الأكثر قراءةالحرب الروسية الأوكرانية

المقايضة المفاجئة.. اتجاهات الميدان الأوكراني بين معركتي “كورسك” و”خاركيف”

تحمل مقاطعة “كورسك” الروسية الحدودية مع أوكرانيا، رمزية تاريخية مهمة، نظرًا لأنها كانت موضع إحدى أهم معارك الجبهة الشرقية في الحرب العالمية الثانية، في مثل هذا الوقت من عام 1943، حيث خاضت القوات السوفيتية معارك طاحنة مع القوات الألمانية، خلال الفترة بين الخامس من يوليو والثالث والعشرين من أغسطس، وكان انتصار السوفييت في هذه المعركة، نقطة التحول الأساسية – بجانب معركة ستالينجراد التي سبقت هذه المعركة – التي أدت إلى بدء انحسار الهجوم الألماني على الأراضي السوفيتية، ولعلها مفارقة لافتة أن تشهد نفس هذه المقاطعة، بعد عقود من هذه المعركة، مواجهة عسكرية حاسمة ومهمة، يمكن أن تمثل نقطة مفصلية في نزاع عسكري طال أمده بين موسكو وكييف.

تشهد هذه المقاطعة منذ عدة أيام هجومًا أوكرانيًا مباغتًا على عدة محاور، وهو ما وضع القوات الروسية للمرة الأولى منذ عقود في موقف دفاعي بحت على أراضيها، ما أعاد بشكل أو بآخر صورة الهجوم الألماني المباغت على الأراضي الروسية في منتصف عام 1941. وقد كان عنصر “المباغتة” هو أهم وجه للشبه بين كلا الهجومين، حيث وجدت موسكو نفسها أمام وضع غير متوقع، لم تظهر أمامها –رغم امتلاكها التفوق الجوي والاستخباراتي على الأراضي الأوكرانية– أية مؤشرات على قرب حدوثه.

هذا المشهد يضع الهجوم الحالي على كورسك ضمن قائمة من “المفاجآت” التي تعرضت لها موسكو في أوكرانيا، مثل العمليات السابقة التي نُفذت عبر الحدود في الداخل الروسي، وفشل الهجوم الروسي في المحور الشمالي لكييف في بداية العملية العسكرية الروسية، والهجمات على قطع أسطول البحر الأسود وجسر القرم، وعملية الهجوم على مبنى الكرملين بطائرات مسيرة في مايو 2023، وتراجع القوات الروسية في جبهة خاركيف في سبتمبر 2022.

 هجوم مضاد جديد أم اختراق مؤقت؟

بشكل عام، لم تكن عملية الاختراق الأوكرانية الحالية للأراضي الروسية، الأولى من نوعها عبر الحدود، حيث تمت في مراحل سابقة عمليات “أقل نطاقًا” تم فيها اختراق الأراضي الروسية، وعلى رأس هذه العمليات، عمليتان تمتَا خلال العام الماضي. العملية الأولى تمت في شهر مارس، وخلالها اخترقت مجموعة مسلحة تابعة لمنظمة “متطوعي روسيا”، أراضي مقاطعة “بريانسك”، انطلاقًا من مقاطعة “تشيرنيهيف” الأوكرانية، وهاجمت على مدار يوم كامل قريتي “ليوبيشان” و”سوشاني”، ومن ثم انسحبت إلى داخل الأراضي الأوكرانية.

أما العملية الثانية فقد تمت أواخر شهر مايو من نفس العام، وخلالها نفذت مجموعتان تابعتان لمنظمة “متطوعي روسيا” و”فيلق الحرية الروسي”، اختراقًا للحدود الروسية، انطلاقًا من مقاطعة “خاركيف” الأوكرانية، استهدفت فيه مناطق تابعة لمقاطعة “بيلجورود”، وقد كان هذا الهجوم أوسع نطاقًا من هجوم مارس، وخلاله دخلت المجموعتان مدعومتين بالدبابات وناقلات الجند قريتي “جرايفورون” و”كوزينكا” الحدوديتين، وهاجمتا مراكز الشرطة في عدة قرى بهذا النطاق، ما أدى إلى قيام حكومة الإقليم خلال هذا الاختراق، بإصدار أوامر بإخلاء تسع قرى، وقد دام هذا الهجوم يومًا واحدًا.

من هذا المنطلق يمكن القول إن العملية الحالية يمكن النظر إليها من منظور كونها “اختراقًا مؤقتًا”، يستهدف تحقيق أهداف ميدانية وعملياتية محددة، لا يبدو أن من بينها السيطرة على الأرض – لأسباب عدة ترتبط بالموقف الميداني العام في الجبهات الأوكرانية المختلفة – ولكن هناك اختلافات جوهرية في هذا الهجوم عن الهجمات السابقة، خاصة فيما يتعلق بعديد القوات وعتادها، وأسلوب تحركها داخل الأراضي الروسية، والأهم هنا أن الوضع الميداني العام في الجبهات الأوكرانية المختلفة، كان له دور أساسي في تنفيذ كييف لهذا الهجوم.

موقف أوكراني حرج في الجبهة الشرقية

ينقسم المجهود العسكري الروسي في الجبهات الأوكرانية حاليًا إلى قسمين أساسيين: القسم الأول يقاتل في جبهة شمال شرق أوكرانيا، وتحديدًا المحاور القتالية التي تقع في مقاطعتي “خاركيف” و”سومي”، أما القسم الثاني فيقاتل على طول خطوط المواجهة في أقاليم “لوهانسك” و”دونيتسك” و”زابوروجيا” و”خيرسون”. تتركز المعارك حاليًا بشكل أساسي في المحاور القتالية بجبهات “خاركيف” و”دونيتسك”، بجانب معارك أقل زخمًا في جبهات “لوهانسك” و”زابوروجيا”، في حين تراجعت بشكل كبير حدة القتال في المناطق الشمالية الغربية من “خيرسون”، والمناطق الشمالية الشرقية من “سومي”.

ولعل النقطة الأهم في هذه المرحلة على المستوى الميداني، ترتبط بإعادة القوات الروسية منذ نحو شهرين، تنشيط الجبهة الشمالية الشرقية في مقاطعة “خاركيف”، حيث أنشأت محورين أساسيين في هذه المناطق، الأول نحو مدينة “فوفشانيسكا”، والآخر نحو مدينة “ليبتسي”، وقد حققت خلال الشهر الأول من هذا الهجوم، تقدماً كبيراً في اتجاه مدينة ليبتسي، ووصلت إلى المناطق الوسطى فيها، وسيطرت بشكل كامل على مدينة “غلوبكا” الواقعة شمال غربها، إلا أن تعزيزات أوكرانية وصلت إلى هذه المدينة خلال الأسابيع الأخيرة، أدت إلى استعادة السيطرة على كامل مناطق “ليبتسي” و”غلوبكا”. خلال الأسبوع المنصرم، استعادت القوات الروسية مدينة “غلوبكا”، وتهاجم حالياً مدينة “ليبتسي”، وكذلك مدينة “فوفشانيسكا”، وتحاول تشتيت القوات الأوكرانية المتواجدة على طول خط المواجهة، عبر إطلاق هجمات فرعية على القرى الواقعة غرب نهر “سيفري دونيسك”، مثل قرية “ستاريتسيا”، التي سيطرت عليها القوات الروسية مؤخراً، وتقع غرب مدينة “فوفشانيسكا”.

وعلى الرغم من أن الموقف الروسي في الجبهة الشمالية الشرقية بشكل عام، لا يمثل خطرًا داهمًا على القوات الأوكرانية، التي بدت أنها تمكنت من وقف الهجوم الروسي المفاجئ، إلا أن إعادة تفعيل موسكو محور خاركيف القتالي، وكذا تفعيلها لفترة وجيزة عمليات عسكرية في شرق مقاطعة “سومي” شمال خاركيف، قد طرح عدة احتمالات أساسية حول أهداف تفعيل موسكو للجبهة الشمالية الشرقية، بعد فترة طويلة من توقف العمليات فيها، وهو ما يمكن حصره في احتمالين أساسيين:

١ – إجبار القوات الأوكرانية المدافعة عن جبهات الشرق والجنوب، على سحب جزء من وحداتها القتالية، لمواجهة التهديد المستجد شمال شرق البلاد، وهو ما يخدم في المجمل، العمليات الروسية الأساسية في الجبهة الشرقية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه بين شهري مايو ويوليو 2024، تم نقل 8 ألوية أوكرانية من الجبهات الجنوبية والشرقية نحو خاركيف، خاصة من محاور مدن “تشاسيف يار” و”كوبيانسك” و”بوكروفسك” و”خيرسون” و”روبوتين”، وقد أدت عملية النقل هذه، إلى إعادة توزيع بعض الوحدات الأوكرانية، لتحل محل الوحدات المنتقلة نحو خاركيف، وهو ما تسبب في حدوث اختراقات روسية للمحاور القتالية في دونيسك، خاصة محور “توريتسك”.

2- الاحتمال الثاني يرتبط باحتمالية وجود قرار روسي بفرض منطقة عازلة تبدأ من عمق 10 كيلومترات وقد تتضاعف لتصل إلى عمق 300 كيلومتر لسحب ورقة هجمات العمق من أوكرانيا، وهذا الهدف ربما كان من الأسباب الرئيسية التي دعت كييف لبدء عمليتها الاختراقية في مقاطعة كورسك.

النقطة الميدانية الثانية المتعلقة بالجبهات الأوكرانية، ترتبط بتركيز موسكو بشكل واضح على التقدم في المحور الأساسي بالجبهة الشرقية، وهو محور إقليم دونيتسك، كأولوية أساسية في هذه المرحلة من العمليات، حيث تدور العمليات في هذا المحور، بعدة اتجاهات، تدور المعارك في هذه الجبهة في عدة محاور أساسية، تستهدف بشكل أساسي إكمال السيطرة على ما تبقى من أراضٍ في الإقليم، حيث لا تسيطر موسكو إلا على ما يناهز 60 بالمائة من مساحة المقاطعة. المحور الأول هو المحور الشمالي، الذي تستهدف فيه القوات الروسية المتقدمة من مدينة “ليستشانسك” و”سوليدار”، الوصول إلى مدينة “سيفرسك” الإستراتيجية، والسيطرة عليها، وتتم هذه المحاولات حاليًا عبر محور جنوبي شرقي سيطرت فيه القوات الروسية مؤخرًا على مدينة “إيفانوداريفكا” الواقعة جنوب شرق سيفرسك، ومحور جنوبي سيطرت فيه القوات الروسية على أجزاء من مدينة “بريزدنا”، وتحاول إكمال السيطرة عليها، لتصبح على التخوم الجنوبية لسيفرسك.

المحور الأهم في هذه الجبهة هو محور وسط دونيتسك، الذي حققت فيه القوات الروسية التقدم الأكبر في كافة جبهات القتال في أوكرانيا خلال الفترة الأخيرة. بدأت المعارك في هذا المحور منذ عدة أشهر بسيطرة القوات الروسية على مدينة “أفدييفكا” الاستراتيجية، حيث تمكنت القوات الروسية خلال الأسابيع الأخيرة من تأمين السيطرة على قطاعات واسعة في غرب أفدييفكا، في ظل محاولتها التقدم نحو مدينة “غروديفكا”، وباتت حاليًا على تماس مع نهر فوفشا، وتقاتل القوات الأوكرانية التي أقامت خطوطًا دفاعية على الضفة الشرقية والغربية لهذا النهر، وتدور المعارك بشكل أساسي في نطاق منطقتي “زيلانا” و”سيرغيفكا”، جنوب شرق غروديفكا، حيث تحاول القوات الروسية التقدم من نطاق قرية “بروغرس”، جنوبًا، لعزل ومحاصرة الخطوط الدفاعية الأوكرانية.

كيف تم الهجوم على “كورسك”؟

أعدت كييف لتنفيذ هذا الهجوم، قوة يتراوح تعدادها بين 400 و2000 جندي حسب التقديرات الروسية، تتكون من تشكيلات مصغرة تم سحبها من عدة وحدات عسكرية أوكرانية، منخرطة في العمليات القتالية الحالية في الجبهة الشرقية والجنوبية، وهي:

  • ألوية المشاة الميكانيكية المستقلة 22 و32 و88.
  • كتيبة الاستطلاع 54.
  • الألوية المحمولة جواً 80 و82.
  • اللواء الثمانين المحمول جوًا.
  • ألوية الدفاع الإقليمي المستقلة 103 و129 و105 و110.
  • لواء المدفعية المستقل 49.
  • فوج الدفاع الجوي 14، ويتضمن وحدات لتشغيل الطائرات بدون طيار تابعة لمديرية الاستخبارات الأوكرانية.

خلال الأيام التي سبقت بدء الهجوم، وكذلك بالتزامن مع تفعيل عمليات التوغل، نفذ الجيش الأوكراني جولة من عمليات القصف والاستهداف في الأراضي الروسية، حيث استهدف بالطائرات المسيرة والصواريخ، قاعدة “موروزوفسك” الجوية في منطقة “روستوف”، ومستودعات الذخائر الصاروخية في قاعدة “خالينو” الجوية بمقاطعة كورسك، وهي تبعد نحو 100 كيلومتر عن خط الحدود، أي بعد 104 كيلومترات من أوكرانيا. في السابع من أغسطس، دمرت طائرة بدون طيار، مستودع ذخيرة بالقرب من قرية “سيرجيفكا” في منطقة فورونيج الروسية، على بعد حوالي 140 كم من الجبهة.

تحركت الطلائع الأولى لهذه القوات، معززة بالدبابات وناقلات الجند، في وقت متأخر من ليل السادس من أغسطس الجاري، انطلاقًا من مقاطعة “سومي” الأوكرانية، نحو أراضي مقاطعة كورسك، على ثلاثة محاور رئيسية، الأول كان نحو مدينة “كورنيفو”، التي تقع على الطريق نحو مدينة “رايلسك”، والثاني نحو قرية “كرومسكي بايكي”، التي تقع على الطريق نحو مدينة “لاجوف”، والثالث كان في اتجاه مدينة “سودجا”، التي يوجد طريق سريع يربطها بمركز مقاطعة “كورسك”. يُضاف إلى الاتجاهات الثلاثة، اتجاهان فرعيان لم يشهدا تقدمًا كبيرًا في البداية، الأول غربًا نحو قرية “سناجوست”، والثاني نحو الجنوب الشرقي، في اتجاه “جويفو”.

يبدو من طريقة التحرك الأوكراني في هذا الهجوم، اختلافها بشكل كبير عن هجمات العام الماضي، حيث كانت التحركات الهجومية أكثر تنسيقًا مع وجود وسائط مدفعية ودفاع جوي، ووجود مركبات قتال مدرعة من نوع “برادلي” و”سترايكر”، ودبابات متنوعة، وهو ما يشير في مجمله إلى عملية أكثر تنظيمًا وجوهرية مقارنة بالغارات عبر الحدود السابقة، حيث تقدمت القوات الأوكرانية بشكل سريع في الاتجاهين الأول والثاني، وسيطرت على عدد من القرى والمناطق في الاتجاهات الثلاث الرئيسية، أهمها تخوم مدينة “كورنيفو” ومناطق “باسيفكا” و”ميرني” و”بونداريفكا” في الاتجاه الأول، بجانب أغلب مناطق مدينة “سودجا” في الاتجاه الثالث، وبشكل خاص القسم الغربي منها، ووصلت إلى قرية “مارتينوفكا” الواقعة شمالها. وقد حققت القوات المهاجمة التوغل الأكبر في هذا الهجوم، في الاتجاه الثاني، حيث وصلت إلى منطقة “كازاشيا لوكنيا”، التي تبعد نحو 26 كيلو مترًا عن خط الحدود.

الموقف الحالي في هجوم “كورسك”

حسب آخر تحديث اليوم للموقف الميداني في كورسك، باتت القوات الأوكرانية متواجدة على نطاق تتراوح مساحته بين 450 و550 كيلو متر مربع، تضمنت سيطرة أوكرانيا على نحو 27 قرية وموقع، وتتسارع عمليات التقدم الأوكرانية على طول محاور القتال الرئيسية، وهما محورين شمالاً باتجاه “لاجوف” و”رايلسك”، ومحور جنوبي يستهدف التحرك في اتجاه المناطق الشمالية لمدينة “سودجا”، وقد أضيف لهذه المحاور، تقدم بدأ في اليوم الرابع للعملية الأوكرانية، على محورين إضافيين، الأول جنوباً باتجاه المناطق الجنوبية الشرقية لمدينة سودجا”، تم فيه السيطرة على قرية “بليخوفو”، والثاني نحو الشمال الغربي، وتم فيه السيطرة على مدينة “سناغوست”.

على المستوى العملياتي، يبدو أن القوات الأوكرانية تحاول التقدم شمالًا لقطع قسم من الطريق السريع الرابط بين مدينتي “لاجوف” و”رايلسك”، والذي يصل بعد ذلك إلى مركز مقاطعة “كورسك”، ويمر بالقرب من المحطة النووية في المقاطعة، وبالتالي سيسمح الوصول لهذا الطريق، بعزل المناطق الجنوبية للمقاطعة، عن أي تعزيزات روسية قادمة نحو المناطق التي تم اختراقها، وسيكون نجاح القوات الأوكرانية في “إطالة” أمد هجومها، رهنا بتحقيق هذا الهدف، علمًا أن الوحدات العسكرية الروسية قد بدأت – ولو بشكل متأخر – في محاولة استيعاب الهجوم الأوكراني المباغت.

من حيث الشكل، يمكن القول إن هذا الهجوم لا يستهدف بأي حال من الأحوال، الاحتلال الدائم لمناطق في الداخل الروسي، بل يستهدف خلق بؤر قتال جديدة، تشتت المجهود العسكري الروسي، الذي يركز في الوقت الحالي على التقدم بشكل سريع في إقليم دونيسك، وتحديدًا وسط الإقليم. من هذا المنطلق لا يتوقع أن يستمر الهجوم الأوكراني على كورسك أو يتطور بشكل أكبر من الوضع الحالي، لأن الوحدات المهاجمة ستواجه معضلة أساسية ترتبط بطول خطوط إمدادها مع توغلها بشكل أكبر في الأراضي الروسية، ولمعالجة هذا، ستحتاج أوكرانيا إلى توسيع نطاق التوغل، وهو ما قد يبطئ وتيرة تقدمها بسبب الموارد المحدودة والألوية المتاحة، وسيجعل الوحدات المقاتلة مكشوفة للتعزيزات الروسية القادمة.

يضاف إلى هذا مسألة التعامل مع التفوق الجوي الروسي، فعلى الرغم من تمكن الوحدات المهاجمة من إسقاط مروحية هجومية روسية من نوع “كا-52″، إلا أن دخول المقاتلات الروسية والطائرات بدون طيار على خط العمليات، يترك أوكرانيا أمام خيار صعب، إما إعادة تموضع وحدات الدفاع الجوي قرب الحدود الروسية أو حتى داخل الأراضي المسيطر عليها في كورسك، أو ترك قواتها المتقدمة بدون غطاء دفاع جوي مناسب، وهو ما ينطوي في كلا الحالتين على مخاطر كبيرة. أيضًا يجب الوضع في الاعتبار أن الوحدات الأوكرانية المقاتلة في الجبهة الجنوبية والشرقية، وبشكل محدد القوات الموجودة في جبهة وسط دونيسك، تواجه موقفًا ميدانيًا صعبًا، يجعل من هجوم كورسك، إما بمثابة خطوة استراتيجية لتعديل الشكل الحالي للعمليات القتالية، أو بمثابة خطأ استراتيجي تفقد كييف بموجبه قوات مهمة في مثل هذا التوقيت الحرج.

ما هي الأهداف الأوكرانية من “الخطوة الأخطر” على الأراضي الروسية؟

إلحاق خسائر نوعية متعددة الاتجاهات بروسيا: دأبت كييف منذ فترة على الاستهداف المكثف لمصافي النفط والمنشآت النفطية في المقاطعات الحدودية الروسية، مما تسبب في خسائر متزايدة في القطاع النفطي الروسي. وفي هذا الإطار، ركز الهجوم الأوكراني على السيطرة على مدينة “سودجا”، التي تُعتبر نقطة لوجستية حاسمة في هذا الصدد، حيث تقع بالقرب من خط سكة حديد يستخدمه الروس لتزويد جبهتهم في إقليم “خاركيف” الشمالية. وتتضمن المدينة مرافق نفطية أساسية، منها محطة قياس الغاز التابعة لآخر خط أنابيب ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا. وبالتالي، شكلت سيطرة كييف على هذه المدينة ضربة إضافية للقطاع الاقتصادي الروسي، تُضاف إلى ما سبق من إجراءات.

يُضاف إلى ذلك، احتمالية تمكن القوات الأوكرانية المتقدمة في المحور الشمالي الشرقي لمنطقة عملياتها في كورسك من الوصول إلى المفاعل النووي الموجود شرق مدينة “لاجوف”، على بعد نحو 60 كيلو مترًا من الحدود. ولكن هناك صعوبات ميدانية قد تحول دون تحقيق هذا الهدف.

إغلاق الباب امام تفعيل موسكو جبهة “سومي”: كان الجيش الروسي قد بدأ أوائل الشهر الماضي عمليات قتالية في اتجاه المناطق الشمالية من مقاطعة “سومي” الأوكرانية، المتاخمة لمقاطعة كورسك، وقد استوعبت كييف هذه الهجمات وأوقفت التحركات الروسية في هذه الجبهة، لكن أثارت العمليات العسكرية الروسية المستمرة في المقاطعة المجاورة لسومي “خاركيف”، مخاوف أوكرانية من أن تعمل موسكو على توسيع نطاق الجبهة لتشمل مقاطعتي “سومي” و”تشرنيهيف”، لتشكل ما يشبه “منطقة عازلة”، تبعد القوات الأوكرانية عن خط الحدود الروسية، بمسافة كافية لإبعاد خطر صواريخ “ATACMS“. من هنا يمكن النظر إلى عملية كورسك، كوسيلة للحفاظ على هذه الورقة من جانب كييف، والحيلولة دون تنفيذ موسكو أي عمليات في هذه الجبهة. تشير بعض الآراء إلى أن هذا الهجوم يستهدف أيضًا دفع موسكو لسحب بعض وحداتها المقاتلة من خاركيف، لتعمل على استيعاب الهجوم الأوكراني في كورسك، لكن لا توجد دلائل واضحة على حدوث هذا حتى الآن، وكل ما تم تأكيده حتى الآن، هو سحب موسكو بعض الوحدات المتمركزة بالقرب من مدينة سيفيرسك في إقليم دونيتسك، وإرسالها لتعزيز الموقف في كورسك.

مباغتة موسكو وضرب المعنويات الروسية: عملت كييف على مدار الفترات الماضية على استهداف الأراضي الروسية وشبه جزيرة القرم عبر الطائرات المسيرة وصواريخ “ATACMS“، بشكل مكثف يستهدف من ضمن أهداف أخرى ضرب المعنويات الروسية والجبهة الداخلية، خاصة أن هذه الهجمات باتت تشمل مؤخرًا قطاعًا مهمًا من المناطق الحدودية الروسية مع أوكرانيا، وهو ما ينقل المعركة – بشكل أو بآخر – إلى الجانب الروسي. من هذا المنطلق كان تأثير عنصر “المباغتة” على الجيش الروسي واضحًا في هذا الهجوم، حيث لم تتمكن القوات الروسية من الإلمام بحقيقة الوضع الميداني في كورسك إلا بعد يومين كاملين، وشرعت في عمليات إخلاء غير منظمة لمعظم القرى الواقعة في منطقة الانتشار الأوكرانية، وهذا كله يمكن وضعه إلى جانب حقيقة أن موسكو قد أساءت قراءة الاستعدادات الأوكرانية لهذا الهجوم، رغم امتلاكها قدرات واسعة النطاق في مجال الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع على الخطوط الأمامية وحتى في عمق الأراضي الأوكرانية، وهو ما يثير شكوكًا وأسئلة في الداخل الروسي.

رسالة إلى واشنطن والناتو: من حيث المبدأ، تم تنفيذ عملية الهجوم على كورسك، باستخدام تشكيلة من الأسلحة والمنظومات القتالية غربية وشرقية المنشأ، ولكن رغم هذا يمكن القول إن هذا الهجوم ومجرياته، يعد بمثابة رسالة أوكرانية لكل من واشنطن والناتو، للتدليل على أهمية الدعم العسكري الأخير الذي تم تقديمه لكييف، وإيجابية النتائج التي بدأت القوات الأوكرانية في تحقيقها على الأرض. يضاف إلى ذلك أن هذه العملية تعتبر محاولة لوقف موجة بدأت في الانتشار في بعض الأوساط الأوروبية، تروج لإمكانية القبول بالتنازل عن بعض الأراضي الأوكرانية التي سيطرت عليها موسكو، مقابل وقف العمليات القتالية، كما أن مجريات هذه العملية، تعتبر إثباتًا ميدانيًا على أن رد الفعل الروسي على عمليات استهداف أراضيها، سواء عبر الصواريخ أو عبر العمليات العابرة للحدود، لن يسفر عن ردود الفعل “العنيفة” التي تروج لها موسكو في تصريحاتها.

الضغط على موسكو نحو التسوية: في عدة مناسبات سابقة، ألمح الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي إلى أنه كلما زاد الضغط على روسيا، كلما اقترب الطريق إلى السلام. بالتالي تمثل هذه العملية، وما يرتبط بها من تأثيرات، ضغطًا إضافيًا على موسكو للقبول بفتح نافذة للتفاوض، خاصة أن العمليات العسكرية الأوكرانية في كورسك تضمنت حتى الآن القبض على ما يصل إلى 100 جندي روسي. وقد أثارت اللقطات التي تُظهر عملية اعتقالهم والتحقيق معهم ردود فعل في المجتمع الروسي، الذي يعد أكثر حساسية بشكل عام لهذه المشاهد. يُضاف إلى ذلك وجود احتمالية – في حالة تمكن القوات الأوكرانية من الحفاظ على مواقعها في كورسك – أن تفرض كييف على موسكو ما يشبه “مقايضة”، تسمح بتخفيف التشدد الروسي حيال مسألة ضرورة اعتراف كييف بعملية ضم الاتحاد الروسي الأقاليم الأوكرانية الأربعة، أو طرح المسألة كـ “عملية تبادل للأراضي”، تنسحب أوكرانيا خلالها من الأراضي الروسية، مقابل انسحاب موسكو من أراضي أوكرانية محتلة، وهو سيناريو تبقى احتمالات تحققه ضعيفة، بالنظر إلى التحديات الكبيرة التي تواجه القوات الأوكرانية على الأراضي الروسية.

هذه التحديات لم تظهر حتى الآن بشكل جلي، بسبب أن القوات الروسية مازالت مُصرة على عدم سحب وحدات مقاتلة من الجبهات الأوكرانية، لمواجهة الاختراق الأوكراني، وتُفضل أن تقوم باستخدام الاحتياطيات المتواجدة في نطاق كورسك وخاركيف، وإن كانت هذه العملية تحتاج إلى وقت لتنظيمها، وهو ما يستفيد منه حاليًا الجيش الأوكراني، لكن لن يستمر هذا لوقت طويل. يُضاف إلى ذلك أن تحدي الحفاظ على زخم التقدم على الأرض بالنسبة للجيش الأوكراني، يبقى تحديًا كبيرًا، في ظل تزايد طول خطوط الإمداد، والعمل في ظل ظروف ميدانية تحتفظ موسكو فيها بالتفوق الجوي، حيث ستحتاج القوات الأوكرانية المتدفقة نحو الأراضي الروسية، لتخصيص وحدات لحفظ أمن الممرين الأساسيين لدخولها من أوكرانيا إلى روسيا، وفي نفس الوقت تخصيص وحدات أخرى للتمركز في المناطق التي يتم دخولها، وهو ما يقلص بشكل كبير من إجمالي القوة البشرية التي ستستمر في التقدم على الأرض.

في الخلاصة، يمكن القول إن الهجوم الأوكراني على كورسك لا يحمل أفقًا مستدامًا، ولكنه يعتبر تدشينًا لمرحلة جديدة من عمليات استهداف العمق الروسي، قد يتم فيها استخدام وسائط مختلفة، ما بين الطائرات المسيرة والصواريخ المطلقة من مقاتلات “أف-16″، وعمليات التوغل في الأراضي الروسية، وهذه الأخيرة ستفرض على موسكو اتخاذ إجراءات مشددة على الحدود، ستستهلك موارد بشرية ومادية كبيرة. النقطة الأهم هنا هي أن الموقف الميداني الأوكراني في الجبهة الشرقية بالدونباس يبدو متراجعًا وحرجًا، وبالتالي إذا لم تتزامن هذه الاستراتيجية الجديدة مع تغير في التكتيكات الميدانية الأوكرانية، فإن عملية كورسك لن تعد سوى شكل جديد من أشكال استهداف العمق الروسي، دون تحقيق فائدة تكتيكية معتبرة.

رد الفعل الروسي ربما سيركز بشكل أساسي حاليًا على معالجة الاختراق الأوكراني الحالي، لكنه بالتأكيد سيفكر في الأوضاع المستقبلية لخط الحدود الروسية مع مقاطعتي سومي وتشرنيهيف، وهما آخر المقاطعات التي تتماس مع الأراضي الروسية، وربما تفكر موسكو في إعادة تفعيل محور “شمال كييف” القتالي، وربما توجد مؤشرات على إمكانية حدوث ذلك، من بينها قيام وحدات الخدمة الخاصة في بيلاروسيا، بفرض إجراءات أمنية خاصة على طول المقاطعات المحاذية لأوكرانيا.

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى