاد: في حين تُظهر معظم استطلاعات الرأي الوطنية تعادل ترامب وهاريس، إلا أن المرشح الجمهوري يظل متقدمًا قليلاً عند سؤال الناخبين عن المرشح الذي يثقون به أكثر عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الاقتصاد. ولذلك أدركت هاريس أنها يجب أن تثبت للناخبين أنها ستكون قادرة على مساعدتهم في مواجهة تكاليف المعيشة المتصاعدة في الولايات المتحدة. وركزت خلال المناظرة على أجندتها الاقتصادية، وربطتها بجذورها في الطبقة المتوسطة. ووصفت هاريس نفسها بأنها متعاطفة مع الشركات الصغيرة والأسر، ووصفت ترامب بأنه مدين للمليارديرات الأثرياء الذين سيحصلون على تخفيضات ضريبية كبيرة إذا فاز. فيما داهمه ترامب بأن الرسوم الجمركية المرتفعة على الدول الأخرى من شأنها أن تساعد العمال الأمريكيين بدلاً من أن تكون تضخمية. وإذا عاد إلى البيت الأبيض فإنه سيجعل الاقتصاد على رأس أولوياته.
دحض الادعاءات: سلطت هاريس الضوء على أكاذيب ترامب بشأن الهجرة وأمن الحدود، وساعدها في ذلك تصحيح مدير المناظرة لترامب بعد أن زعم أن المهاجرين الهايتيين يأكلون الحيوانات الأليفة في سبرينغفيلد بولاية أوهايو. واتهم الديمقراطيين بالسماح لملايين المهاجرين بالدخول وادعى أن المهاجرين رفعوا نسبة الجرائم. وألقت هاريس اللوم على ترامب لإفشاله مشروع قانون أمن الحدود الذي كانت تدعمه، وروجت لعملها في ملاحقة المهربين على الحدود.
السيطرة على الانفعالات: محور السياسة الخارجية كان العامل الأبرز في ظهور انفعالات المرشحين على مسرح المناظرة، وظهرت على ترامب علامات الإحباط عندما ادعت هاريس بأن زعماء العالم يسخرون من ترامب ووصفوه بأنه “عار” لرفضه الاعتراف بالهزيمة في انتخابات 2020، وأصر ترامب على أنه يحظى باحترام رؤساء الدول. وبالانتقال إلى الشرق الأوسط، أصبح ترامب هو المتحكم في المناظرة، عندما طرح بعض النقاط بشأن سياسة إيران والفوضى العامة في الشرق الأوسط، لم تكن رسالته قوية ولكنها عززت مشاعر الجمهور بأن إدارة بايدن ضعيفة في الشرق الأوسط.
التركيز على العواقب: وفيما يتعلق بأوكرانيا، أظهرت هاريس أنها تدرك العواقب المحتملة لانتصار روسيا في أوكرانيا. وأشارت إلى أنه إذا تحققت مثل هذه النتيجة، “فسوف يركز بوتن على بقية أوروبا”. وهذا تفسير دقيق للمخاطر التي تواجه الولايات المتحدة. وعلى النقيض من ذلك، فشل ترامب في تقديم رد مقنع، حيث قال “إنه سيتصل هاتفياً ببوتين وزيلينسكي”. وعليه، فإن الخطر يكمن في أن إدارة ترامب الثانية قد تعمل على خفض الدعم لأوكرانيا وزيادة احتمال منح بوتن نصراً استراتيجياً حاسماً.
وفيما يتصل بالصين، تجنب المرشحان أي مناقشة حقيقية للتداعيات الدفاعية والأمنية المترتبة على صعود الصين. وركزا على العلاقات التجارية. وأياً كان الفائز في نوفمبر المقبل، فهناك احتمال أن يواجه أزمة كبرى مع بكين بشأن تايوان، قضية أكثر محورية بالنسبة للولايات المتحدة من الرسوم الجمركية.
وفيما يتعلق بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان، فقد أيدت هاريس قرار الانسحاب ولكنها انتقدت اتفاقية ترامب مع طالبان التي حددت الأول من مايو 2021 كموعد نهائي للانسحاب. وانتقدت هاريس الطريقة التي تم بها تنفيذ الانسحاب، والذي شهد فوضى أدت إلى مقتل 13 عنصراً من القوات الأمريكية في تفجير انتحاري بمطار كابول الدولي. من جانبه، زعم ترامب أنه كان سينسحب بشكل أفضل دون خسائر.
وفيما يخص الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أعربت هاريس عن دعمها لحل الدولتين ودعت إلى إنهاء الحرب في قطاع غزة فورًا. أما ترامب، فقد تهرب من الإجابة المباشرة عن سؤاله حول الصراع، وكرر ادعاءه بأن هاريس والديمقراطيين “يكرهون إسرائيل”، مشيرًا إلى أنه كان سيمنع اندلاع الصراعات تحت إدارته.
ختامًا، يمكن القول إن الحقيقة التي حققتها هاريس، طوال فترة المناظرة، هي عدم شعور الجمهور بأنها كانت جزءًا من المؤسسة الحالية التي تسعى إلى ولاية جديدة في المنصب، ووصفت ترامب بأنه الرئيس الحالي المسؤول عن مشاكل أمريكا، وصورت نفسها على أنها منافس من الجيل القادم لديه رؤى جديدة، ووجهت نداءً لطي الصفحة وعدم العودة إلى الوراء. واستطاعت كامالا هاريس منح الناخبين المترددين الفرصة لدعمها، وراودت أفكارهم المتعلقة بدعم التكسير الهيدروليكي وهي صناعة رئيسية في ولاية متأرجحة مثل بنسلفانيا، ودعمها للطاقة النظيفة والاعتراف بأزمة المناخ. وكررت التزامها بضمان وجود قوة قتالية مميتة لأمريكا، واحترام الجيش، ومواجهة الصين، ودعم إسرائيل، ومحاربة أزمة المناخ مع حماية الصناعات الأمريكية؛ كل هذه مواقف تستهدف الناخبين المترددين في دعم هاريس. ومع ذلك، ليس من الواضح ما إذا كانت المناظرة الرئاسية ستنجح في إقناع الناخبين المترددين في سبع ولايات متأرجحة ــ والتي يعتمد عليها مستقبل النظام العالمي ومستقبل الولايات المتحدة ــ. ولكن هناك اقتناع واسع النطاق، حتى بين أنصار ترامب، بدعم من استطلاعات الرأي التي أجرتها وسائل الإعلام، عقب المناظرة بأن هاريس هي الفائز في هذه المناظرة.