دلالات التدابير الإضافية الصادرة عن محكمة العدل الدولية وتأثيرها على إسرائيل
طالب محامو جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية في لاهاي خلال منتصف مايو بفرض تدابير طارئة خاصة بالوضع في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، حيث شددوا على أن الهجمات الإسرائيلية على المدينة في جنوب القطاع يجب أن تتوقف لضمان بقاء الشعب الفلسطيني. يأتي ذلك بعد أن شنت إسرائيل هجومها على مدينة رفح الجنوبية هذا الشهر مما أجبر مئات الآلاف من الفلسطينيين على الفرار من المدينة التي أصبحت ملجأ لنحو نصف سكانها البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة. وكانت رفح، الواقعة على الطرف الجنوبي من غزة، هي أيضًا الطريق الرئيس للمساعدات. في حين تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي إغلاق معبري رفح وكرم أبو سالم جنوب قطاع غزة لليوم التاسع عشر على التوالي.
وفي وقت سابق، وفي حكم شديد اللهجة صدر في يناير 2024، أمرت المحكمة إسرائيل ببذل كل ما في وسعها لمنع أعمال الإبادة الجماعية في غزة، لكن رفضت إسرائيل مرارًا اتهامها بالإبادة الجماعية ووصفتها بأنها لا أساس لها من الصحة، وجادلت أمام المحكمة بأن عملياتها في غزة هي دفاع عن النفس وتستهدف مقاتلي حماس الذين هاجموا إسرائيل في 7 أكتوبر.
ويوم الجمعة 24 مايو ٢٠٢٤، صوتت المحكمة بأغلبية 13 صوتًا موافقً مقابل صوتين رافضين، على حكم يفرض تدابير إضافية على إسرائيل، تطالبها بالوقف الفوري لهجومها العسكري على رفح. وأمرت إسرائيل بفتح معبر رفح وتمرير المساعدات الإنسانية بشكل عاجل. مما يشكل ضغطًا دوليًا وقانونيًا على إسرائيل، ويفرض عليها عزلة دولية وسياسية.
في ذلك الإطار يسعى هذا التقرير لتسليط الضوء على أهم ما جاء قرار محكمة العدل الدولية الأخير، وأيضًا أبرز التدابير المؤقتة المتخذة سابقًا من قبل المحكمة في يناير الماضي، بالإضافة إلى ردود فعل حول التدابير الإضافية الصادرة عربيًا ودوليًا، وأخيرًا أهم الدلالات التي يمكن قراءاتها من خلال التحركات القضائية الدولية الأخيرة وانعكاساتها على إسرائيل.
أبرز ما جاء في التدابير الإضافية الأخيرة الصادرة عن المحكمة
أشار قرار محكمة العدل الدولية إلى أن قضاة المحكمة غير مقتنعين بأن جهود الإخلاء والإجراءات ذات الصلة، التي تؤكد إسرائيل أنها اتخذتها لتعزيز أمن المدنيين في قطاع غزة، وخاصة أولئك الذين نزحوا مؤخرًا من محافظة رفح، كافية للتخفيف من المخاطر الهائلة التي يتعرض لها السكان الفلسطينيون نتيجة الهجوم العسكري على رفح، ويقول القرار أنه تم استيفاء الشروط اللازمة لاتخاذ تدابير طارئة جديدة في قضية الإبادة الجماعية الإسرائيلية.
وطالب الحكم إسرائيل بالوقف الفوري لهجومها العسكري وأي عمل آخر في محافظة رفح قد يفرض على المجموعة الفلسطينية في غزة ظروفًا معيشية قد تؤدي إلى تدميرها المادي بالكامل أو جزئيًا. كما فرض القرار على إسرائيل اتخاذ إجراءات فعالة لضمان الوصول دون عوائق إلى قطاع غزة لأي لجنة تحقيق أو بعثة لتقصي الحقائق أو هيئة تحقيق مكلفة من قبل الأجهزة المختصة في الأمم المتحدة بالتحقيق في مزاعم الإبادة الجماعية.
ويشير القرار إلى أن الإجراءات المؤقتة التي اتخذتها إسرائيل بعد الحكم السابق لمحكمة العدل الدولية بشأن غزة لا تعالج بشكل كامل عواقب تغير الوضع، وفي ذلك الإطار فرضت المحكمة على إسرائيل تقديم تقرير إليها في غضون شهر واحد حول التقدم الذي أحرزته في تطبيق الإجراءات التي أمرت بها، وأمرت إسرائيل بفتح معبر رفح الحدودي أمام المساعدات الإنسانية في ظل الوضع الحالي الذي ينطوي على مزيد من المخاطر لإلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بحقوق شعب غزة.
ما هي التدابير السابقة التي فرضتها العدل الدولية على إسرائيل؟
في يناير الماضي وبناء على دعوى رفعت من قبل دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها بفرض التدابير المؤقتة ضد إسرائيل، وذلك بعد أن عقدت جلستين في 11، 12 يناير الماضي لمناقشة القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بشأن “عمليات الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة”. وقد نصت تلك التدابير على إسرائيل وفقًا لاتفاقية منع الإبادة الجماعية التي وقعت عليها أن تنفذ كافة التدابير المنصوص عليها في المادة 2، وعليها أن تضمن بشكل عاجل أنجيشها لا يرتكب أي أعمال إبادة مذكورة في الاتفاقية، كما فرضت على إسرائيل اتخاذ كافة الإجراءات التي في سلطاتها لمنع وعقاب أي تحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية فيما يتصل بالشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
فيما أوجبت التدابير أيضًا على إسرائيل اتخاذ إجراءات عاجلة وفورية لإيصال الخدمات والمساعدات الإنسانية من أجل التقليل من الظروف غير المحتملة التي يواجهها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وأيضًا اتخاذ تدابير لمنع الدمار والحفاظ على أي أدلة متعلقة بالمادة 2 و3 لاتفاقية منع الإبادة الجماعية، وأخيرًا طالبت المحكمة إسرائيل بتقديم تقرير لها بكل التدابير المتخذة في خلال شهر من جلسة المحكمة.
ردود فعل عربية ودولية مرحبة بالتدابير الإضافية للعدل الدولية
لاقى قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي بإصدار أمر لإسرائيل بوقف هجومها العسكري على رفح في جنوب قطاع غزة بشكل فوري يوم ٢٤ مايو ٢٠٢٤، ترحيبًا عربيًا ودوليًا واسعًا، وفي حين رحبت الرئاسة الفلسطينية بقرارات محكمة العدل الدولية، وطالبت إسرائيل بتنفيذ هذا القرار الأممي فورًا، توالت ردود الفعل الإسرائيلية المنددة، في وقت يجري فيه رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مناقشات طارئة ومشاورات عاجلة مع الوزراء والمستشارة القضائية للحكومة على خلفية قرارات المحكمة.
وكان على رأس الدول المرحبة مصر -والتي هي جزء من الدعوى المرفوعة أيضًا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية- حيث طالبت الخارجية المصرية في بيان صدر عنها، بالوقف الفوري للعمليات العسكرية الإسرائيلية وأية إجراءات أخرى بمدينة رفح الفلسطينية من شأنها فرض ظروف معيشية على الفلسطينيين في غزة تهدد بقاءهم كليًا أو جزئيًا، وفتح معبر رفح لضمان تحقيق النفاذ الكامل ودون عوائق للمساعدات الإنسانية لسكان القطاع، بالإضافة إلى تأكيد المحكمة على ضرورة تنفيذ التدابير السابقة الصادرة عنها، بما فيها فتح جميع المعابر البرية بين إسرائيل وقطاع غزة.
وطالبت مصر إسرائيل بضرورة الامتثال لالتزاماتها القانونية في إطار اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والقانون الدولي الإنساني، وتنفيذ كافة التدابير المؤقتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية، والتي تعد ملزمة قانونًا وواجبة النفاذ، باعتبارها صادرة عن أعلى جهاز قضائي دولي. وشدد البيان على أن إسرائيل تتحمل المسؤولية القانونية بشكل كامل عن الأوضاع الإنسانية المتردية في قطاع غزة باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال، مطالبة إسرائيل بوقف سياساتها الممنهجة ضد أبناء الشعب الفلسطيني من استهداف وتجويع وحصار بالمخالفة لكافة أحكام القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني.
وأيضًا رحبت قطر بقرار محكمة العدل الداعي لوقف الهجمات الإسرائيلية على رفح وفتح معبرها لدخول المساعدات الإنسانية. وشدّدت على ضرورة التزام السلطات الإسرائيلية التام بتنفيذ كافة بنود القرار، وموافاة محكمة العدل الدولية بتقرير شامل في الوقت المحدد، كما أكدت على ضرورة اضطلاع مجلس الأمن الدولي بمسؤولياته في توفير الحماية التامة للمدنيين في القطاع.
ودوليًا، دعم عديد من الدول الأوروبية والمنظمات الأممية القرار، على رأسهم تصريح المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن قرارات محكمة العدل الدولية ملزمة، ويتوقع الأمين العام أن يلتزم بها الأطراف المعنيون. فيما أكدت بلجيكا على أهمية تنفيذ القرار بشكل فوري وعاجل، ودعت إلى وقف إطلاق النار، والإفراج عن الرهائن، وإجراء مفاوضات من أجل تطبيق حل دولتين.
وطالبت أيضًا النرويج إسرائيل بتنفيذ الإجراءات التي صدرت بها الأوامر، مؤكدة على أن احترام المحكمة ووظائفها، بما في ذلك سلطة الأمر باتخاذ تدابير مؤقتة، أمر ضروري لتعزيز القانون الدولي والنظام القانوني الدولي. كما أكدت الخارجية التركية على ترحيبها بالقرار المؤقت، لذي يأمر إسرائيل بوقف هجماتها على رفح في غزة وفتح بوابة رفح الحدودية على الفور أمام المساعدات الإنسانية.
دلالات قوية لتحركات العدل الدولية من الناحية السياسية
بقراءة التدابير الإضافية التي أصدرتها المحكمة أمس، يمكن القول بأنها تمثل ضغطًا سياسيًا ودوليًا على إسرائيل بشكل غير مسبوق، وفي ذلك الإطار يمكن استنباط بعض الدلالات والانعكاسات الإيجابية لتلك التدابير على زيادة عزلة إسرائيل دوليًا في الآتي:
أولًا: اجماع “قضائي دولي” على أن الحكومة الإسرائيلية تقوم بأعمال إبادة: تأتي التدابير الإضافية التي فرضتها المحكمة الخاصة بالعملية العسكرية في رفح، بالإضافة إلى التدابير الأولية التي أقرتها في يناير الماضي المتعلقة بالحرب على قطاع غزة والإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي، جنبًا إلى جنب مع تحركات المحكمة الجنائية الدولية ضد اثنين من قادة إسرائيل أيضًا بإدانتهم بجرائم إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لتكون بمثابة إقرار قضائي دولي بأن حكومة الاحتلال الإسرائيلي المتطرفة وفقًا لكافة القوانين الدولية والعهود الدولية حكومة تنفذ كافة أشكال الإبادة الجماعية وتنتهك بشكل صارخ حقوق الشعب الفلسطيني بأدلة موثقة وقوية ولا شك فيها.
ويأتي ذلك ليعكس أكاذيب الدفاع الإسرائيلي في تلك المحاكم، ويكون بمثابة لكمة قانونية ليها في ظل تأكيدها مرارًا وتكرارًا على احترامها لحقوق الإنسان وأنها ملتزمة بتنفيذ كافة القوانين والأعراف والعهود الدولية، وأن ما تقوم به إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني ليس “دفاع عن النفس” كما تدعي وتؤكد في المحافل القضائية الدولية خلال ثمانية أشهر.
