أوروبا

“انهيار مشروع ماكرون الوسطي”.. اليمين المتشدد يزلزل الوسط السياسي الفرنسي

في ضربة أعادت خلط الأوراق السياسية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تصدر “حزب التجمع الوطني” اليميني المتشدد بزعامة “مارين لوبان” الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية، مما جعله أقرب إلى أبواب السلطة أكثر من أي وقت مضى، بما يهدد بهز المشروع الأوروبي، ويعرقل خطة ماكرون الراغبة في تطهير الساحة السياسية الفرنسية من المتطرفين وتشكيل جبهة ديمقراطية جديدة من الأحزاب المعتدلة، لتصبح فرنسا الأولى في العالم التي تكون على أعتاب برلمان يتكون أغلبيته من تجمع يميني متشدد منذ الحرب العالمية الثانية.

مقامرة أتت بنتيجة عكسية

في يوم 9 يونيو 2024، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشكل مفاجئ- ودون أن يشاور حلفائه ووزراء حكومته- إلى حل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات مبكرة بهدف التيقن من “المشهد” السياسي الفرنسي، ووقف ظاهرة صعود اليمين المتشدد، خاصة بعد أن تعرض حزبه لهزيمة قاسية على يد حزب التجمع الوطني المعارض في انتخابات البرلمان الأوروبي في الشهر الماضي، حيث فاز بنسبة 31.4% مقابل 14.6% حصل عليها حزب ماكرون، وعليه، أراد ماكرون أن يتحقق من الشعبية المتزايدة لليمن المتشدد في الداخل، معتقداً أن النتيجة المرتفعة التي حصل عليها حزب التجمع الوطني في الانتخابات الأوروبية ما هي إلا وليدة تصويت احتجاجي نتيجة للظروف التي تمر بها فرنسا منذ مدة، ومراهناً على وعي الشعب الفرنسي بأنه لن يسلم مقاليد السلطة لحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف الذي يغرق تاريخه في معاداة السامية والعنصرية ومعاداة المسلمين في فرنسا، وكذلك لليسارين المتشددين، وسيقوم بالتصويت لصالح القوة المعتدلة في الانتخابات الوطنية خشية من اشتعال حرباً أهلية تؤدي للمزيد من الانقسامات.

وعلى عكس المتوقع، أظهرت الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية المبكرة مدى ميل الشعب الفرنسي لإدارة يمينية متشددة، مهدداً بمحو كتلة ماكرون الوسطية التي من شأنها خسارة أكثر من نصف مقاعدها البالغ عددها 250 مقعاُ في مجلس النواب.

وترجع الأسباب التفصيلية لدعوة ماكرون لانتخابات مبكرة إلى تهديد المعارضة له بإسقاط حكومته عبر تصويت بحجب الثقة في الخريف المقبل بشأن الميزانية السنوية التي كان من المقرر أن تتضمن تخفيضات في الإنفاق العام بنحو 25 مليار يورو لمعالجة العجز المتضخم، وبالتالي استشعار الخطر الحقيقي من اندلاع احتجاجات في الشوارع بسبب تخفيضات الإنفاق غير الشعبية.

مع العلم أنه وبسبب فقدان ماكرون للأغلبية بالبرلمان عام 2022، اضطر حينها إلى التصويت على القرارات التي يريد تمريرها، وكان أبرزها قانون إصلاح المعاشات التقاعدية الذي قوبل برفض واسع، الأمر الذي دفعه للجوء إلى صلاحيته الرئاسية بتمرير القانون بموجب المادة 49.3 من الدستور الفرنسي، وبالتالي، قد يواجه ماكرون سحب الثقة في كل مرة يريد فيها تمرير مشروع قانون، وقد لا تتمكن حكومته من النجاة في كل مرة.

وهناك سبب آخر يتمحور حول محاولة ماكرون لتعزيز فرص حزبه الانتخابية في الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2027، وذلك من خلال إضعاف فرص حزب التجمع الوطني، والتي تعتبر “مارين لوبان” المرشح الأوفر حظاً للفوز بمقعده، عبر إجبارها على تقديم خطة واضحة للقيادة بدلاً من الاستمرار في انتقاد ماكرون وحكومته، وبفشلها سيحتفظ ماكرون بمنصبه، وسيتم تجديد الثقة بحزبه مرة أخرى.

ولكن بشكل واقعي، لا يمكن القول إن ماكرون اقترب ولو قليلاً من تنفيذ خطته، فمع استياء الفرنسيين من التضخم، وانخفاض الدخول، ورفض فرض الضرائب على الأثرياء، وتدهور الخدمات العامة، وخاصة في المناطق الريفية، استغل حزب لوبان، الذي يلقي باللوم على الهجرة في العديد من مشاكل فرنسا، إحباط الناخبين وهواجسهم، واستطاع تنفيذ استراتيجيات مكثفة لاستقطابهم ببناء شبكة دعم كبيرة على مستوى البلاد، وخاصة في المدن الصغيرة والمجتمعات الزراعية التي ترى أن ماكرون والطبقة السياسية في باريس منفصلون عن الواقع، وتعهد الحزب بتعزيز القدرة الشرائية من خلال خفض الضرائب على الطاقة، وممارسة المزيد من السلطة على المدارس، واستعادة ضريبة الثروة، وشن حملة صارمة على الهجرة وترحيل “الإسلاميين” وفرض المزيد من القيود عليهم كحظر النقاب في الأماكن العامة ونحوه، كما سعى إلى طمأنة الناخبين بأن الحزب، الذي يُنظر إليه على أنه قريب من روسيا، سيواصل تقديم الدعم لأوكرانيا مع معارضة تزويدها بالأسلحة بعيدة المدى.

كما ابتعد الحزب عن بعض مواقفه القديمة الأكثر إثارة للجدل، بما في ذلك “فريكست”، خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، والانسحاب من حلف شمال الأطلسي، وتقليص المساهمة في ميزانية الاتحاد، وقد تكون كل هذه التعهدات بمثابة دعاية تنتهي بمجرد وصول اليمين إلى السلطة، فالكثيرون لا يتوقعون أن تلتزم لوبان بشكل كامل بتعهداتها، خاصة تلك التي تتعلق بمصالح أوروبا والناتو وحرب أوكرانيا، ولكنها في النهاية ستقوم بطرح ما يشغل بال الناخبين على جدول النقاش السياسي في البلاد.

الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية المبكرة

 شهدت الانتخابات البرلمانية المبكرة أكبر نسبة إقبال بين الناخبين الفرنسيين منذ 40 عاماً بنسبة مشاركة بلغت 66.7%، فوفقا للنتائج النهائية التي نشرتها وزارة الداخلية الفرنسية يوم الاثنين 1 يوليو، حصدت كتلة التجمع الوطني على 33.14% تقريباً من الأصوات، في سابقة هي الأولى من نوعها، فاليمين المتطرف لم يسبق له الفوز بالجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية، بالرغم من أجندته الاقتصادية الثقيلة المتعلقة بالضرائب والإنفاق، ولكنها تركز أيضا على العدالة الاجتماعية والاستثمار بشكل أكبر لتحسين الخدمات العامة.

فيما جاء ائتلاف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري في المركز الثاني بنسبة 27.99%، والذي يضم الأحزاب اليسارية الرئيسية كالحزب الاشتراكي، وحزب فرنسا الأبية، والحزب الشيوعي، والخضر، وهي كتلة كما نرى أنها غير متجانسة إلى حد ما، بين قوى موالية لروسيا وأخرى موالية لأوكرانيا، وتدعم أغلبها مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة، وتتفق أغلبها مع اليمين المتشدد في التعهد بإلغاء إصلاحات ماكرون في مجال الهجرة والمعاشات التقاعدية، وإغواء المواطنين بوعود اجتماعية ومالية متبادلة، وزيادة الضمان الاجتماعي، بالرغم من “وهمية ” كل هذه وعود التي من شأنها خلق عجز مضاعف في الميزانية التي تعاني بالفعل.

بينما تراجع تحالف الرئيس إيمانويل ماكرون “التجمع الوسطي” إلى المركز الثالث بنسبة 20.76%، ونتج عن ذلك انتخاب إجمالي 76 مرشحًا للبرلمان الفرنسي في الجولة الأولى من التصويت، منهم 39 يمثلون حزب التجمع الوطني، و32 من حزب الجبهة الوطنية الشعبية اليسارية، واثنان من تحالف ماكرون فاز جميعهم بنسبة أكثر من 50% في دوائرهم.

ووفقاً للأرقام، ومع احتساب جميع المقاطعات، احتل حزب الجبهة الوطنية المركز الأول في 296 دائرة انتخابية من أصل 577، في حين تقدم حزب الجبهة الوطنية في 156 دائرة، وحزب التجمع الوسطي في 65 دائرة، وسيحتاج أي حزب للحصول على الأغلبية الفوز بـ 289 مقعداً.

وتشير التوقعات إلى أنه بعد الجولة الثانية من التصويت يوم 7 يوليو، سيفوز حزب الجبهة الوطنية بما يتراوح ما بين 230 إلى 280 مقعداً في مجلس النواب الذي يضم 577 مقعداً، وهو ارتفاع مذهل مقارنة بعدد مقاعده الـ 88 في البرلمان السابق، كما أنه من المتوقع أن يحصل حزب الرابطة الوطنية على ما بين 125 و165 مقعدًا، مع تراجع حزب ماكرون بما يتراوح بين 70 و100 مقعد، وهذا أمر ينذر بالمزيد من عدم اليقين السياسي بالنسبة لماكرون، فبالرغم من أن الكتلة الوسطية المؤيدة لأوروبا في فرنسا رغم ما يحدث لا تزال قائمة، إلا أنها سوف تصبح أصغر حجماً وأضعف كثيراً من الآن فصاعداً، وقد تسعى هذه الكتلة إلى إعادة تنظيم نفسها بعد هذا الزلزال، ولكن من غير المؤكد كيف ومتى ستتمكن من تحقيق هذا الهدف.

المنتظر من جولة التصويت الثانية 7 يوليو؟

تشير النتائج الرسمية إلى أن حزب التجمع الوطني لديه فرصة جيدة للفوز بأغلبية في مجلس النواب للمرة الأولى، لكن النتيجة لا تزال غير مؤكدة وسط نظام التصويت المعقد والتكتيكات السياسية، وسواء حصل على الأغلبية المطلقة لتشكيل الحكومة أم لا، فلا يمكن إغفال حقيقة أن الحزب في طريقه ليصبح القوة المهيمنة والحزب الأكبر في البرلمان الفرنسي، وعليه نحن أمام عدة احتمالات قد يسفر عنها التصويت في الجولة الثانية في السابع من يوليو القادم:

  1. حصول حزب التجمع الوطني على الأغلبية المطلقة:

وحينها سيصبح حزب التجمع الوطني لأول مرة في تاريخ فرنسا الأكبر في البرلمان، وهذا يعني أن ماكرون سيضطر إلى إكمال السنوات الثلاث المتبقية من ولايته الرئاسية في شراكة ثقيلة مترجمة إلى تقاسمٍ للسلطة مع رئيس وزراء ينتمي إلى الأغلبية اليمينية الجديدة، وهو “جوردان بارديلا”، تلميذ لوبان البالغ من العمر 28 عاما، وسيدير حزبهما السياسة الداخلية، والقوانين المحلية من المعاشات والضرائب إلى الهجرة والتعليم وما يتعلق بالميزانية، بينما يظل ماكرون القائد الأعلى للقوات المسلحة ويحدد شؤون السياسة الخارجية والأوروبية، ما يعني أن الحكومة سوف تنفذ بالتأكيد سياسات تختلف تماماً عن خطة الرئيس.

وقد تستغل لوبان حينها سلطتها المالية لتقييد يدي ماكرون على الجبهة العالمية، وبالتالي إضعاف صورته داخلياً وخارجياً، وسط تخوفات من أن يتعرض دستور الجمهورية الخامسة، الذي وضعه شارل ديغول في عام 1958 لاختبار يميني غير مسبوق، خاصة بعد أن لمحت لوبان إلى مبدأ “فصل السلطات”، مشيرة إلى أن الدور الدستوري لرئيس الدولة كقائد أعلى للقوات المسلحة ما هو إلا “منصب شرفي”، وفقط.

وقد كانت هناك ثلاث حالات من هذا النوع من “التعايش” في فرنسا منذ عام 1958، ولكنها لم تشمل أبدا أحزابا وزعماء ذوي وجهات نظر متناقضة إلى هذا الحد، وبالتأكيد سيشهد هذا التعايش تقويضاً لإرادة ماكرون على مستوى تعيين الوزراء على سبيل المثال، فبالرغم من تمتع ماكرون –من الناحية النظرية- بالحرية في ترشيح من يشاء في حكومته، إلا أنه من الناحية العملية سوف يضطر إلى تسمية وزراء يعكسون إرادة الأغلبية اليمينية في الجمعية الوطنية، والأمر بالنسبة لماكرون يذهب لأبعد من السياسة الداخلية، حيث أنه من الممكن أن يتصادم بارديلا وحكومته مع ماكرون حول قضايا خارجية مثل مساهمة فرنسا في ميزانية الاتحاد الأوروبي أو دعم أوكرانيا في حربها مع روسيا، أو البقاء على المسار الصعب الذي تنتهجه فرنسا مع روسيا، وكذلك العلاقات مع الصين، وقد يؤدي هذا إلى بعض الرسائل المتناقضة من باريس.؟

وقد أعلن بارديلا بالفعل خلال بيان الحزب الانتخابي أنه سيعارض، بصفته رئيسا للوزراء، إرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا، وهو احتمال لم يستبعده ماكرون، بل وينادي به في محافل عدة، كما أكد بارديلا أيضاً أنه سيرفض تسليم فرنسا صواريخ بعيدة المدى وأسلحة أخرى قادرة على ضرب أهداف داخل روسيا نفسها، وذلك بسبب الموقف القومي للحزب المؤيد لروسيا، ولكن على كلٍ، من المكن أن تختار حكومة التعايش عدم إثارة المشاكل بشأن قضايا السياسة الخارجية مثل سياسة أوكرانيا أو التعاون مع حلف شمال الأطلسي، والتركيز بشكل أكبر على الشؤون الداخلية، لكن من المؤكد أن  تعاون أوروبي أو عبر الأطلسي سيصبح أكثر صعوبة إذا كان التعايش هو مستقبل فرنسا، وهذا يأخذنا إلى تلخيص تداعيات صعود اليمين في فرنسا على الموقف الفرنسي “الأوروبي”.

فوصول اليمين للسلطة سيجعل آلية صنع السياسات الفرنسية تجاه أوروبا خاضعة بالكامل لسيطرة اليمن المتشدد، ما يعني أن تصبح فرنسا، العضو المؤسس والقوة الدافعة في الاتحاد الأوروبي، واقتصاد مجموعة الدول السبع، والقوة النووية، والعضو الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، شريكا أكثر حرجاً وتركيزاً على الداخل في مفاوضات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وداعماً أقل حماساً لأوكرانيا، ومساهماً أقل في ميزانية الاتحاد الأوروبي، وكابحاً أمام المزيد من التكامل الأوروبي، وقد نشهد انتهاء أي مناقشات حول هيكل دفاع نووي أوروبي موسع يعتمد على الأسلحة النووية الفرنسية، وكذلك إلغاء كافة الخطط المتعلقة بقواعد سوق الكهرباء الأوروبية، وقد نشهد دعوة إلى استفتاء لإثبات أولوية الدستور الفرنسي على القانون الأوروبي،  وبصعود اليمين في عدة دول أوروبية، قد يتم الاستفادة من قوة الأحزاب اليمينية المتطرفة الأخرى وتشكيل “أقلية معطلة” في مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي قد يتم استخدامها لتوجيه مسار السياسة الأوروبية وإعاقة توسع الاتحاد، ما يعني عواقب أسوأ على أوروبا.

  • تشكيل تحالف يساري وسطي ضد اليمين

وهي مناور تكتيكية سيكون لها أثر كبير في تحديد ما إذا كان اليمين المتطرف سيحصل على الأغلبية المطلقة أو النسبية، وذلك عبر الضغط لانسحاب المرشحين من الأحزاب اليسارية والوسطية الحاصلين على المركز الثالث في جولة التصويت الأولى، على أن يبقى المرشحون الذين يمثلون الأحزاب اليسارية الأكثر اعتدالا في حزب الجبهة الوطنية، والوسطيون الذين حققوا نسب تصويت عالية، وذلك في محاولة للإضرار بفرص أقصى اليمين وتجنب تقسيم الأصوات المناهضة للتشدد، وهو ما دعا إليه على الفور ماكرون و””جان لوك ميلينشون”، زعيم حزب فرنسا الأبية اليساري المتطرف عقب نتائج الجولة الأولى، وبالفعل انسحب ما لا يقل عن 220 مرشح من التحالف اليساري والائتلاف الوسطي حتى الآن.

ولكن التحدي الحقيقي أمام الوسطيين واليساريين يكمن في كيفية اجتذاب الأصوات نحوهما، وخاصة الأصوات الممتنعة في الجولة الأولى، ويبدو أن الدعوة لإقامة جبهة ضد اليمين المتطرف ليست كافية للفوز، وسيتعين على الكتلتين تقديم وجهات نظر إيجابية جديدة للناخبين، وتعهدات بإجراءات إصلاحية من شأنها التأثير بالإيجاب على وضعهم الاقتصادي.

  • فشل اليمين أو أي حزب في حصد أغلبية مطلقة بالبرلمان:

إذا فشل التجمع الوطني في تأمين الأغلبية المطلقة التي أكد بارديلا عبر حملة حزبه الانتخابية أنه لن يحكم البلاد بدونها، وفي حال عدم حصول أي حزب آخر على الأغلبية، نحن أمام سيناريو قد يكون الأفضل بالنسبة لماكرون وهو “البرلمان المعلق”، والذي يضمن عدم قدرة أي من الكتل الثلاث على المطالبة بالأغلبية، وسوف يترتب على ذلك حالة من الجمود بحيث لا يمكن حكم ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، ما قد يدفع ماكرون لبذل جهد أخير لتشكيل ائتلاف واسع النطاق من اليسار إلى اليمين لتمرير مشروعاته الإصلاحية، وهو خيار يبدو غير مرجح، نظرا للخلافات السياسية.

كما أنه من غير الواضح بعد اسم رئيس الوزراء الذي قد يعينه ماكرون في حال استمرار البرلمان معلقاً، لكنه رغم ذلك، يمكنه أن يسمي رئيس وزراء من المجموعة البرلمانية الحائزة على أكبر عدد من المقاعد في الجمعية الوطنية، وكان هذا هو حال تحالف ماكرون الوسطي منذ عام 2022، ولكنه لن يستطيع حل البرلمان مرة أخرى إلا بعد عام من الآن، وفي ذلك الوقت قد لا يكون لدى فرنسا حكومة، ولا تشريعات، وربما لا ميزانية جديدة.

 ويبدو أن هذا الحل شديد الصعوبة، نظراً للخلافات الأخيرة التي وحدت أقصى اليمين وأقصى اليسار ضده في ظل تقلص كتلته الوسطية، كما يرفض حزب التجمع الوطني هذا الحل بشدة، لأنه يعني إمكانية الإطاحة بحكومة اليمين المتطرف ورئيس وزرائها في أي وقت من خلال تصويت بحجب الثقة إذا انضمت الأحزاب السياسية الأخرى معًا.

وهناك خيار محتمل آخر وهو أن يحاول ماكرون تشكيل حكومة تكنوقراط غير تابعة لأحزاب سياسية بأجندة محدودة، بالرغم من عدم تعود فرنسا على ذلك خشية حدوث اختراق سياسي، وهذه الحكومة ستكون بحاجة إلى أن يتم قبولها من قبل الأغلبية في الجمعية الوطنية، ومن المرجح أن تتعامل في الغالب مع الشؤون اليومية بدلاً من تنفيذ إصلاحات كبيرة، ولكن هذه الحكومة قد تواجه الإقالة بسهولة من قبل البرلمان إذا صوت على ذلك.

وبطبيعة الحال، فإن وجود جمعية وطنية غير قابلة للحكم، إلى جانب حكومة تكنوقراطية ورئيس يقترب من نهاية ولايته، من شأنه أن يوفر فرصة جيدة لاستخدام “الاستفتاءات” مرة أخرى لترسيخ إرادة الأغلبية الحقيقية للشعب الفرنسي بشأن عدد من القضايا الصعبة، ويبدو أن هذه الطريقة ستكون ليست فقط كوسيلة أخرى لاختبار شرعية رئيس الدولة، بل كوسيلة لحكم فرنسا.

وبشكل عام، الأكيد هو أن فرنسا على موعد مع حكومة فرنسية جديدة، سواء كانت يمينية أو يسارية أو من أقلية وسطية، وهذه الحكومة إما أن تسيطر على المشهد السياسي المضطرب، أو أن تواجه المزيد من الاستقطاب والاضطرابات على صعيد الجبهة الداخلية للحكومة والخارجية للرئيس، مع الأخذ في الاعتبار أن اقتراب اليمين المتشدد من تسلم مقاليد الحكم في فرنسا ينذر بتهديدات واسعة للمشروع الأوروبي الذي يجد نفسه أمام حكومة تتشكك بالأساس في وجوده، وفي النهاية، سيواجه ماكرون الوسطي الذي تحدى أقصى اليمين واليسار مصير مجازفته بسياسة منتهية الصلاحية، مما قد يفسد إرثه ويفتح الباب أمام عصر من التطرف.

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى