القضية الفلسطينيةإسرائيل

قراءة قانونية حول:  طلب المدعي العام للجنائية الدولية باعتقال قادة حماس وإسرائيل

مقدمة:

في 20 مايو 2024، قدم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية؛ كريم خان، طلبًا للدائرة التمهيدية الأولى بالمحكمة الجنائية الدولية لإصدار أوامر قبض لنتنياهو وجالانت من الناحية الإسرائيلية، والسنوار وضيف وهنية من الناحية الفلسطينية بدعوى ارتكابها جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية ضد الشعب الفلسطيني والشعب الإسرائيلي. يجدر الإشارة إلى أن مسألة إصدار أوامر اعتقال من الجنائية الدولية كانت ولا زلت محل نقاش مكثف في أعقاب هجمات حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر، وذلك بعد أن قتل 1200 مواطن إسرائيلي، غالبيتهم من المدنيين، وما أعقبها من عملية إسرائيلية واسعة النطاق في غزة أدت إلى مقتل أكثر من 35 ألف فلسطيني في قطاع غزة.

وفي ذلك الإطار، تسعى الدراسة إلى إيضاح الأسانيد القانونية للاتهامات المقدمة ضد القادة في طلب المدعي العام وفقًا لنظام روما الأساسي، والإجراءات المرتقب اتخاذها من قبل الدائرة التمهيدية في المحكمة، ومدى إمكانية تنفيذ قرارات اعتقال بحق القادة الخمسة. كما تهدف الدراسة إلى تسليط الضوء على أبرز القضايا المشابهة في الجنائية الدولية وأهم أسباب عرقلة تنفيذ قرارات الاعتقال، وأخيرًا العقوبات المتوقع فرضها على المحكمة في حال اعتمدت قرار الاعتقال. وفيما يلي سيتم تناول المحاور السابقة بشيء من التفصيل على النحو التالي:

أولًا: اختصاص المحكمة الجنائية الدولية:

لا يمكن فهم طبيعة الطلب المقدم إلى الجنائية الدولية وآثاره القانونية دون الرجوع إلى النظام التأسيسي للمحكمة واختصاصها الأساسي، ولذلك من المهم الإشارة إلى ان المحكمة تختص فقط في القضايا المتعلقة بمقاضاة الأشخاص، وليس الجماعات أو الدول. ويجوز أن يُمثل أمام المحكمة كل فرد يدُعى أنه ارتكب جرائم تدخل في اختصاصها. وتركز سياسة مكتب المدعي العام في الملاحقة القضائية على أولئك الذين يتحملون المسؤولية الكبرى عن الجرائم، استنادًا إلى الأدلة التي تم جمعها، ولا تأخذ في الاعتبار أي منصب رسمي يقلده المدعى ارتكابه للجرائم.

أما بالنسبة إلى من يحق له تقديم أو رفع دعوى للمحكمة؛ فإنه وفقًا للمادة 13 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإنه يمكن رفع دعوى من قبل ما يلي:

  • أن تطلب دولة طرف في نظام روما الأساسي وهي الدول المصدقة على نظام روماـ من المدعي العام التحقيق ضد أحد الأشخاص.
  • إحالة قضية من قبل مجلس الأمن الدولي للمحكمة (قضاة الدائرة التمهيدية)، وفي هذه الحالة يتم استثناء شرط أن تكون الدولة التي يجري فيها التحقيق دولة ليست طرف، إذا كان الضرر يقع على أحد الدول الأعضاء.
  • يمكن للمدعي العام أن يباشر التحقيق في قضية ما يراها جريمة بعد أن تستوفي المعايير التي وضعها ميثاق روما التأسيسي.

أما فيما يتعلق بالجرائم التي تختص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر فيها؛ جرائم الإبادة الجماعية، وهي أفعال تهدف إلى إهلاك جماعة قومية، أو إثنية، أو عرقية، أو دينية (وفقًا للمادة 6 من نظام روما الأساسي). أو جرائم ضد الإنسانية والتي تشمل القتل العمد، والاسترقاق، وإبعاد السكان أو النقل القسري للسكان (وفقًا للمادة 7). جرائم الحرب، والتي تحتوي أبرزها على تدمير واسع النطاق للممتلكات والاستيلاء عليها دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية وبطريقة عابثة، وقيام دولة الاحتلال بأبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها (وفقًا للمادة 8)، بالإضافة إلى جريمة العدوان (وفقًا للمادة 5). 

ثانيًا: مدى صلاحية مقاضاة قادة إسرائيل في ظل عدم انضمامها للمحكمة:

لم تصدق إسرائيل على نظام روما الأساسي وهي فقط موقعة عليه، وتستخدم إسرائيل ورقة أنها ليست طرفًا في الميثاق التأسيسي للمحكمة للتأكيد على أنه لا يجوز التحقيق معها في أي جريمة. لكن نظام روما الأساسي وضع استثناءات ثلاث تسمح بتنفيذ قرارات المحكمة المتعلقة بإسرائيل حتى وأن لم تكن دولة عضو، وهي كما يلي:

  1. موافقة الحكومة الإسرائيلية على التعاون.
  2. رفع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة دعوى ضد شخص.
  3. موافقة أغلبية قضاة المحكمة على التحقيق مع أحد مواطني الدولة غير الطرف (إسرائيل) بدعوى ارتكابه جرائم كبرى على أرض دولة طرف (فلسطين) في ميثاق روما الأساسي بطلب من المدعي العام. وهو الاستثناء الذي تحقق، مما يعني أن قرارات المحكمة يمكن تطبيقها على إسرائيل.

وتثير إسرائيل قضية أخرى أيضًا متعلقة بان فلسطين ليس دولة بالمعني المتعارف عليه ولا تحظى باعتراف دولي، وذلك على الرغم من أنه منذ 2015 أصبحت دولة فلسطين طرفًا في ميثاق روما التأسيسي للمحكمة، حيث  2021 عبرت إسرائيل عن اعتراضها للمحكمة مما أدى إلى إثارة خلافات بين قضاة المحكمة حول شرعية التحقيق في انتهاكات إسرائيل التي هي دولة ليست طرف في الميثاق، في الجرائم التي ترتكبها على أرض فلسطين التي لا تحظى باعتراف دولي، وكان الخلاف الأساسي بين القضاة حول مدى شرعية عضوية فلسطين في ميثاق روما، وذلك باعتبار فلسطين وفقًا لقرار “الجمعية العامة للأمم المتحدة” رقم 67/19″ دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، مما لا يُلزم المنظمة الدولية أو أعضاء المحكمة الجنائية الدولية الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

لكن في 5 فبراير 2021 توصلت الدائرة التمهيدية الأولى بـالمحكمة الجنائية الدولية إلى أن المحكمة تملك اختصاصًا في هذه الحالة بصرف النظر عن الوضع القانوني لفلسطين، وأن المحكمة تركز على تطبيق “نظام روما الأساسي”، وليس على المسألة الأوسع المتمثلة في شرعية الاعتراف بالدولة الفلسطينية بموجب القانون الدولي. ومن ثم خلصوا إلى أن العضوية الفلسطينية “كدولة طرف” في المحكمة الجنائية الدولية قد تم الحصول عليها بشكل قانوني.

مما يعني أحقية دولة فلسطين باعتبارها دولة طرف يمارس عليها عدوان من قبل دولة أخرى غير طرف، أن تقوم المحكمة بطلب من أعضائها أو بطلب من المدعي العام، بالتحقيق في الجرائم التي ترتكب على أرضها (الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967 بما في ذلك الضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس الشرقية)، وفقًا للمادة 12 من نظام روما الأساسي.

ثانيًا: مدى صحة الطلب المقدم من قبل المدعي العام وفقًا لنظام روما الأساسي:

في محاولة لقياس مدى قانونية الاتهامات المذكورة في الطلب، يجب العودة لنظام روما الأساسي وتفسير ما إذا كانت تلك الاتهامات تنتهك بنود الاتفاق الأساسي، وفيما يلي سيتم إيضاح ذلك:

  • الجرائم التي ارتكبها قادة حماس وفقًا لنظام روما:

يشير الطلب إلى أن قادة حماس الثلاث (السنوار وضيف وهنية) في السابع من أكتوبر قاموا بجريمة الإبادة، وهي أحد الجرائم التي تصنف بانها جريمة ضد الإنسانية وذلك وفقًا للمادة 7 (1) (ب)، كما تسبب القادة الثلاث للحركة في القتل العمد لمواطنين إسرائيليين وهي أيضًا وفقًا للمادة 7 (1) (أ) تعتبر جريمة ضد الإنسانية، وأيضًا يعد جريمة حرب بما يخالف ما جاء في المادة 8 (2) (ج) (1). بالإضافة إلى ذلك يُوَجه الاتهام إليهم باعتبارهم مشاركين في ارتكاب الجرائم وباعتبارهم قادة عملًا بالمادتين 25 و28 من نظام روما الأساسي.

وفقًا للطلب أيضًا يذكر أن القادة الثلاث للحركة تسببوا في أخذ رهائن إسرائيليين (245 رهينة) وهي أيضًا تعد جريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (3)، كما يشير المدعي العام أنه وفقًا لشهادات الناجين من الأسر الإسرائيليين، فقد تعرضوا للاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي باعتبارها جرائم ضد الإنسانية، بما يخالف المادة 7 (1) (ج)، كما يعد الاغتصاب جريمة حرب عملا بالمادة 8 (2) (ه) (6) في سياق الأَسر. وتشير المذكرة أيضًا إلى انه ثبت تعرض الأسرى إلى التعذيب الذي يعد جريمة ضد الإنسانية، بما يخالف المادة 7 (1) (و) وجريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (1).

وتشير لائحة الاتهام ضد قادة حماس أيضًا إلى قيامهم بأفعال لا إنسانية أخرى باعتبارها جريمة ضد الإنسانية في سياق الأَسر بما يخالف المادة 7 (1) (ك)، والمعاملة القاسية باعتبارها جريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (1)، والاعتداء على كرامة الشخص باعتباره جريمة حرب، بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (2). وقد تم الاستناد في الأدلة على تسجيلات الدوائر التلفزيونية المغلقة، ومواد مسموعة ومرئية وصور فوتوغرافية ثبتت صحتها، وبيانات أدلى بها أعضاء من حماس بأنفسهم، ومن بينهم من يُدّعى بارتكابهم الجرائم المتقدم ذكر أسمائهم، وشهادة الخبراء.

  • الجرائم التي ارتكبها قادة إسرائيليين وفقًا لنظام روما الأساسي:

تشير مذكرة الطلب إلى أن هناك اثنين من الذين يتحملون القسط الأكبر من المسؤولية الحرب الجارية على قطاع غزة، وهما نتنياهو وغالانت شاركوا في ارتكاب الجرائم ولكونهما زعيمين عملًا بالمادتين (25 و28) من نظام روما الأساسي. حيث ثبت تورطهم في أفعال تهدف إلى تجوع مجموعة من السكان، وذلك فيإطارخطة مشتركة لاستخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب وأعمال عنف أخرى ضد السكان المدنيين في غزة بما يخالف المادة 8 (2) (ب) (25) من نظام روما الأساسي، حيث يواجه 1.1 مليون إنسان في غزة الجوع على نحو كارثي، وهو أعلى رقم سبق تسجيله في أي مكان وفي أي زمان، وذلك كوسيلة للتخلص من حماس، ولضمان عودة الرهائن الذين اختطفهم حماس، ولإنزال العقاب الجماعي بالسكان المدنيين في غزة الذين رأوا فيهم تهديدا لإسرائيل.

ووفقًا للأدلة التي تم تجميعها والتي شملت مقابلات مع ناجين وشهود عيان، ومواد مرئية وصورا فوتوغرافية ومواد مسموعة ثبتت صحتها، وصورا ملتقطة بالأقمار الصناعية، وبيانات أدلت بها المجموعة التي يـُدَّعى بأنها ارتكبت الجرائم، ثبت أن الزعيمين تعمدا اتخاذ إجراءات تهدف إلى حرمان السكان المدنيين في كل مناطق غزة بشكل منهجي من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم الإنساني، وهو ما ينافي المادة 8 (2) (أ) (3) أو المعاملة القاسية باعتبارها جريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (1).

كما تعمد قادة إسرائيل القتل العمد بما يخالف المادة 8 (2) (أ) (1)، والقتل باعتباره جريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ج) (1). وأيضًا وفقًا للأدلة التي حصل عليها مكتب المدعي العام، فقد ثبت تعمد قادة إسرائيل شن هجمات ضد السكان المدنيين يما يعتبر جريمة حرب بما يخالف المادة 8 (2) (ب) (1)، أو المادة 8 (2) (ه) (1). كما قام قادة إسرائيل بقتل الفلسطينيين عن طريق تجويعهم وهو ما يعد إبادة وقتل عمد بما يخالف المادتين 7 (1) (ب) و7 (1) (أ). وأيضًا تسبب قادة في ممارسة الاضطهاد ضد المدنيين في قطاع غزة باعتباره جريمة ضد الإنسانية بما يخالف المادة 7 (1) (ح)؛ وأفعال لاإنسانية أخرى باعتبارها جرائم ضد الإنسانية بما يخالف المادة 7 (1) (ك).

ومما سبق يعني أن كافة الاتهامات الموجه ضد القادة الخمس من الطرفان صالحة، خاصة وأن كافة الانتهاكات المذكورة يمكن إثباتها من الناحية القانونية، وفقًا لنظام روما الأساسي، فضلًا عن أن تلك الانتهاكات أيضًا ضد كافة القوانين والمعاهدات الدولية، بما في ذلك اتفاقية الإبادة الجماعية، واتفاقيات جنيف الأربعة، والقانون الدولي والإنساني، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

ثالثًا: ما هي الخطوات المرتقبة من الدائرة التمهيدية ومدى إلزامية قراراتها:

من المهم الإشارة إلى أن طلب المدعي العام يعد “الخطوة الأولى” للوصول إلى الهدف الأوسع وهو “محاكمة القادة الخمس”، وإصدار أحكام قضائية تشمل الحبس أو الغرامة أو عقوبات أخرى وفقًا لما يراه قضاة المحكمة. كما يجدر الإشارة إلى أنه لا يجوز للمحكمة الجنائية محاكمة الأفراد غيابياًوفقًا للمادة 1 من نظام روما الأساسي، لذا فإن احتجاز المتهم هو المفتاح لأي ملاحقة قضائية للمضي قدماً في المحاكمة.

وللإجابة على سؤال ما هي الخطوات القادمة بعد تقديم الطلب إلى قضاة المحكمة يجب تسليط الضوء على اختصاصات المدعي العام في رفع الطلبات ودور الدائرة التمهيدية للمحكمة، وفقًا للمادة 15 من نظام روما الأساسي، البند (3) إذا استنتج المدعي العام أن هناك أساسًا معقولاً لتقديم طلب، يقدم إلى الدائرة التمهيدية طلباً مشفوعًا بأية مواد مؤيدة يجمعها (وهو ما استوفى في الطلب).

 اما فيما يتعلق بدور الدائرة التمهيدية والتي تتألف من ثلاث قضاة، فوفقًا لنفس المادة البند (4) إذا رأت الدائرة التمهيدية بعد دراستها للطلب وللمواد المؤيدة، أن هناك أساسًا معقولاً للشروع في إجراء تحقيق أو قبول الطلب المقدم من قبل المدعي العام وأن الدعوى تقع على ما يبدو في إطار اختصاص المحكمة، يكون لازمًا عليها أن توافق على الطلب وتبدأ في إجراء التحقيق، وذلك دون المساس بما تقرره المحكمة (الدائرة الابتدائية) فيما بعد بشأن الاختصاص ومقبولية الدعوى والحكم الصادر في النهائية.

وبعد أن يدرس قضاة المحكمة الثلاث في الدائرة التمهيدية الطلب من المقدم من المدعي العام، وإذا ثبت صحتها القانونية وفقًا لنظام روما الأساسي، بعد الاطلاع على كافة الأدلة والجرائم المذكورة التي ارتكبها كلًا من قادة حماس وإسرائيل، في المرحلة الحالية من قبل القضاة، سيتم إصدار مذكرة اعتقال وفقًا لقناعة الدائرة التمهيدية وتقديرها (المادة 89 من نظام روما).

تشمل مذكرة اعتقال اسم الشخص والتهم المنسوب إليه وأيضًا الأسس القانونية وفقًا لنظام روما، وسيتم إرسال مذكرات الاعتقال إلى الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، حيث وفقًا للنظام روما يكون لزامًا على تلك الدول أن تتعاون مع المحكمة لتنفيذ مذكرات الاعتقال. وستكون الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، وعددها 124 دولة، ملزمة بالقبض على المشتبه فيهم وإحالتهم إلى المحكمة في حال قدومهم إلى بلدانهم. لكن من المهم الإشارة إلى أنه لا توجد حدود زمنية، وليس من الممكن القول متى ستتخذ المحكمة قرارها. وفي حال تم اعتقال أحد القادة الخمس أو القادة جميعهم، تحيل الدائرة التمهيدية القضية إلى الدائرة الابتدائية لمحاكمة هؤلاء المتهمين على التهم التي اعتمدتها.

وفي مرحلة ما قبل المحاكمة، تعقد جلسة المثول الأولي، وفيها يجري 3 قضاة الإجراءات التمهيدية ويتأكدون من هوية المشتبه به ويتأكدون من فهمه للتهم الموجهة إليه وتحال القضية إلى الدائرة الابتدائية. وبعد الاستماع إلى الادعاء والدفاع والممثل القانوني للضحايا، يقرر القضاة (عادة في غضون 60 يوما) ما إذا كانت هناك أدلة كافية لعرض القضية على المحكمة. ويجب على الادعاء، أمام 3 قضاة، أن يثبت بما لا يدع مجالا للشك كون المتهم مذنبا. وينظر قضاة الدائرة الابتدائية في جميع الأدلة، ثم يصدرون حكما، وعندما يكون هناك حكم بالإدانة، يجوز للقضاة أن يحكموا على أي شخص بالسجن لمدة تصل إلى 30 عاما، وفي ظروف استثنائية، بالسجن مدى الحياة، ويمكن للقضاة أيضا أن يأمروا بتعويضات للضحايا.

فيما يتعلق بمدى إلزامية تطبيق القرار الصادر عن الجنائية الدولية باعتقال القادة الخمس، فيجدر الإشارة إلى أن المحكمة لا تمتلك أداة تنفيذية لقراراتها فليس لدليها قوة شرطة خاصة بها، ولذلك فهي تعتمد على الدول في تنفيذ أوامر الاعتقال التي تصدرها (أو على المشتبه بهم أن يقدموا أنفسهم إلى المحكمة طواعية). ومن الناحية القانونية، الدول الأعضاء ملزمة بتسليم من صدر بحقهم أوامر اعتقال، وذلك وفقًا للمادة 86 من نظام روما الأساسي.

لكن أيضًا على الرغم من الإلزامية المفروضة على الدول الأعضاء لتنفيذ قرارات المحكمة، إلا أنه لا يوجد عقوبات مفروضة على تلك الدول في حال لم تنفذ القرارات، حيث يترك الأمر إلى الدولة، وتاريخيًا لايزال 17 شخص صدرت بحقهم أوامر اعتقال من قبل الجنائية الدولية أحرار، ويتنقلون بين الدول دون أن يتم القبض عليهم. وفي الحالات السابقة التي تجاهلت فيها دولة ما التزامها باعتقال فرد يواجه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، كان أقصى ما واجهته هذه الدولة هو التوبيخ.

وفي حالات استثنائية للغاية، يجوز الاستعانة بمجلس الأمن الدولي والذي يمتلك آلية تنفيذيه لقراراته من أجل إصدار أمر باعتقال القادة الخمسة، لكن وبالنظر إلى موقف مجلس الأمن منذ بداية الحرب الجارية على قطاع غزة، لم يستطيع حتى اليوم أن يصدر قرارًا بوقف إطلاق النار على القطاع ووضع حد للإبادة الجماعية بسبب استخدام الولايات المتحدة الامريكية حق النقض “الفيتو” ضد أيًا من مشروعات القرارات الرامية لذلك، وبالتالي لا يتوقع أن يساند مجلس الأمن في تنفيذ أمر اعتقال صادر عن الجنائية الدولية. كما تسمح قواعد الجنائية الدولية لمجلس الأمن الدولي بتبني قرار يوقف أو يؤجل التحقيق أو المحاكمة لمدة عام، مع إمكان تجديد ذلك إلى أجل غير مسمى، وهو ورقة قانونية يمكن ان تستخدم من قبل المتهمين خاصة إسرائيلي على أعضاء مجلس الأمن على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.

رابعًا: حالات يمكن أن يتم بها سحب التهمة الموجه إلى أحد الأشخاص:

هناك بعض الحالات التي نص عليها ميثاق روما التأسيسي التي تشير إلى إمكانية سحب التهم الموجه إلى أحد المتهمين، حيث من المفترض ان تنظر المحكمة في الأدلة التي قدمها المدعي العام، وإذا رأت أنها غير كافية يمكنها أن ترفض الطلب ولن يتم اعتقال أي قائد او جميعهم حسب ما يقدره قضاة المحكمة.

 وفي حال صدر قرار الاعتقال وقبل محاكمة الأشخاص، يجوز للمدعي العام وفقًا للمادة 61 من نظام روما أن يقوم بسحب أدلة وله أن يعدل أيًا من التهم، وفي حالة سحب تهم، يبلغ المدعي العام ما دائرة ما قبل المحاكمة بأسباب السحب ولها ان تقبل أو ترفض تلك الأسباب. وفي حال تم اعتقال الأشخاص المتهمين، يجوز لقضاة المحكمة بعد مراجعة الأدلة أن تقوم بسحب التهم وفقًا لتقديرها إذا ارتأت أنها ضعيفة، وذلك قبل عقد محاكمة الأشخاص المتهمين.

وبالعودة إلى القضايا التي سحبت الدائرة التمهيدية التهم ضدهم بعد صدور مذكرات اعتقال بحقهم بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فقد انتهت تلك القضايا بإنهاء الدائرة الإجراءات المتعلقة بتلك القضايا، وذلك بعد أن أشعرت الادعاء بسحب التهم الموجهة لهؤلاء الأشخاص، بعد ان رات عدم وجود احتمال معقول للإدانة في المحاكمات المرتقبة.

خامسًا: أبرز مذكرات الاعتقال التي صُدرت ضد زعماء وقادة وما آلت إليه:

يجدر الإشارة إلى أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها إصدار أمر اعتقال من قبل المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيس دولة أو مسؤولين رسميين في الدول، لكن من المهم الإشارة إلى أنه بالنظر إلى القضايا المشابهة التي تم اتهام الأشخاص فيها بارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفقًا لنظام روما الأساسي، غالبًا لم يتم القبض عليهم أو تسليم هؤلاء الأشخاص إلى محكمة لاهاي حتى اليوم، وفيما يلي سيتم الإشارة إلى أبرز وأهم القضايا التي أصدرت المحكمة مذكرات اعتقال ضد قادة دول:

  • مذكرة اعتقال ضد بوتين (روسيا):
  • في مارس 2023، وبناء على طلب من المدعي العام بعد إحالة أوكرانيا الطلب إليه، أصدر قضاة الدائرة التمهيدية لدى المحكمة الجنائية الدولية قرار توقيف في سياق الوضع الإنساني في أوكرانيا، ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
  •  ووجهت الدائرة التمهيدية تهمة (جريمة الحرب الواردة بالمادة 8 من نظام روما)، والتي تمثلت في قيام الرئيس الروسي بحثّ الجنود الروس على ارتكاب أفعال تدخل في دائرة الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة 12 أغسطس 1949.
  • مذكرة اعتقال بحق البشير (السودان):
  •  أصدرت الدائرة التمهيدية للمحكمة مذكرتين اعتقال بحق البشير الاولى في مارس 2009، وفي والثانية في يوليو 2010 متهمة إياه بالتدبير للإبادة الجماعية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في إقليم دارفور في السودان.
  • –         سُجن البشير وبعض حلفائه في السودان بعد الانتفاضة الشعبية التي شهدتها البلاد في عام 2019 لكنهم لم يرسلوا إلى لاهاي.
  • مذكرة اعتقال بحق كلًا من سيف ومعمر القذافي (ليبيا):
  • أصدرت الدائرة التمهيدية مذكرة اعتقال بحق سيف الإسلام القذافي ووالده معمر القذافي في عام 2011 بدعوى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
  • ألقي القبض على الرئيس القذافي في ليبيا وقتل بالرصاص في أكتوبر من ذلك العام، وبتالي سقطت التهم ضده.
  • –         ألقى مقاتلون من الزنتان القبض على سيف الإسلام بعد أيام من مقتل والده وظل محتجزا في المدينة حتى أفرج عنه بموجب قانون عفو في عام 2017، لكن أيضًا لم يتم تسليمه إلى لاهاي.

وفي الحالات الثلاث السابقة، وهي من أشهر القضايا التي تم فيها إصدار مذكرات اعتقال ضد رؤساء دول، لم يتم اعتقال أي منهم حتى اليوم، ويمكن إرجاع أسباب عدم الاعتقال حتى اليوم إلى الأتي:

  1. عدم تعاون الدول مع الجنائية الدولية في تسليم الأشخاص المطلوبين للمثول أمام الجنائية الدولية، ويأتي على رأسها مثلا بوتين، الذي يقوم بالتنقل بين الدول وحضور اجتماعات وقمم ثنائية مع دول أعضاء دون تهديد باعتقاله. والبشير أيضًا قبل حبسه ظل بوسعه السفر عبر القارة الأفريقية التي وقعت بلدانها معاهدة روما التي أنشأت المحكمة.
  2. عدم وجود أي قوة إلزامية على الدول الأعضاء لتسليم القادة المطلوبين للمثول أمام الجنائية الدولية، ويترك الأمر غالبًا للضمير القانوني لتلك الدول ولمصالحها السياسية.
  3. في بعض الحالات تم اعتقال هؤلاء الأشخاص من قبل دولتهم، ورفضوا تسليمهم إلى المحكمة الدولية، مثل البشير على سبيل المثال، وسيف القذافي قبل أن يتم العفو عنه في 2017.
  4. تم اسقاط التهم بعض التهم بسبب الوفاة او القتل، مثل التهم الموجه لمعمر القذافي بعد أن قتل عقب صدور مذكرة اعتقال بحقه 2011.

سادسًا: تأثير الضغوطات السياسية على قرار اعتقال قادة حماس وإسرائيل:

على الرغم من قانونية إصدار حكم وليس فقط اعتقال القادة الخمس وفقًا لنظام روما الأساسي، ووفقًا لكافة الأدلة التي قدمها المدعي العام للقضاة الدائرة التمهيدية، إلا أنه من ناحية أخرى هناك العديد من الأوراق السياسية التي يمكن أن يستخدمها محامو الدفاع خاصة دفاع القادة الإسرائيليين لعرقلة إصدار أي حكم ضدهم، منها الضغط على المدعي العام من أجل سحب التهم المقدمة ضدهم، وهو من الناحية القانونية إجراء مقبول. ومن ناحية أخرى أيضًا في حال تم إصدار مذكرة اعتقال ولم تنفذها الدول، ورأت الدول الأعضاء أهمية إحالة الدعوى إلى مجلس الامن الدولي، فيمكن أن يتخذ المجلس قرارًا بوقف او تأجيل التحقيق أو المحاكمة لمدة عام، مع إمكان تجديد ذلك إلى أجل غير مسمى، ومن الممكن ان يساعد في تمرير هذا القرار العضو الدائم في المجلس الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن المتوقع أيضًا أن يتم فرض عقوبات أمريكية على قضاة الجنائية الدولية في ظل محاولات المحكمة لإصدار مذكرة اعتقال ضد قادة إسرائيل، حيث يجدر الإشارة إلى أن الكونجرس الأمريكي يدرس حاليًا إمكانية إقرار تشريع لفرض عقوبات على المحكمة، وهو أمر قامت به الولايات المتحدة الامريكية مسبقًا عندما أصدرت عقوبات على مدعية المحكمة الجنائية الدولية السابقة “فاتو بنسودة” اعتراضا على التحقيق المستمر في احتمال ضلوع جنود أمريكيين بجرائم حرب في أفغانستان، ولذلك فإن احتمالية إصدار عقوبات ضد قضاة المحكمة هو أمر ترتفع احتمالية إقراره للغاية من قبل الكونجرس الأمريكي، خاصة في ظل دعم الولايات المتحدة الامريكية المطلق لإسرائيل.

وللرد على المخاوف المرتبطة بتراجع الدول الغربية عن تمويل وكالة “الأونروا“، فيجب تسليط الضوء اولًا على ردود فعل الدول الأوروبية على بيان المدعي العام الأخير، حيث رفضت أغلبية الدول الأوروبية الطلب، وانتقدت تلك الدول المساواة بين الضحية والجلاد حسب تعبيرهم في إشارة لدعم القادة الإسرائيليين، وذهبت إلى حد اعتبار القرار بأنه “غير مقبول”، في حين جاء موقف دول محدودة للغاية مؤيد لقرار المحكمة، وعلى رأسهم فرنسا التي أكدت على دعمها لاستقلالية المحكمة الجنائية الدولية ومكافحة الإفلات من العقاب في جميع الحالات، كما أيدت بلجيكا طلب المدعي العام، ودعم مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي استقلالية وقرار المحكمة.

ويعني ما سبق أن هناك انقسام بين الدول الأوروبية حول بيان المدعي العام، لكن في نفس الوقت هناك العديد من الدول الغربية قد أعلنت بعد تقرير اللجنة المستقلة المعنية بالتحقيق مسألة حيادية الأونروا، استأنفها تمويل الوكالة، ومنها ألمانيا والسويد وكندا واليابان، ومؤخرًا النمسا، ومنهم دول رفضت بيان المدعي العام، لكنها لم تعلن تعليقها لتمويل الوكالة بعد بيان الجنائية، وحتى الآن لا يوجد أي مؤشرات تنذر باحتمالية تعليق التمويل، خاصة وأن تلك الدول حاليًا باتت على علم بأهمية دور الوكالة بالنسبة للفلسطينيين في قطاع غزة، وأنها وفقًا لتقرير اللجنة المستقلة بريئة من كافة الاتهامات الموجه إليها.

كما يجب تسليط الضوء على تحرك الدول الأوروبية الأخير المتعلق بالاعتراف بدولة فلسطين بغض النظر عن قرار مجلس الأمن الدولي، وهم النرويج وايرلندا وإسبانيا، وهذه الخطوات كانت تعتزم الدول اتخاذها قبل بيان المدعي العام، ولم يتغير موقفها بعد تحركات المحكمة الأخيرة، حيث أعلنت في 22 مايو أنها تتجه للاعتراف بالدولة الفلسطينية يوم 28 مايو، ما يعني أن تلك الدول تدرك الفرق ما بين إدانة حركة حماس وبين دعم الشعب الفلسطيني والاعتراف بدولتهم وحقهم في تقرير المصير، وهي تحركات غير مسبوقة تاريخيًا.

خلاص القول؛ من الممكن أن يواجه تنفيذ مذكرة الاعتقال العديد من العراقيل والضغوطات السياسية على المدعي العام وعلى قضاة المحكمة، لكن في السياق ذاته من المتوقع أن يعمل قرار المحكمة بالإضافة إلى التحركات القضائية الدولية الأخرى مثل الدعوى المرفوعة في محكمة العدل الدولية من قبل جنوب أفريقيا، على زعزعة مكانة إسرائيل الدولية، وسيؤثر على الرأي العام ضدها، بعد أصبحت إسرائيل حاليًا دولة منبوذة، وثبت للعالم أنها دولة فصل عنصري، ودولة استعمارية، وتمارس القتل والإبادة.

مريم صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى