قراءة للموقف المصري من التصعيد الإسرائيلي في رفح
لاشك أن مصر بذلت منذ إندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة فى السابع من أكتوبر 2023 جهوداً مكثفة من أجل وقف الحرب، ثم بذلت جهوداً غير مسبوقة خلال الفترة الأخيرة من أجل التوصل إلى هدنة إنسانية فى قطاع غزة لوقف المذابح الإسرائيلية ومحاولة تثبيت مرحلة لإلتقاط الأنفاس تؤدى إلى توفير المناخ أمام تحركات أشمل تبدأ بالهدنة وإنجاز صفقة أسرى وإخال مزيد من المساعدات حتى نصل إلى مرحلة إستئناف العملية السياسية .
لم تكتف مصر بالاتصالات المكثفة التى تقوم بها القيادة السياسية مع كافة الأطراف بل إقترحت رؤية متكاملة لحل أزمة غزة وأصبحت هذه الرؤية بما إشتملت عليه من مقترحات عملية بمثابة المحور الرئيسى لكافة المفاوضات التى تمت فى باريس والدوحة وتل أبيب ثم مؤخراً فى القاهرة خلال الأيام القليلة الماضية .
وقد أضفت المقترحات المصرية الأخيرة قدراً كبيراً من الأجواء الإيجابية على المفاوضات، وحظيت بقبول وترحيب كبيرين وكانت هناك آمالاً ضخمة فى إمكانية إعلان التوصل خلال أيام قليلة إلى الهدنة التى ينتظرها سكان قطاع غزة على أحر من الجمر حتى تتوقف تداعيات الكارثة الإنسانية التى يعانون منها بشكل غير مسبوق وكما يعتبرها الجميع أسوأ كارثة إنسانية فى العصر الحديث .
من الضروري أن أشير هنا إلى أن مصر عرضت على كل من إسرائيل وحماس هذه المقترحات خلال الأيام القليلة الماضية، وكان آخرها عرضها على وفد من المكتب السياسى لحركة حماس الذى كان متواجداً فى القاهرة أمس وأول أمس حيث وعد بالرد النهائى خلال أيام على هذه المقترحات ودراستها بالتفصيل ومدى إمكانية إدخال بعض التعديلات الطفيفة عليها من عدمه ثم غادر الوفد القاهرة في أعقاب هجوم كتائب القسام بقذائف صاروخية على قاعدة عسكرية إسرائيلية في محيط معبر كرم أبو سالم.
لن أكون مبالغاً إذا أكدت أن مصر كانت تسابق الزمن بل وتحاول إيقاف عقارب الساعة حتى يتجنب الفلسطينيون فى غزة ويلات تنفيذ إسرائيل عملية عسكرية فى رفح التى من المؤكد أنها ستكون لها تداعيات كارثية، ولذا كانت مصر تعمل ليل نهار لوقف هذه العملية بأى شكل ومن ثم كان الجهد المصرى المبذول يتحرك بقوة وجدية ووعى لإنجاز هذا الهدف .
وقد نجحت مصر بالفعل حتى الخامس من مايو الجارى فى إيقاف هذه العملية رغم الضغوط الشديدة التى يمارسها اليمين الإسرائيلى المتطرف على رئيس الوزراء ناتانياهو من أجل عدم الموافقة على الهدنة ورفض المقترحات المصرية بل والبدء الفورى فى تنفيذ عملية رفح .
ومن الأمور المستغربة أننا فى وسط هذه الجهود والمفاوضات الصعبة للغاية التى تبذلها مصر مع كافة الأطراف فوجئنا بتنفيذ عملية ضد أحد المواقع القريبة من معبر كرم أبو سالم الذى يعتبر أحد أهم المعابر الرئيسية التى تدخل منها المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ثم فوجئنا أيضاً بإعلان حركة حماس مسئوليتها عن هذه العملية فى الوقت الذى كانت قيادات المكتب السياسى لحركة حماس تتفاوض فيه مصر من أجل وضع اللمسات الأخيرة الخاصة بإتفاق الهدنة. .
وفى ضوء الضغوط المتتالية والمكثفة التى مارسها اليمين المتطرف فى الإئتلاف الحاكم فى إسرائيل على ناتانياهو وخاصة فى أعقاب عملية حماس الأخيرة، بدأت إسرائيل منذ فجر اليوم السادس من مايو فى إخلاء سكان المنطقة الشرقية من مدينة رفح الفلسطينية وبدأت أيضاً فى قصف بعض المنازل في هذه المنطقة، مما أدى إلى تدميرها وسقوط العديد من الشهداء والمصابين .
إدراكاً من مصر أن الموقف الراهن يمكن أن يتدهور فى أعقاب هذه التطورات الأخيرة، فقد بدأنا مجموعة من الإتصالات الهامة والعاجلة مع كافة الأطراف بلا إستثناء بما فيها إسرائيل والولايات المتحدة وفصائل المقاومة الفلسطينية من أجل منع تدهور الوضع الذى كنا على وشك إحتوائه والتوصل إلى هدنة مع العمل المكثف لإحتواء الموقف الذى يمكن أن يصل إلى نقطة اللاعودة .
وبالرغم من هذه التطورات، فلازالت مصر تتمسك بموقفها الذى أعلنته القيادة السياسية منذ عدة أشهر ومفاده الرفض التام لقيام إسرائيل بعملية إقتحام مدينة رفح التى ستكون لها نتائج كارثية على جميع الأطراف بما فى ذلك توسيع دائرة الصراع ودخول أطراف إقليمية إلى حلبته إلى حد يمكن أن يصل إلى تفجير الوضع بأكمله .
إن مصر تأسف عندما تجد أن بعض الأطراف تتحرك طبقاً لحسابات داخلية، وليس طبقاً للأجندة الوطنية، ومن هنا فنحن نطالب الجميع بأن يتحلى بصوت العقل والحكمة من أجل مصلحة شعوبهم كما نطالب الحكومة الإسرائيلية بأن تتوقف عن العمليات التى بدأتها منذ فجر اليوم فى منطقة شرق مدينة رفح .
وفى النهاية فإن مصر تتابع الموقف دقيقة بدقيقة وسوف تتحين الفرصة المناسبة لإستئناف مفاوضات التهدئة ولن تتوقف عن بذل جهودها فى هذا المجال ولكن من المهم أن تتوافر الإرادة السياسية لمختلف الأطراف لحل الأزمة التى لازالت مصر تتحمل العبئ الأكبر منها .