تغير المناخ

هل حان الوقت لتغيير أكواد بناء المدن بسبب التغيرات المناخية؟

لم يبقى هناك أدنى شك في أن تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة قد أصبحا قضايا عالمية تشغل بال العديد من الدول والمجتمعات حول العالم. واحدة من هذه الدول هي مصر، حيث تواجه تحديات كبيرة في أغلب مدنها وقراها بسبب الزيادات المطردة في درجات الحرارة وتذبذب عوامل الطقس الأخرى عموماً. ومن هنا، أصبح هناك ضرورة واضحة لتغيير أكواد البناء للمدن والقطاع الإنشائي في مصر لمواجهة هذه التحديات والعمل على تعزيز المرونة والاستدامة في التصميم والبناء.

من المهم أن يتناول التغيير المطلوب الأسس التصميمية المناسبة لمجابهة التغيرات المناخية، وتأثير هذه التغيرات على السكان والمباني والمدن، وما يستدعى تغييره في أنواع المواد المصرح باستخدامها في المدن الجديدة، بالإضافة إلى فوائد التشجير.

خسائر اقتصادية وبيئية من تأخير تغيير أكواد البناء

يتفق المهندسين المتخصصين والعلماء البيئيين على أن التصميم البيئي الغافل عن تقدير ظروف المناخ وعدم تغيير أكواد البناء وتخطيط المدن لمواجهة زيادة درجات الحرارة والاحتباس الحراري قد يؤدي إلى تكاليف وخسائر اقتصادية جسيمة.

يؤثر ارتفاع الحرارة بشكل مباشر على العمر الافتراضي وكفاءة عمل البنية التحتية للمدن وكافة خدماتها، مثل الطرق والجسور وشبكات المياه والصرف الصحي ومحطات الكهرباء والطاقة وخطوط الإمداد. فإن طبقات الأسفلت والمواسير والمحابس ولوحات الكهرباء والكابلات وغيرها من كافة مستلزمات ومواد البناء والعزل المستخدمة ستتطلب بصفة مستمرة إصلاحات وتجديدات باهظة التكاليف بسبب تلفها وتدهورها بعد تصميم غير مطابق لاحتياجات مجابهة ظواهر المناخ. وبالطبع تزداد هذه التكاليف في حالة الكوارث الأكثر تطرفاً مثل الحرائق والفيضانات والسيول أو على الأقل ارتفاع منسوب المياه الجوفية.

كما ستتطلب المعيشة في المدن غير المخططة بصورة تتسق مع احتياجات التكيف مع التغيرات المناخية استهلاك أعلى للطاقة للتبريد وتكييف المباني، خاصة بعد إزالة العديد من الأشجار من كافة المدن وعدم استبدالها بأشجار جديدة أثناء توسعة الطرق المهمة والمطلوبة. من المتوقع ارتفاع تكلفة المعيشة بالتوازي مع تكاليف شراء أجهزة التكيف وأنظمة التبريد بشكل كبير، إذ أن فواتير الكهرباء ستؤثر على الميزانية الشخصية والاقتصادية للمواطنين والشركات والمصانع.

لا يتوقف الأمر على هذه النقاط فقط, بل يصل إلى التأثير الممتد على الإنتاجية والاقتصاد المحلي. فمع تأخر الانتقال لأكواد بناء أكثر مرونة, تتأثر الإنتاجية في القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية. الظروف المناخية القاسية يمكن أن تؤدي إلى انخفاض الإنتاج وتعطيل سلاسل التوريد وتدهور الأعمال التجارية، مما يؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد المحلي وفقدان فرص العمل. وهو نفس الحال مع قطاع السياحة, الذي قد يعاني من تراجع إيراداته بسبب زيادة نفقاته لضمان نفس مستوى الخدمة للسائح.

لإن كان كل ما سبق يشمل الأضرار الاقتصادية والبيئية قصيرة ومتوسطة الأجل, إلا أنها لا توازي تكاليف إعادة الإعمار من الأضرار المناخية طويلة الأجل. فما حدث في مدينة درنة الليبية عام 2023 وكذلك باكستان في صيف 2022, يعتبر مؤشراً لحجم الخسائر المليارية من وراء عدم وجود تخطيط ملائم للمدن وتصميم هندسي مناسب لتعزيز مقاومة المباني للكوارث المرتبطة بالمناخ وما تتطلبه من إعادة الإعمار المتكررة وتكاليف الإصلاحات المستمرة.

إن التباطؤ في تغيير أكواد البناء وتخطيط المدن, بل واتباع ممارسات غير بيئية في قطاع الإنشاءات سيكلف المواطن والدولة أضعاف ما كان يمكن توفيره في حالة البدء بصورة صحيحة.

تغيير أكواد البناء لن يكون سابقة جديدة

مع تزايد المطالبات بتغيير قواعد البناء, تأتي بعض الاعتراضات حول السماح بتعديل مواصفات البناء الأساسية التي يتم استخدامها منذ القرن السابق باعتبارها ضمانة للإنشاء السليم والآمن هندسياً. إلا أن هذا المعتقد في حد ذاته مغلوط نسبياً. فإن التطور التكنولوجي دفع بعجلة التحسين الدائم لأكواد البناء. كما أن هناك عدة مناسبات تاريخية تطلبت تغيير جذري في أكواد البناء من قبل.

فعلى سبيل المثال, بعد زلزال 1992 في مصر، الذي وقع في منطقة القاهرة الكبرى وأسفر عن خسائر بشرية ومادية كبيرة، تم إدراك ضرورة تحديث وتعديل الكود المصري للبناء. استهدف هذا التحديث تعزيز المباني وجعلها أكثر مقاومة للزلازل وتحسين سلامة المجتمعات.

تمت تلك التغييرات الرئيسية على الكود المصري للبناء وبقيت تتطور عبر إصداراته المجددة شبه سنوياً. كما امتدت لتشمل أكواد بناء الجسور والكباري والمنشئات الخدمية وليس فقط المباني السكنية التقليدية. وتم تنفيذ هذه التغييرات بناءً على الدروس المستفادة من زلزال 1992 والتقدم في مجال الهندسة المدنية والمعمارية من جهة وهندسة الزلازل من جهة موازية.

كما أن تلك التغييرات جائت في أساس الكود نفسه, ولم تكن تغييرات فرعية أو هامشية. إذ شملت تحسين متطلبات المباني لتحسين قدرتها على تحمل الزلازل مع تحديد مناطق الزلازل المختلفة في مصر وتطوير أحمال الزلزال المناسبة لكل منطقة. كما شملت تقييم تربة الأراضي وتغيير أسلوب تصميم الهياكل الإنشائية ومتطلبات السلامة بما فيها مكونات المواد المستخدمة في عملية البناء.

كما تم تغيير الكود بصورة شبه كلية في مناسبات سابقة, كعندما تم التوجه لبناء الأبراج العالية. وبالتالي لن يكون تغيير الأكواد من أجل مجابهة تهديدات التغيرات المناخية ضرباً من الرفاهية المستحدثة أو بدعة نخبوية, بل هو ضرورة تم اللجوء إليها في مرات عدة.

نظام الهرم الأخضر المصري والمدن الجديدة

مع إلحاح الحاجة لنظم بناء جديدة, تم تطوير نظام تقييم الهرم الاخضر المصري GPRS. وهو نظام تقييم المباني الخضراء والمستدامة في مصر. يتميز بكونه تقييم بيئي محلي، أي أنه مناسب للسوق المصري خاصة. تم صياغته عام 2010 من قبل المجلس المصري للأبنية الخضراء EGBC بمشاركة المركز القومي لبحوث الإسكان والبناء  HBRC, لتخرج النسخة الأولى من هذا النظام في إبريل عام 2011 بهدف تقييم الأبنية الجديدة.

كما يعتبر نظام الهرم الأخضر المصري للبناء الأخضر والمستدام معياراً قياسياً يمكن الاعتماد عليه بصورة موازية لمعايير دولية أخرى مثل LEED. ويستند هذا النظام إلى مجموعة من المبادئ التي تهدف إلى تحسين الأداء البيئي والاقتصادي والاجتماعي للمباني والمجتمعات. كما يتضمن عدة مستويات للتصنيف تعتمد على تطبيق مبادئ البناء الأخضر مثل فعالية استخدام الطاقة، وإدارة المياه، وجودة الهواء الداخلي، واستدامة المواد المستخدمة، والتصميم البيئي، والابتكار، وغيرها.

إلا أن هذا النظام ليس مدرج بصورة كافية في كافة الأكواد الخاصة بالبناء وتنفيذ البنية التحتية وتخطيط المدن. وعلى الرغم من محاولات فردية في بعض المشروعات الحكومية والخاصة, إلا أن هناك مساحة للتطوير تمكن من تفعيل الدور البيئي بصورة أكبر في المشروعات القومية المختلفة.

تقوم الدولة المصرية بالفعل ببناء عدداً ضخماً من المدن الجديدة الذكية من الجيل الرابع طبقاً لاستراتيجياتها البيئية المختلفة مثل استراتيجية مصر للتنمية المستدامة والاستراتيجية الوطنية للتغيرات المناخية. فنجد مدناً، مثل العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة، تهدف إلى توفير بيئة حضرية مستدامة. كما تضم هذه المدن مباني عدة تعتمد على تصميمات مستدامة وتكنولوجيا الطاقة المتجددة وأنظمة إدارة المياه الذكية. كما تتميز تلك المشروعات بتوفير بنية تحتية حديثة ومستدامة، بما في ذلك مرافق النقل العام المستدامة والمباني الخضراء بهدف توفير الطاقة وتقليل الانبعاثات.

إلا أن هناك حاجة ماسة لتوحيد كل تلك الجهود الهادفة لحماية السكان والاقتصاد من أضرار التغيرات المناخية. وهو ما يسلط الضوء على ضرورة تقنين البناء البيئي عن طريق الأكواد الإنشائية والهندسية المختلفة.

أمثلة للممارسات البيئية المطلوبة

يركز التصميم البيئي للمباني والمدن على عدة أسس تصميمية مهمة. أحد هذه الأسس هو تعزيز العزل الحراري للمباني. حيث يجب استخدام مواد عازلة عالية الجودة في الجدران والأسقف والأرضيات للحد من انتقال الحرارة من الخارج إلى الداخل والعكس. كما يمكن أيضًا استخدام نوافذ مزدوجة الزجاج وعوازل حرارية لتقليل نقل الحرارة عبر النوافذ.

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يتم تصميم المباني بطرق تسمح بتدفق الهواء والتهوية الجيدة, وهو ما يخفض من استهلاك الكهرباء من أجل عمليات التكيف والتبريد بصورة جذرية. كما يمكن استخدام الفتحات الطبيعية والشرفات والتهوية الميكانيكية لتحقيق هذا الهدف. تهوية جيدة تساعد في تقليل حاجة المبنى للتبريد الاصطناعي وتحسين جودة الهواء الداخلي.

ويجب عند بناء المدن الجديدة، أن يتم اختيار المواد البنائية بعناية لتكون متجاوبة مع التغيرات المناخية. إذ يفضل استخدام مواد متجددة ومستدامة وقابلة للتدوير مثل الخشب والألواح الشمسية والخرسانة المعزولة. تعتبر هذه المواد أكثر فاعلية من حيث استخدام الطاقة وتحقيق العزل الحراري وتقليل الانبعاثات الضارة.

بالإضافة إلى التصميم المستدام، يمكن للتشجير أن يلعب دورًا هامًا في تحسين المناخ وتحسين جودة الهواء في المدن. حيث توفر الأشجار والنباتات ظلًا وتبريدًا طبيعيًا، مما يقلل من حاجة المباني للتبريد الاصطناعي ويساهم في تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. بالإضافة إلى ذلك، يساهم التشجير في تحسين جودة الهواء عن طريق امتصاص الغازات الضارة والجسيمات العالقة في الهواء وإنتاج الأوكسجين. كما أن فارق درجات الحرارة بين المدن المظللة بالأشجار في شوارعها والمدن الجرداء من الأشجار يتراوح بين 11 و25 درجة مئوية.

إن العوائد الناتجة عن تغيير الأكواد الخاصة بالبناء والتخطيط العمراني تستحق بلا شك عناء التعاون والتنسيق بين الحكومة المصرية والخبراء البيئيين من المهندسين والمعماريين. فإن التوفير في النفقات على المدى القريب والبعيد بالإضافة إلى تحسين الوضع المعيشي للمواطنين هي مكاسب مجتمعية واقتصادية لا تقل أهمية عن العوائد البيئية في تخفيف تأثير التغيرات المناخية والانبعاثات المسببة لها.

د. عمر الحسيني

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى