الميناء الصيني في بيرو.. تحول جيوسياسي يثير مخاوف الولايات المتحدة
في ظل التوترات المتصاعدة بين القوى العالمية، تُقدم الصين على مبادرة جريئة من خلال بناء ميناء ضخم على ساحل المحيط الهادئ في بيرو. هذا المشروع العملاق، الذي تبلغ تكلفته نحو 3.5 مليارات دولار، يُثير مخاوف الولايات المتحدة من توسيع النفوذ الصيني في منطقة تُعتبر تاريخيًا “الحديقة الخلفية” لأمريكا. ومن المتوقع أن يقوم الرئيس الصيني “شي جين بينغ” بافتتاح هذا الميناء خلال قمة آسيا والمحيط الهادئ في نوفمبر المقبل، مما يُسلط الضوء على التوسع الاستراتيجي للصين في أمريكا الجنوبية.الأمر الذي من شأنه أن يُثير التساؤلات حول الأبعاد الاستراتيجية والاقتصادية لهذا المشروع، مما يجعل من الضروري استشراف السيناريوهات المستقبلية المحتملة لهذا التطور الجيوسياسي الكبير.
ميناء تشانكاي
في عام 2019، استحوذت شركة تشاينا أوشن شيبينج (COSCO) الصينية الرائدة عالميًا في مجال لوجستيات الموانئ، على 60% من رأس مال شركة “Terminales Portuarios Chancay SA” مقابل 225 مليون دولار. وكان هذا أول ميناء تسيطر عليه المجموعة التي تتخذ من هونغ كونغ مقراً لها في أمريكا اللاتينية. بالشراكة مع شركة التعدين البيروفية Volcan Compañía Minera، وتهدف COSCO إلى زيادة حركة المرور البحرية في المحيط الهادئ. وتضمنت المرحلة الأولى من المشروع بناء محطة جديدة بسعة مليون حاوية. وفي نهاية المطاف، ستبلغ الطاقة الاستيعابية للميناء 5 ملايين حاوية. وبذلك سيصبح ميناء تشانكاي المركز اللوجستي الرئيسي لشركة كوسكو في أمريكا اللاتينية.
وفي عام 2021، حصلت شركة COSCO على حقوق حصرية من هيئة الموانئ الوطنية في بيرو لتشغيل ميناء تشانكاي.
يُعد ميناء تشانكاي مشروعًا استراتيجيًا كبيرًا للصين في أمريكا الجنوبية، حيث يعد أول ميناء عملاق على ساحل المحيط الهادئ في المنطقة. يقع الميناء على بعد حوالي 50 ميلاً من العاصمة البيروفية ليما وتبلغ تكلفته كما ذكرنا حوالي 3.5 مليار دولار.
وبفضل عمقه الذي يبلغ نحو 60 قدمًا، سيكون الميناء قادرًا على استقبال السفن الضخمة، مما يسهل عمليات الشحن والتفريغ بشكل أسرع وأكثر كفاءة. كما يعد الميناء نقطة تجمع حيوية لتسهيل التجارة بين بيرو والصين، حيث ستتمكن الشركات من إرسال البضائع مباشرة عبر السفن بدلاً من الاعتماد على السفن الصغيرة التي كانت تضطر للمرور أولاً عبر المكسيك أو كاليفورنيا.
في السياق ذاته تسعى الشركة الرائدة وراء بناء ميناء تشانكاي وهي شركة تشاينا أوشن شيبينج (COSCO)؛ إلى تعزيز التجارة بين آسيا وأمريكا الجنوبية من خلال هذا المشروع. ومن المتوقع أن يكون لهذا الميناء تأثير إيجابي على الاقتصاد البيروفي وعلى الدول المجاورة مثل البرازيل، حيث سيوفر فرصًا جديدة لتسهيل التجارة وتحريك النمو الاقتصادي.
كما يمثل ميناء تشانكاي استمرارًا للجهود الصينية في توسيع نطاق نفوذها الاقتصادي والجغرافي عبر العالم، حيث تسيطر الشركات الصينية حاليًا أو تدير محطات في ما يقرب من 100 ميناء بحري أجنبي.
المزايا الاستراتيجية لميناء تشانكاي
يمثل ميناء تشانكاي خطوة استراتيجية هامة للصين في تعزيز نفوذها الاقتصادي والتجاري في أمريكا الجنوبية، مما يعزز من مكانتها كقوة اقتصادية عالمية ويوفر فرصًا جديدة للتنمية والتعاون الإقليمي.
ويمكن للميناء أن يفتح أسواقًا جديدة للسيارات الكهربائية والصادرات الصينية الأخرى، فالصين بالفعل هي الشريك التجاري الأول لمعظم دول أمريكا الجنوبية. ومن خلال هذا المشروع، تسعى الصين إلى تعميق علاقاتها التجارية وزيادة نفوذها الاقتصادي في المنطقة، مما يعزز مكانتها كقوة اقتصادية عالمية.
كما سيعمل ميناء تشانكاي على تسريع وتيرة التجارة بين آسيا وأمريكا الجنوبية، مما يسهل تدفق البضائع بين القارتين بشكل أكثر كفاءة وفعالية. سيسمح هذا للشركات بإرسال البضائع مباشرة بين بيرو والصين، مما يقلل من الحاجة إلى مرور البضائع عبر موانئ وسيطة في المكسيك أو كاليفورنيا.
بالإضافة إلى ذلك، فإن أمريكا الجنوبية قارة غنية بالموارد الطبيعية، مثل المعادن والمنتجات الزراعية. ولذا فإن ميناء تشانكاي سيسهل على الصين الوصول إلى هذه الموارد ونقلها بشكل أسرع وأكثر كفاءة، مما يدعم الاقتصاد الصيني ويوفر المواد الخام اللازمة لصناعاته المختلفة.
في السياق ذاته، فإن بناء وتشغيل ميناء كبير في بيرو سيعزز من نفوذ الصين السياسي والاقتصادي في أمريكا الجنوبية. يمكن أن يُستخدم هذا النفوذ للتأثير على السياسات المحلية والإقليمية لصالح المصالح الصينية، مما يعزز مكانتها كقوة عالمية.
والأهم من ذلك، فإن ميناء تشانكاي يُعتبر جزءًا من مبادرة الحزام والطريق التي تهدف إلى تعزيز الروابط التجارية والبنية التحتية بين آسيا وبقية العالم. هذا الميناء يسهم في تحقيق رؤية الصين لإنشاء شبكة تجارية عالمية متكاملة، مما يعزز من تأثيرها الاقتصادي والسياسي على الساحة الدولية.
ومن ضمن مزايا هذا الميناء أيضًا أنه سيساعد الصين في التنافس مع القوى الاقتصادية الأخرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، من خلال تأمين ممرات تجارية جديدة وتعزيز قدرتها على الوصول إلى الأسواق العالمية بسرعة وكفاءة وفعالية.
المخاوف الأمريكية
تخشى الدول في الوقت الراهن من إغراق الصين للأسواق بالمنتجات الرخيصة، ويرون أن هذا الميناء سيفتح أسواقًا جديدة للسيارات الكهربائية والصادرات الأخرى، خاصة وأن الصين تُعد الشريك التجاري الأول بالنسبة لدول أمريكا الجنوبية.
وتثير تلك التحركات الصينية مخاوف الولايات المتحدة الأمريكية التي أكدت أنه إذا أصبحت الصين مركزًا تجاريًا لأمريكا الجنوبية فستكون قادرة على إحكام قبضتها على موارد المنطقة وتعميق نفوذها بين الدول القريبة منها.
كما تخشى من أن تصبح الصين قادرة على إحكام قبضتها على موارد المنطقة، مما يمكنها من التحكم في استغلال هذه الموارد لصالحها. وهذا الأمر يثير القلق بشأن التأثيرات السلبية المحتملة على الاقتصادات المحلية وحقوق الدول في إدارة مواردها الطبيعية.
في السياق ذاته، يُبرز ميناء تشانكاي الفراغ الدبلوماسي الذي تركته الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية. فمع تركيز الولايات المتحدة على مناطق أخرى مثل أوكرانيا والشرق الأوسط، تمكنت الصين من استغلال هذا الفراغ لتعزيز نفوذها في المنطقة، مما يُثير القلق بشأن التوازن الجيوسياسي في نصف الكرة الغربي.
وتُثار مخاوف أمريكية أخرى من أن الميناء الصيني في أمريكا الجنوبية سيكون بوابة للأسواق العالمية، وبالتالي فإن الحرب بين الولايات المتحدة والصين لن تكون حربًا تجارية فقط، بل ستمتد لتصبح حربًا استراتيجية.
هناك مخاوف أخرى من أن الميناء يمكن أن يُستخدم لأغراض عسكرية بجانب الأغراض التجارية. فالصين قد تستفيد من البنية التحتية للميناء لتوفير وصول تفضيلي لسفنها العسكرية، مما يعزز من وجودها العسكري في المنطقة ما يُثير القلق بشأن الأمن الإقليمي.
كما يُمكن للميناء الصيني في أمريكا الجنوبية أن يكون بوابة للأسواق العالمية، مما يعزز من التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين. هذا التنافس قد لا يقتصر على الجوانب التجارية فقط، بل قد يمتد ليشمل الجوانب السياسية والعسكرية، مما يزيد من التوترات بين القوتين العظميين.
لكن إزاء القلق الأمريكي، صرح وزير خارجية بيرو “خافيير جونزاليس أوليتشيا” بأن الولايات المتحدة إذا كانت تشعر بالقلق إزاء الوجود الصيني المتزايد في بيرو، فعليها زيادة استثماراتها، مضيفًا أن “الجميع مرحب بهم للاستثمار”. هذا التصريح يهدف إلى تهدئة المخاوف الأمريكية وتشجيع المزيد من الاستثمارات المتنوعة في البلاد.
سيناريوهات مستقبلية
إزاء المشروع العملاق للصين في أمريكا الجنوبية يُمكن توقع عدد من السيناريوهات المُستقبلية منها:
- السيناريو الأول: التعاون الاقتصادي والاستقرار الإقليمي: حيث يتوقع أن يساهم هذا الميناء في تعزيز التنمية الاقتصادية والاستقرار الإقليمي في بيرو ودول أمريكا الجنوبية المجاورة. كما سيتم تسهيل التجارة بين آسيا وأمريكا الجنوبية بشكل كبير، مما يؤدي إلى زيادة الاستثمارات وتوفير فرص عمل جديدة. إضافة إلى تعزيز التعاون بين الصين ودول المنطقة، مما يساهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي. كما يساهم في تحقيق فوائد اقتصادية ملموسة من خلال زيادة الصادرات والواردات، من خلال تحسين البنية التحتية المحلية. وهذا السيناريو يحمل إمكانية تقليل التوترات الدولية إذا تمكنت الولايات المتحدة والصين من التوافق على آليات تعاون مشتركة في المنطقة، بما يعزز الاستقرار الاقتصادي والسياسي.
- السيناريو الثاني: التوتر الجيوسياسي والمنافسة الاقتصادية: حيث تتزايد المخاوف الأمريكية بشأن النفوذ الصيني المتزايد في المنطقة، مما يؤدي إلى إجراءات مضادة مثل فرض قيود على التجارة أو تعزيز الحضور العسكري الأمريكي في أمريكا الجنوبية. وقد يؤثر هذا التصعيد في التوترات التجارية سلبًا على الاقتصادات المحلية، ويؤدي إلى ضغوط دبلوماسية واقتصادية من الولايات المتحدة على دول المنطقة للحد من تعاونها مع الصين. وقد تسفر هذه الضغوط عن توتر العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والدول التي تستضيف المشاريع الصينية، مما يعقد الوضع الجيوسياسي في المنطقة.
- السيناريو الثالث: توازن في المصالح وتحقيق التعاون: حيث يتوقع أن يحقق هذا الميناء للصين تقدمًا اقتصاديًا، بينما تتخذ الولايات المتحدة خطوات لتعزيز استثماراتها في أمريكا الجنوبية. وذلك عبر الحفاظ على توازن بين المنافسة الاقتصادية والتعاون الدبلوماسي. كما يتم تعزيز البنية التحتية التجارية في المنطقة دون تصاعد التوترات الجيوسياسية بشكل كبير. مع تطوير آليات تعاون إقليمية تعزز من فوائد جميع الأطراف المعنية، مع استمرار الحوار بين الولايات المتحدة والصين لتجنب النزاعات.
في الختام، يبرز ميناء تشانكاي الصيني في بيرو تحديًا استراتيجيًا كبيرًا، حيث سيؤثر على التوازن الجيوسياسي والاقتصادي في أمريكا اللاتينية والمحيط الهادئ. وستكون قدرة كل من الصين والولايات المتحدة على تحقيق مصالحهما الاقتصادية مع الحفاظ على تعاونهما الاستراتيجي البنّاء عبر الحوار والتفاهم المشترك، هي المفتاح لتعزيز الاستقرار في المنطقة.
المصادر:
- Ryan Dubé and James T. Areddy, “A New Chinese Megaport in South America Is Rattling the U.S”, (Wall Street Journal, June 13, 2024 ), URL:https://www.wsj.com/world/chancay-peru-port-china-south-america-trade-ffc75d32?mod=americas_news_article_pos1
- Marco Aquino, “Peru PM says boost in China’s investments will not prompt US ‘resentment'”, (Reuters, June 17, 2024), URL: https://www.reuters.com/world/americas/peru-pm-says-boost-chinas-investments-will-not-prompt-us-resentment-2024-06-17/
- Sebastien GOULARD, “The Port of Chancay at the Centre of Sino-Peruvian Relations“, (Global Connectivities, June 14, 2024), URL: https://globalconnectivities.com/2024/06/the-port-of-chancay-at-the-centre-of-sino-peruvian-relations/
- “Beijing’s Expanding Influence in America’s Backyard”, (Wall Street Journal, JUNE 18, 2024), URL: https://www.wsj.com/podcasts/whats-news/beijings-expanding-influence-in-americas-backyard/bba9dc3b-6510-4ba9-89d6-795b53f41bc0