أول قمة روسية-أفريقية في سياق المتغيرات الدولية
يشهد تاريخ العلاقات الروسية الأفريقية تحولا جديدا مع انعقاد أول قمة تجمع الجانبين، برئاسة الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، والرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الاتحاد الأفريقي من المقرر أن تستضيفها مدينة “سوتشي” الروسية في الرابع والعشرين من أكتوبر الجاري.
وستركز القمة على مناقشة القضايا محل الاهتمام، وسبل مواجهة التحديات والتهديدات المتلاحقة، علاوة على تعزيز سبل التعاون والشراكات الاقتصادية بينهما، فيما يسبق القمة افتتاح المنتدى الاقتصادي برئاسة الرئيسين السيسي وبوتين في الثالث والعشرين من أكتوبر أي قبيل انعقاد القمة بيوم واحد بمشاركة ممثلي كبرى الشركات، بجانب بعض المسئولين الروس والأفارقة.
وكان بوتين قد طرح مبادرة عقد القمة على مستوى قادة الدول إبان قمة “بريكس” التي انعقدت في جوهانسبرج بجمهورية جنوب أفريقيا في يوليو 2018، وشارك فيها قادة الدول الأفريقية، قائلًا “أود أن أبلغكم بأننا ندرس فكرة عقد قمة روسية-أفريقية بمشاركة رؤساء الدول الأفريقية. ويمكن أن يسبق ذلك اجتماعات لرجال الأعمال البارزين وخبراء السياسة والشخصيات العامة. وأعتزم مناقشة هذا الأمر مع ممثلي البلدان الأفريقية”.
أفريقيا في العقيدة الروسية
استند الاتحاد السوفيتي في توجهاته نحو أفريقيا على البعد الأيدلوجي، والتعاون العسكري وخاصة مع الدول التي تحررت من الاستعمار الغربي، إلا أن انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 أجبر الكرملين على التراجع بشكل تدريجي عن التعاون المشترك مع دول القارة، دون الانسحاب منها. ونتيجة للمتغيرات المتلاحقة التي شهدتها الدولة الروسية عادت أفريقيا إلى أولويات السياسة الخارجية، بدافع توثيق التعاون الاقتصادي وليس الأيدلوجي.
وتبنت القيادة السياسية الروسية توجهات خارجية تجاه أفريقيا من خلال طرح تصورات مغايرة لأفريقيا في استراتيجيتها الخارجية، وفقا لعدد من القيم والأولويات الوطنية في بداية القرن الـ 21، بدأت روسيا في إقامة علاقات وثيقة مع أنجولا، فضلا عن زيادة عدد الزيارات المتبادلة بين الجانبين تجلت في عام 2001؛ حيث زار رؤساء الجزائر، جابون ، غينيا ،مصر ، نيجيريا ورئيس وزراء إثيوبيا موسكو.
في المقابل زار “بوتين” كلا من جنوب إفريقيا ، مصر ، الجزائر والمغرب سبتمبر 2006. وكانت هذه الزيارات الأولى من نوعها وحملت في طياتها رسالة مفتوحة إلى العالم معلنة أن روسيا تعود إلى المنطقة التي كانت تتمتع فيها تقليديا بمصالح جيوسياسية، وتقوم روسيا بذلك بطريقة جديدة نوعيا. وكانت من أهم الدول التي انطلقت منها موسكو نحو القارة هي دولة جنوب إفريقيا.
وفي مفهوم السياسة الخارجية لعام 2008 الذي وقعه الرئيس الروسي السابق “ديمتري ميدفيديف”، احتلت أفريقيا المركز التاسع تليها أمريكا اللاتينية، في قائمة المناطق العشر الأكثر أهمية للمصالح الروسية. ومع تنامي الاهتمام بأفريقيا في مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي، الذي وقعه الرئيس فلاديمير بوتين في 30 ديسمبر 2016، وكما هو الحال في الإصدار السابق من عام 2013؛ حيث كرر المفهوم بشكل أساسي الوعود السابقة بالإعلان أن “روسيا سوف توسع العلاقات مع الدول الأفريقية على كافة الأصعدة بشكل ثنائي، ومتعدد الأطراف عبر تحسين الحوار السياسي، وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية متبادلة، وتكثيف التعاون الشامل الذي يخدم المصالح المشتركة، بجانب المساهمة لمنع النزاعات الإقليمية وحالات الأزمات، وتعزيز علاقات الشراكة مع الاتحاد الأفريقي”.
وتم تأكيد هذا التوجه في وثيقة “الاتحاد الروسي للأمن القومي الروسي حتى عام 2020″؛ حيث تنص النسخة الجديدة منها، التي وافق عليها الرئيس “بوتين” في 31 ديسمبر 2015، على أن “الاتحاد الروسي يطور تعاونا سياسيا وتجاريا واقتصاديًا وعسكريًا وأمنيًا وتقنيًا، وكذلك الاتصالات الإنسانية والتعليمية مع الدول الأفريقية والمنظمات الإقليمية لهذه الدول”. وعليه تُظهر مقاربة جديدة لأفريقيا مع الوضع المتغير وتمثال روسيا في النظام الدولي كقوة صاعدة مرة أخرى بعد الأزمة الأوكرانية والسورية. وعليه فقد تجلى الاهتمام في عقد القمة المقبلة.
دوافع التحرك الروسي تجاه أفريقيا
تعد الدولة الروسية من الدول الفاعلة في النظام العالمي التي استطاعت استعادة مكانتها، في مناطق نفوذها فضلا عن قدراتها على إعادة التمركز والانتشار الذي دفعها إلى إحياء علاقاتها القديمة مع الدول الأفريقية من خلال طرح مبادرات خاصة بالتعاون في مجالات محددة مع دول القارة ستوفر للجانبين منافع متبادلة وهما التعاون الاقتصادي خاصة فيما يتعلق بإدارة الموارد الطبيعية. بجانب توثيق التعاون الأمني والعسكري.
ويرجع ذلك لعدد من الدوافع تتجلى أبرزها في توثيق العلاقات؛ حيث ترغب موسكو في تعزيز علاقاتها مع الدول الأفريقية على كافة الأصعدة من خلال إحياء الحوارات والنقاشات المتبادلة بين الجانبين لبحث سبل التعاون المستقبلي بما يتوافق مع مصالحهم الوطنية، وذلك في سياق الاهتمام الروسي بإعادة التمركز والانتشار في القارة الأفريقية، بالتزامن مع تنامي الدور الأفريقي في العديد من الملفات الدولية والإقليمية.
كما ترغب موسكو في استعادة المكانة؛ عن طريق المشاركة في حل المشكلات الدولية في القارة من أجل إنشاء نظام عالمي متعدد الأقطاب. لذا لابد عليها من طرح استراتيجية للتعاون تساهم في تحقيق مصالحهم الوطنية.
ومن بين داوفع التحرك الروسي تجاه افريقيا أيضا مواجهة الصعود الصيني؛ حيث غابت موسكو عن دول القارة ما يقرب من عقدين مقارنة بالصين التي وظفت ذلك لصالحها من خلال استثماراتها الضخمة في مشاريع البنية التحتية، لذا تسعى القيادة السياسية الروسية في توازن علاقاتها معها مع الصين خارج النطاق الآسيوي، بالرغم من توافقهم حول مواجهات الضغوط الأميركية. الأهم هو ألا تعتمد المنافسة على أساليب القوة، وألا تتناقض مع مبادئ رأسمالية السوق، أو تكون سياسية مفتعلة.
وجاء التحرك الروسي أيضا لفتح أسواق للطاقة؛ وترغب القيادة السياسة في زيادة التعاون في مجالات استكشاف المعادن وإنتاجها، وتعزيز مكانتها في سوق الهيدروكربونات العالمية. وذلك لمواجهة التحديات الاقتصادية التي تمر بها موسكو، علاوة على تشابه الاقتصاد الروسي مع اقتصاديات بعض الدول الأفريقية مثل نيجيريا أو جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تعتمد على تصدير الموارد الطبيعية.
ولم يكن ذلك فقط ما دعا روسيا نحو التحرك تجاه افريقيا انما مثلت القارة مصدرا من مصادر الموارد الطبيعة التي تحاول موسكو زيادة استثماراتها فيها، وستوفر فرص للتعاون المشترك في المستقبل. وبالفعل فهناك العديد من الشركات الروسية تعمل حاليًا في الألومنيوم، المنجنيز، والصناعات الماس. كما تتجلى أهميتها في تلبية احتياجات موسكو من بعض السلع والمنتجات مثل المطاط والمنتجات البحرية والأسماك والكاكاو، القهوة والشاي.
ويأتي الترويج للصناعات النووية من أبرز أسباب التحرك الروسي حيث تعد الطاقة النووية، وامتلاك تكنولوجيا بناء المفاعلات من أهم آليات التحرك الروسي التي تساهم في تعزيز مكانتها الدولية، كما تدعم اقتصادها الوطني. وعليه تدفع موسكو إلى زيادة التعاون النووي مع الدول الأفريقية التي بلغت 20 دولة حول الاستخدام السلمي للطاقة الذرية. فمع مصر، هناك عقد لبناء محطة طاقة نووية باستثمار رأسمال قدره 29 مليار دولار.
وأخيرا جاء زيادة التعاون العسكري ليدفع بروسيا نحو افريقيا؛ حيث تدرك روسيا أن الدول الغربية مترددة في الانخراط عسكريا في مناطق الصراع في أفريقيا، كما أن التدخلات الفرنسية في مالي وفي وسط إفريقيا تم تنفيذها بعد أن فوض مجلس الأمن الدولي باريس للقيام بذلك، مع موافقة ودعوة البلدان المعنية. لذا تسعى موسكو إلى الاستفادة من عملية التعاون العسكري من أجل تعزيز صناعة الأسلحة الخاصة بها. وفقًا لدراسة بحثية أجراها مركز أبحاث بريطاني Chatham House، عام 2017 فإن 3% من صادرات الأسلحة الروسية العالمية إلى توجه نحو أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى (بين عامي 2010 و2015). كما شاركت في عمليات حفظ السلام التي تدعمها الأمم المتحدة في جمهورية الكونغو الديمقراطية والصحراء الغربية وسيراليون وإثيوبيا وإريتريا وساحل العاج وليبيريا والسودان.
وإجمالاً؛ تسعى القيادة السياسية الروسية إلى إعادة التمركز والانتشار داخل دول القارة الأفريقية بما يتوافق مع مصالحها الوطنية، فضلا عن توظيف العلاقات غير المستقرة ما بين بعض دول الأفريقية والغرب لصالح زيادة نفوذ عبر تعزيز التعاون معهم.