بناء الثقة: مؤتمر القوى السياسية والمدنية السودانية بالقاهرة
في ضوء الدعوة التي قدمتها وزارة الخارجية المصرية في أواخر مايو الماضي، استضافت العاصمة الإدارية مؤتمرًا للقوى السياسية والمدنية السودانية، تحت شعار “معًا لوقف الحرب في السودان”، يومي السادس والسابع من يوليو الجاري، كجزء من الجهود الجارية لتوحيد رؤية القوى المدنية وبحث سبل إنهاء الأزمة.
ومع مساعي بلورة صيغة توافقية للحوار والوساطة التي من شأنها إنهاء الحرب، بما يتضمنه من تشكيل حكومة مدنية وعقد حوار وطني شامل، يضع التصورات الحاكمة لعملية الانتقال السياسي، استضافت مصر القوى المدنية، خلال الأشهر الماضية، خلال الجولات الإقليمية والخارجية التي أجرتها من أجل توضيح المواقف وبناء موقف موحد داعم لعملية وقف الحرب.
وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها الجمع بين الكتلتين الأبرز للقوى المدنية السودانية (تنسيقية تقدم، الكتلة الديمقراطية)، في مسعى لتشكيل جبهة مدنية موحدة، تُشكل الحاضنة السياسية والشريك الضامن لاستدامة الترتيبات السياسية والتوافقات المستقبلية، كخطوة تالية على وقف الحرب وتيسير إيصال المساعدات الإنسانية.
مؤتمر القوى السياسية السودانية
انطلقت أعمال مؤتمر القوى السياسية المدنية السودانية، في العاصمة الإدارية بالقاهرة، بمشاركة ممثلي كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، وممثلي الدول الشريكة، وبمشاركة ممثلي الأطياف المدنية السودانية المختلفة التي تصل إلى 50 قيادة سياسية سودانية؛ في خطوة لفتح قناة اتصال مباشر بين مختلف الأطياف، دعمًا للحوار الوطني السوداني – السوداني، بما يضمن بناء رؤية سودانية موحدة حول سبل إنهاء الأزمة التي تعاني منها السودان.
وتأتي تلك الخطوة في ضوء تبلور قناعة لدى كافة الوسطاء والشركاء تتصل بضرورة توحيد القوى المدنية وخلق منصة مدنية موحدة، تمثل الضمانة لمساعي وقف الحرب وتيسير وصول المساعدات الإنسانية وأخيرًا المضي نحو بناء سلام مستدام.
وقد تشكلت هذه القناعة في وقت مبكر من انطلاق التفاوض بين الأطراف العسكرية في مباحثات جدة وما تبعها من مبادرات إقليمية متعددة للوساطة بهدف إنهاء الحرب، إذ لم تضمن الأجندة المبكرة للحوار، والتي اقتصرت على وقف إطلاق النار وتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية، في خلق تدخلات مستدامة لحل الأزمة، مما دفع للبحث عن توسعة القاعدة التفاوضية، وإشراك الفواعل المدنية، بهدف صياغة رؤى وتوافقات مستدامة. ويأتي انعقاد هذا المؤتمر في ضوء عدد من المحددات، التي يمكن إيرادها على النحو التالي:
- جهود توحيد الجهود المدنية
بدأت القوى المدنية في إعادة التموضع في المعادلة الصراعية السودانية، بعد وقت وجيز من اندلاع الصراع، وبقاء الجميع على الحياد للوهلة الأولى، حتى تشكلت ملامح السياق الدافع للجميع بضرورة اتخاذ مواقف بناءة من الأزمة، مما دفع القوى المدنية التي كانت منقسمة إلى جبهتين قبل اندلاع الصراع لإعادة بلورة موقفها بما يضمن في النهاية صياغة رؤيتها لحل الأزمة.
وقد بدأت القوى المدنية ” قوى الحرية والتغيير” أولى جولاتها الخارجية في الثالث من يونيو 2023، في جولة إقليمية بدأت من أوغندا وانتهت بالقاهرة يومي 24 و25 يوليو 2023، والتي أشارت الأخبار حينها عن التقاء نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار مع ممثلي الوفد، مما يعد أول إشارة للتواصل بين ممثلي الحرية والتغيير- المجلس المركزي، والتي أعادت توحيد جهودها تحت مظلة “الجبهة المدنية لوقف الحرب واستعادة الديمقراطية- تقدم”، وبين القوى المدنية المنطوية تحت مظلة الكتلة الديمقراطية، وقد وعدت قوى الحرية والتغيير حينها بالانفتاح والتواصل مع مختلف القوى المدنية التي لم تشارك في الاتفاق الإطاري.
واستمرت التحركات الإقليمية لقوى الحرية والتغيير من جهة وقوى الجبهة الثورية والكتلة الديمقراطية من جهة أخرى في مختلف العواصم الإقليمية، والتي كانت العاصمة الإثيوبية من أبرزها كمنصة انطلاق للكتلة الديمقراطية وقوى الحرية في الثامن والرابع عشر من أغسطس 2023 على التوالي.
وتكرر اجتماع الحرية والتغيير في أديس أبابا في 17 سبتمبر لمناقشة توحيد الجبهة المدنية، إلى أن اجتمعت للمرة الأولى بمشاركة رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك في 23 أكتوبر 2023، في أديس أبابا لبحث تشكيل جبهة مدنية عريضة تحت مسمى تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية ” تقدم”. وأعقبها اجتماعات لقوى الحرية والتغيير بالعاصمة المصرية القاهرة استمرت لأربعة أيام ( 15 -18 نوفمبر 2023)، لمناقشة الرؤية التنظيمية وإيقاف الحرب في السودان والقضايا الاقتصادية والإعلامية.
ومنذ ذلك الحين، أجرت جبهة “تقدم” اتصالات موسعة على كافة المستويات الداخلية والخارجية، بما في ذلك كافة الأطراف والفواعل الداخلية، بما في ذلك التواصل مع قائد الدعم السريع ” حميدتي” في الأول من يناير الماضي، وهو اللقاء الذي خرج عنه ” إعلان أديس أبابا”، وأعقب ذلك التواصل مع كل من عبد العزيز الحلو وعبد الواحد نور، والمشاركة في قمة الاتحاد الأفريقي فبراير 2024، وقمة الإيجاد التي ناقشت الأزمة في السودان في أوغندا في 18 يناير 2024، إلى أن تم عقد المؤتمر التأسيسي للجبهة في الفترة من 26 حتى 30 مايو 2024 في أديس أبابا، والذي شهد حضورًا موسعًا لمختلف القوى المدنية، وناقش رؤية الجبهة في قضايا التفاوض.
على الجانب الآخر، أجرت الكتلة الديمقراطية عددًا من اللقاءات والجولات الإقليمية لإعادة صياغة وتوحيد موقفها هي الأخرى، خصوصًا مع تشكل ملامح الاصطفاف بين الجبهتين لأي من روايات الأطراف المتحاربة، إذ أجرت الكتلة الديمقراطية جولة إلى إريتريا في 10 سبتمبر 2023، وخرج عن هذا الاجتماع “إعلان أسمرا”، على فترة انتقالية من عامين أعلى هرمها مجلس سيادي من 5 مدنيين و4 عسكريين يمثلون أقاليم البلاد على أن يترأس مجلس السيادة القائد العام للجيش.
وقد استضافت مصر الكتلة الديمقراطية في الفترة من 5 حتى 8 مايو 2024، التي انعقد فيها المؤتمر العام الثاني للكتلة الديمقراطية، تحت شعار “تحرير الإرادة الوطنية وتوطين الحل السوداني”، لمناقشة الرؤية السياسية والهياكل التنظيمية واللوائح الحاكمة للكتلة، كجزء من إعادة بلورة الكتلة في خطوات موازية لتلك التي تقوم بها كتلة “تقدم”.
كذلك استضافت جامعة الدول العربية اجتماعًا إقليميًا عربيًا تشاوريًا في القاهرة يوم الأربعاء 12 يونيو بمشاركة ممثلين عن الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيجاد) والأمم المتحدة إلى جانب البحرين بصفتها رئيسة القمة العربية وجيبوتي بصفتها رئيسة الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية وموريتانيا بصفتها رئيسة الاتحاد الأفريقي ومصر الراعية لمبادرة دول الجوار والسعودية والولايات المتحدة راعيتا محادثات جدة. واستهدف الاجتماع مناقشة سبل تنسيق الجهود الرامية لاستعادة السلم والاستقرار في السودان مع تفاقم الأزمة التي تفرض ضرورة معالجتها.
ومن المفترض أن يعقب مؤتمر القاهرة عقد اجتماع تحضيري آخر للقوى المدنية برعاية الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا محدد عقده في منتصف الشهر الجاري كجزء من جهود دبلوماسية يقودها الاتحاد تتضمن خارطة الطريق التي حددها في وقت مبكر من الأزمة وكذلك تشكيل لجنة رفيعة المستوى للعمل على الأزمة السودانية.
- سياق داعم لاستئناف التفاوض
مع تعطل المفاوضات بين وفدي طرفي الصراع برعاية سعودية أمريكية، في إطار مباحثات جدة، التي توقفت الجولة الثانية منها في الثالث من ديسمبر 2023، لم يُعقد أي لقاء مباشر بين ممثلي الجيش السوداني والدعم السريع، رغم المحاولات الحثيثة لعقد لقاء مباشر بين كل من “البرهان” و”حميدتي”، والتي يقوم بها ممثلو منظمة “الإيجاد” بشكل رئيسي، رغم ما أحاط بذلك الهدف من عراقيل عطلت في نهاية الأمر إمكانية حلحلة الجمود الذي أصاب المسار التفاوضي.
ومنذ تعطل المفاوضات، بُذلت العديد من الجهود الإقليمية والدولية، منها تلك المباحثات التي عُقدت آخر جلساتها في المنامة في 20 يناير 2024، بين ممثل عن الجيش وآخر عن الدعم السريع، وكذلك تعيين المبعوث الأمريكي للسودان توم بيرييلو في 26 فبراير الماضي، في انعكاس لرفع مستوى الانخراط الأمريكي في جهود التفاوض، بعد تعثر مسار جدة.
ورغم ما أحاط مسار الإيجاد من جدل وصل إلى حد إعلان السودان تجميد عضويته في المنظمة في 20 يناير 2024 بعد يومين من عقد قمة كمبالا التي لم يشارك بها الوفد الحكومي السوداني، إلا إن كافة الجهود الإقليمية والدولية تسعى لبلورة مسار للوساطة يضم كافة الشركاء المنخرطين، بما في ذلك الإيجاد، التي قامت بتعيين الجنوب سوداني، السفير لورانس كوباندي مبعوثًا خاصًا للسودان، وجاء هذا التصعيد في أعقاب جدل متكرر، بما في ذلك إرجاء اللقاء الذي كانت ترعاه المنظمة بين “البرهان” و”حميدتي” في 28 ديسمبر 2023، ولقاء الأخير بالقوى المدنية في أديس أبابا في مطلع يناير من العام الجاري، وتوقيع إعلان أديس أبابا، وما تبعه من تنظيم القمة الاستثنائية في كمبالا في الثامن عشر من ذات الشهر، دون حضور الوفد الحكومي.
واستمرت رغم العراقيل التي واجهت مسار الإيجاد، المساعي الإقليمية الأخرى لاستئناف مسار جدة مرة أخرى، ومن أبرز تلك المساعي، الجولات الإقليمية المتكررة للمبعوث الأمريكي بيرييلو، الذي أجرى أول جولة إقليمية له في 12 مارس الماضي، لسبع دول عربية وأفريقية (السعودية والإمارات ومصر وجيبوتي وإثيوبيا وكينيا وأوغندا)، وتكررت جولة المبعوث الأمريكي مرة أخرى في منتصف مايو الماضي، التي زار خلالها (السعودية، مصر، كينيا، أوغندا)، في محاولة للدفع باستئناف عقد المفاوضات مرة أخرى، في ظل ما يشهده السياق الميداني والإنساني من تعقيد.
الجهود الدبلوماسية المصرية المتواصلة
جاء انعقاد هذا المؤتمر وفقًا للدعوة التي وجهتها وزارة الخارجية المصرية للقوى السودانية في أواخر مايو الماضي، في سياق المساعي الإقليمية المتعددة لحشد وتوحيد القوى المدنية. وكانت هناك جهود مصرية في هذا الصدد:
- قمة دول الجوار
استضافت مصر في 13 يونيو 2023، قمة دول جوار السودان، في سياق المساعي الإقليمية المتعددة والرامية نحو إنهاء الأزمة، والتي كانت مباحثات الإيجاد برعاية سعودية أمريكية في مقدمتها، والتي تبعها مبادرة صادرة من منظمة الإيجاد، فضلًا عن خارطة الطريق الصادرة عن الاتحاد الأفريقي، علاوة على الأدوار الدبلوماسية للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية.
ومع تركيز مباحثات جدة في وقتٍ مبكر على مسار وقف إطلاق النار، وتركيز الإيجاد على عقد لقاء مباشر بين قادة طرفي الصراع الممثلين في “البرهان” و”حميدتي”، جاءت مخرجات قمة دول الجوار متضمنة إشراك القوى السياسية السودانية في مبادرات التسوية، من خلال إفراد مساحة للحوار بين القوى المدنية، من خلال إطلاق حوار جامع للأطراف السودانية يهدف لبدء عملية سياسية شاملة.
- التواصل مع القوى المدنية
كانت هناك قنوات اتصال مفتوحة مع القوى المدنية السودانية في وقت مبكر من الأزمة، والتي سبق الإشارة إليها، إذ استضافت مصر وفودًا لقوى الحرية والتغيير والكتلة الديمقراطية، في إطار مساعي الطرفين لإعادة توحيد وصياغة رؤيتهما للصراع الجاري.
ولا تنفصل هذه الجهود المصرية عن دورها التقليدي في فتح قنوات اتصال مع مختلف القوى السودانية، إذ سبق أن استضافت القاهرة في الفترة من 2 إلى 7 فبراير 2023، ورشة عمل بعنوان “آفاق التحول الديمقراطي نحو سودان يسع الجميع”، التي حضرتها قوى الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية، بينما تحفظت مجموعة المجلس المركزي على الحضور، في ظل الفجوة القائمة بين الطرفين.
في النهاية تأتي كافة الجهود الداعمة لتوحيد القوى المدنية، منطلقة من الرؤية المستندة حول ضرورة إشراك المدنيين في عملية الحوار الشامل، الذي يضمن ترسيخ التوافق وخلق إجماع على إنهاء الحرب والتوجه نحو بناء المؤسسات، من خلال إقامة حوار سوداني – سوداني شامل.
ويُعتبر المؤتمر في نهاية الأمر فرصة لتوحيد القوى السياسية السودانية، وهي الرسالة التي أكد عليها البيان الصادر عن المؤتمر، الذي جمع لأول مرة منذ الحرب الفرقاء المدنيين في الساحة السياسية، بجانب طيف من مختلف الشخصيات الوطنية وممثلي المجتمع المدني، وتوافقوا جميعًا على العمل لوقف الحرب كمطلب أساسي للسودانيين.