ثانيًا: زيادة الضغط الغربي من أجل وقف تمويل السلاح إلى إسرائيل: يضع التحرك ضد إسرائيل في المحاكم الدولية دولة الاحتلال تحت عزلة شديدة حتى بين حلفائها، مما قد يؤثر على قدرتها على الحصول على الأسلحة، وفي غصون الشهور الماضية وبعد التحركات القضائية سواء من ناحية العدل أو الجنائية الدوليتين، دعت دول أوروبية إلى وقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل في ظل تفاقم الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، وعلى رأسهم بلجيكا على سبيل المثال، وفي فرنسا أيضًا وجه 115 برلمانيًا رسالة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون طالبوه فيها بوقف جميع مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل. وفي ألمانيا، أعلن عدد من المحامين الألمان رفع دعوى عاجلة ضد الحكومة الألمانية لإلزامها بوقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل.
ومن ناحية أممية أيضًا تبنى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قرارًا بحظر تصدير السلاح إلى إسرائيل على خلفية استمرار حربها على قطاع غزة، وهو أول موقف يتخذه المجلس حيال الحرب على غزة، ودعا القرار إلى محاسبة إسرائيل على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية محتملة في قطاع غزة، وذلك بأغلبية 28 صوتًا مقابل اعتراض 6 دول وامتناع 13 عن التصويت.
وفي الشهر الأخير، تثار قضية “تعليق تمويل الأسلحة لإسرائيل” بين قضاة المحكمتين العدل والجنائية الدوليتين، وفي حال قرّر القضاة أن هناك أسبابًا معقولة بأن إسرائيل وقادتها يرتكبون جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة التحديات القانونية التي تستدعي فرض حظر أسلحة، حيث إن دولًا كثيرة لديها أحكام ضد بيع الأسلحة إلى الدول التي قد تستخدمها بطرق تنتهك القانون الإنساني الدولي. وهو ما يعكس ضغطًا من الناحية العسكرية على إسرائيل أيضًا ومخاوف من العزلة التي قد تواجهها إسرائيل على أثر تلك التحركات القضائية.
ثالثًا: توجه مزيد من الدول نحو الاعتراف بدولة فلسطين: تعكس التحركات الأخيرة للدول خاصة الأوروبية نحو الاعتراف بدولة فلسطين بالتزامن مع طلب المدعي العام للجنائية الدولية وقرارات محكمة العدل الدولية، أن إسرائيل تخسر الدعم السياسي، والتعاطف الدولي، والذي كانت تستند إليه في بداية حربها على غزة بدعوى أنها تقوم بممارسة حقها “الدفاع عن النفس”.
ففي الأيام الأخيرة أعلنت النرويج وإسبانيا وأيرلندا عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وذلك وسط الأزمة الدائرة في مدن ومخيمات غزة. ويتوقع أن تتوالى الاعترافات الأممية بالدولة الفلسطينية، ففرنسا رغم أنها تجد الوقت غير ملائم، فإنها لا تعدّ الاعتراف من قبيل المحظورات، بينما جيريمي كوربن، الرئيس السابق لحزب العمال البريطاني يقر بأنه حان الوقت لاعتراف الحكومة البريطانية بدولة فلسطينية، وهو ما يثير غضب إسرائيل وقادتها.
رابعًا: توجه مزيد من الدول نحو استئناف تمويلها للأونروا: بعد قرار المحكمة الأخير في 24 مايو، أعلنت دولتين أوروبيتين هما إيطاليا وبريطانيا استئنافها رسميًا تمويلها لوكالة الأونروا في 25 مايو، ويأتي ذلك أيضًا بعد أن قررت دول أخرى استئنافها للتمويل بعد تقرير اللجنة المستقلة المعنية بالتحقيق مسألة حيادية الأونروا ومنها ألمانيا والسويد وكندا واليابان، ومؤخرًا النمسا، مما يعني أن تلك الدول التي كانت تدعم حق إسرائيل في دفاعها عن نفسها باتت على علم بأهمية دور الوكالة بالنسبة للفلسطينيين في قطاع غزة، وأنها وفقًا لتقرير اللجنة المستقلة بريئة من كافة الاتهامات الموجه إليها، وأن إسرائيل تمارس الإبادة الجماعية في ظل الاحكام القضائية ضدها.