الأمريكتان

لحظة غزة.. هل ستؤثر احتجاجات الجامعات الأمريكية في موقف البيت الأبيض من الحرب؟

تجتاح موجة احتجاجات طلابية على الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة عددًا من الجامعات الأمريكية، واشتدت وتيرتها وبلغت حد اعتقال أكثر من 2300 متظاهر. وشهدت المظاهرات، على سلميتها، اشتباكات بين الطلبة ورجال الشرطة، بينما أغلقت جامعات أخرى حرمها الجامعي تفاديًا للمواجهات. ففي جامعة كولومبيا، تجمع أكثر من مائتي متظاهر في هاملتون هول، الذي يحتضن الاحتجاجات الطلابية منذ ستينيات القرن الماضي، وعلقوا لافتة من الطابق العلوي كُتب عليها “قاعة هند”، في إشارة إلى الطفلة الفلسطينية التي قتلت في غزة على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي.

كيف اندلعت الاحتجاجات؟

مع امتداد تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من الشرق الأوسط إلى الأوساط الجامعية في الولايات المتحدة، شكلت جامعة كولومبيا محورًا لاحتجاجات طلابية امتدت إلى عشرات الجامعات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، للتعبير عن معارضة الحرب في القطاع. وانتقل صداها إلى أكثر من 80 حرمًا جامعيًا داخل الولايات المتحدة، شملت مؤسسات رائدة منها هارفارد وييل وبوسطن ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الشمال الشرقي، مرورًا بجامعات برينستون وبراون وكولومبيا ونيويورك وجورج واشنطن على الساحل الشرقي.

وقد بدأ طلاب رافضون للحرب الإسرائيلية اعتصامًا بحرم جامعة كولومبيا في نيويورك في 18 أبريل، مطالبين إدارتها بوقف تعاونها الأكاديمي مع الجامعات الإسرائيلية وسحب استثماراتها في شركات تدعم احتلال الأراضي الفلسطينية، والتوقف عن قبول أموال الأبحاث للمشاريع التي تخدم الأهداف العسكرية للاحتلال. ومع تدخل قوات الشرطة واعتقال عشرات الطلاب، توسعت حالة الغضب لتتمدد المظاهرات إلى عشرات الجامعات في الولايات المتحدة.

وجاءت تحركات الشرطة الأمريكية ضمن جهود مستمرة لوقف توسع دائرة الاحتجاجات، فيما انتقل الحراك الطلابي الرافض لصمت الغرب إزاء الوضع في غزة إلى كبرى الجامعات الأوروبية وصولًا إلى جامعة كوينزلاند والجامعة الوطنية الأسترالية في كانبيرا والسوربون في باريس. وكان القاسم المشترك بين الاحتجاجات هو رفع المتظاهرين شعارات مؤيدة للفلسطينيين ومطالب بإنهاء أعمال قتل المدنيين في غزة، ووقف الدعم العسكري والمالي والسياسي الأمريكي لإسرائيل. ونصب المحتجون خيامًا في حرم عدد من الجامعات ونظموا نشاطات تضامنية مع فلسطين وقطاع غزة بعيدًا عن أي تهديد بالعنف أو تعطيل للدراسة.

ووصفت الهيئة الطلابية في كلية الحقوق بجامعة هارفارد الحرب الإسرائيلية على غزة بأنها ترقى إلى حد الإبادة الجماعية، وجاء ذلك في خطاب مفتوح نُشر على موقع الجامعة جاء فيه: “الهيئة الطلابية في كلية الحقوق بجامعة هارفارد تطالب مؤسسة هارفارد الاستثمارية HMC رسميًا بسحب جميع استثماراتها من شركات تصنيع الأسلحة والبرامج الأكاديمية والشركات وجميع المؤسسات الأخرى التي تساعد في الاحتلال غير القانوني المستمر لفلسطين والإبادة الجماعية للفلسطينيين”. كما ذكر طلاب معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، أن المعهد قبل أكثر من 11 مليون دولار من وزارة الدفاع الإسرائيلية خلال السنوات العشر الماضية، وأن المعهد متواطئ بشكل مباشر مع ما يحدث من انتهاكات في غزة، وطالبوا بضرورة محاسبة الكلية على أي دور تلعبه في دعم جيش الاحتلال.

حقق المتظاهرون في جامعة فيرمونت (UVM) انتصارًا عندما ألغت الجامعة خطابًا لليندا توماس جرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، بسبب دورها في استخدام الولايات المتحدة حق النقض ضد قرارات وقف إطلاق النار المتعددة التي أصدرتها الأمم المتحدة. من جهة أخرى، طالب أعضاء هيئة التدريس في كلية الآداب والعلوم بجامعة إيموري في جورجيا أيضًا بإقالة رئيس الجامعة وصوتوا بحجب الثقة لدعوته قوات الشرطة إلى التحرك ضد الطلاب المتظاهرين في الجامعة.

في ظل هذه التحولات، يقف قادة الجامعات في قلب المواجهة، في محاولة منهم لحل مهمة مستحيلة: من ناحية، محاولة إبقاء الاحتجاجات الطلابية المتصاعدة تحت السيطرة؛ ومن ناحية أخرى، وقف المظاهر الحتمية لمعاداة السامية في هذا السياق، وعدم خسارة الممولين وغالبيتهم من مؤيدي السياسة الإسرائيلية. وفي عدد من الحالات، يحظى الطلاب المؤيدون للفلسطينيين بالدعم من أعضاء هيئة التدريس ذوي وجهات النظر اليسارية. ويتهم جزء من الطبقة السياسية الأمريكية المتظاهرين في الجامعات بـ”معاداة السامية”، ويستدلون على ذلك، من بين أمور أخرى، برفع المحتجين شعارات معادية لإسرائيل، الحليف الكبير للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ليجد رؤساء الجامعات صعوبة في التعامل مع حرية التعبير، خاصة بعد المحاكمة التي تعرض لها رؤساء جامعات وأدت إلى استقالة كل من رئيسي جامعة هارفارد وبنسلفانيا.

قمع احتجاجات الطلبة

في الوقت الذي تتسع فيه الاحتجاجات المناصرة لفلسطين في الجامعات الأمريكية، تتخذ الإدارة الأمريكية عددًا من الإجراءات الداعمة لإسرائيل والرامية إلى وأد الاحتجاجات، حيث أكد بايدن أن الاحتجاجات لن تجبره على إعادة النظر في تغيير سياساته في المنطقة، وأنه لا مكان لمعاداة السامية في الجامعات الأمريكية، وتتمثل مظاهر الدعم الأمريكي لإسرائيل في:

دعم مواصلة الحرب: يعكس موقف إدارة بايدن من الاحتجاجات الطلابية وقمع الشرطة لها، تمادي الولايات المتحدة في دعم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، حتى لو تطلب الأمر إهدار حق الطلاب في التعبير عن آرائهم وقمعهم بالقوة. وفي 29 أبريل، وقع 21 ديمقراطيا في مجلس النواب رسالة إلى مجلس إدارة كولومبيا يطالبونه “بالتصرف بشكل حاسم” لحل مخيم الاحتجاج هناك، بحجة أن وجوده ينتهك قانون الحقوق المدنية الفيدرالي من خلال خلق “بيئة معادية وغير آمنة بشكل غير مسموح به للطلاب اليهود”.  ونددت الإدارة الأمريكية بخطاب الكراهية ومعاداة السامية في المظاهرات التي تشهدها الجامعات، وترى أن عددا صغيرا من الطلاب المتظاهرين هم من زعزعوا الأوضاع بالجامعة ومن واجب المسؤولين توفير البيئة المناسبة للتعلم، ولا يمكن أن يسمح البيت الأبيض بخطاب معاداة السامية في الحرم الجامعي، وأطلق بايدن استراتيجية لمكافحة معاداة السامية.

إقرار مشروع قانون أمريكي لحماية إسرائيل: أقر مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون “يجرم” وصف إسرائيل بأنها دولة عنصرية، وكذلك يعتبر أية محاولات لعقد مقارنات بين جرائم الاحتلال وسياسة النازيين معاداة للسامية، وتمت الموافقة على مشروع القانون بأغلبية 320 صوتًا مقابل 91 صوتًا، وهو بحاجة لموافقة مجلس الشيوخ ليتم إقراره بشكل نهائي، ووفقًا لهذا التعريف فإن “معاداة السامية هي تصور معين لليهود يمكن أن يتجلى بكراهية تجاههم. تستهدف المظاهر الخطابية والمادية لمعاداة السامية أفرادًا يهودًا أو غير يهود و/أو ممتلكاتهم ومؤسسات مجتمعية وأماكن عبادة”. في المقابل، يرى منتقدو مشروع القانون أن هذا التعريف يحظر انتقادات معينة لدولة إسرائيل، وهو أمر يدافع عنه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست. ويتهم معارضو النص أعضاء الكونجرس بالسعي لإقرار هذا التشريع سريعًا من أجل استخدامه للحد من حرية التعبير في الجامعات الأمريكية. ولكي يصبح هذا النص تشريعًا ساريًا يتعين على مجلس الشيوخ أن يعتمد، وهو أمر لا يزال غير مؤكد، قبل أن يحال إلى الرئيس بايدن لتوقيعه ونشره.

قمع أمني للمظاهرات: استدعت رئيسة جامعة كولومبيا، نعمات منوش شفيق، الشرطة لدخول الحرم الجامعي لتفريق المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين. وقامت شرطة مكافحة الشغب باعتقال أكثر من مئة طالب نصبوا خيامًا في الحرم الجامعي. وقررت إدارة الجامعة وقف الطلاب الذين جرى اعتقالهم، فيما شرع بعض الطلاب في نصب الخيام في أماكن أخرى. وقالت رئيسة الجامعة: “شهد حرم الجامعة حوادث معادية للسامية، وتزايدت حدة خلافاتنا خلال الأيام الأخيرة، حيث جرى استغلال هذه التوترات وتضخيمها من قبل أفراد لا ينتمون إلى جامعة كولومبيا وجاءوا إلى الحرم الجامعي لتنفيذ أجنداتهم الخاصة”. وجاء قرار منوش شفيق باستدعاء شرطة نيويورك لإخلاء المخيم بعد يوم من إدلائها بشهادتها أمام لجنة بمجلس النواب، حيث قالت إن المخيم انتهك القواعد المناهضة للاحتجاجات غير المصرح بها.

ومع إصرار المتظاهرين على حقهم في حرية التعبير بشكل سلمي، تحركت الأصوات المؤيدة لإسرائيل للرد على حركة الاحتجاج. وخلال زيارة لجامعة كولومبيا، حاول رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون طمأنة الطلاب اليهود بشأن مخاوفهم من معاداة السامية في حرم الجامعات. وقال: “إن إسرائيل والطلاب اليهود في الحرم الجامعي لن يقفوا بمفردهم. لا ينبغي للطلاب اليهود مواجهة مثل هذا العنف على الأرض الأمريكية”.

مأزق إدارة “بايدن

تأثير قمع الاحتجاجات على فرص بايدن في الانتخابات: وضعت الاحتجاجات بايدن في موقف صعب لاعتماده للفوز في انتخابات عام 2020 على الشباب، وعلى المسلمين والأمريكيين من أصول عربية. ومع بدء إسرائيل حربها على غزة، أكد بايدن أن الولايات المتحدة الحليف الأكثر ولاءً لإسرائيل، لكن مع سقوط قتلى في صفوف المدنيين بغزة، أعربت شخصيات ليبرالية وشبابية في الولايات المتحدة عن الغضب إزاء استخدام أموال الضرائب لتمويل إسرائيل. وتحث هذه الشخصيات بايدن على الدعوة لوقف دائم لإطلاق النار في غزة ووقف جميع المساعدات لإسرائيل.

وحذر خبراء من أن سياسات بايدن والديمقراطيين تجاه إسرائيل، والتي دفعت آلاف الطلاب في جميع أنحاء البلاد للاحتجاج، يمكن أن تؤثر على تصويت الشباب لصالحه وتضر بفرص إعادة انتخابه. وتظهر استطلاعات الرأي أن دعم الشباب الأمريكيين لبايدن قد تراجع منذ عام 2020، ومن المتوقع أن يزداد سخط الشباب عليه بعد عملية قمع الاحتجاجات، فقبل 6 أشهر من الانتخابات، يسير بايدن على خط رفيع للغاية بين إدانة الاحتجاجات وعدم تنفير الناخبين الشباب التقدميين الذين يحتاجهم.

فيتنام بايدن: قد تكون الاحتجاجات التي تشهدها الجامعات الأمريكية ضد الحرب على غزة هي “فيتنام بايدن”. حيث أثار قمع الاحتجاجات مقارنات مع الاحتجاجات ضد حرب فيتنام في الستينيات، حيث بدأت بشكل صغير، وأصبحت نواة لحراك وطني اجتذب قطاعات عريضة من الأمريكيين، وفرض ضغوطًا هائلة على النخبة الحاكمة لوقف الحرب وانسحاب القوات الأمريكية من فيتنام. أما الاحتجاجات الحالية فهي تتوسع وتتمدد بسرعة إلى مختلف الجامعات الأمريكية وانتقلت إلى كندا وأستراليا وأوروبا، مستلهمة حراكها من الشعارات التي يرفعها الطلاب الأمريكيون.

وبالتالي فإن استمرار الحرب في غزة قد يؤدي إلى انخفاض كبير في دعم الناخبين الشباب لبايدن، مما قد يشكل خطرًا على فرص إعادة انتخابه. واحتمال مقاطعة الناخبين الشباب لانتخابات 2024، مثلما حدث في انتخابات عام 1968 بسبب حرب فيتنام. ومن المقرر أن يعلن الحزب الديمقراطي في أغسطس المقبل ترشح الرئيس جو بايدن رسميًا للانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر المقبل في مدينة شيكاغو. ومن المفارقات أن مدينة شيكاغو شهدت عام 1968، انعقاد مؤتمر ديمقراطي سادته الفوضى على خلفية المظاهرات ضد حرب فيتنام، بعد فترة وجيزة من تخلي الرئيس المنتهية ولايته ليندون جونسون عن الترشح، وخسارة الديمقراطيين الانتخابات بسبب الاحتجاجات الغاضبة من الحرب.

استغلال “ترامب” للاحتجاجات: على وقع التظاهرات الطلابية التي عمت عشرات الجامعات الأمريكية المرموقة، انتقد الرئيس السابق دونالد ترامب هذا الحراك الطلابي. وعقد مقارنة بين احتجاجات الطلبة واقتحام أنصاره مبنى الكابيتول هيل في يناير 2021، ليظهر أن الإدارة الحالية تساهلت في تعاملها مع المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين أكثر من مثيري الشغب. وتساءل ترامب عما إذا كان الطلاب المتظاهرون الذين استولوا على مبنى الحرم الجامعي وحاصروه، وقام بعضهم بتخريبه، هل سيعاملون بنفس الطريقة التي عومل بها مؤيدوه الذين هاجموا مبنى الكابيتول لوقف التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية. تأتي تعليقات ترامب بينما يسعى لاستعادة البيت الأبيض، وسيحاول خلال الفترة المقبلة أن ينسب الفضل إلى وجود بيئة تعليمية أكثر هدوءًا في عهده، ومن المتوقع أن تقوم منظمات مختلفة بتوجيه تبرعاتها إلى المرشحين ولجان العمل السياسي التي تتخذ موقفًا متشددًا بشأن حملات القمع الجامعية، والتحقيقات في “الأموال المظلمة” التي تم ضخها في الاحتجاجات.

على جانب آخر، انتزع الحراك الطلابي الاهتمام الإعلامي من أحداث سياسية كبرى تشهدها الولايات المتحدة، مثل إقرار الادعاء الأمريكي بأن الرئيس السابق انخرط في مؤامرة تنطوي على الاحتيال والأكاذيب والتستر، مع بدء المرافعات الافتتاحية في أول محاكمة جنائية على الإطلاق لرئيس أمريكي سابق. وتشكل القضية خطرًا عليه، إذ تأتي قبل أقل من سبعة أشهر على مواجهته الجديدة مع الرئيس بايدن في نوفمبر.

إدانة الجمهوريين: تمنح الاضطرابات في الجامعات الجمهوريين مادة جديدة لشن هجمات خلال الحملات الانتخابية، حيث يحرضون بشكل سافر على قمع احتجاجات الجامعات الأمريكية. وفي استطلاع للرأي أجرته مؤسسة جالوب في مارس، قال 71% من الجمهوريين إنهم يوافقون على العمل العسكري الذي اتخذته إسرائيل في غزة، مقارنة بـ 36% فقط من الديمقراطيين. ويستغل الجمهوريون الاضطرابات في الحرم الجامعي، ويهاجمون بايدن لفشله في احتواء الاحتجاجات، ويصورون أمريكا على أنها تخرج عن نطاق السيطرة تحت قيادة الرئيس الأمريكي.

انقسام الحزب الديمقراطي: أصبحت الاحتجاجات الأمريكية قضية مثيرة للجدل داخل الحزب الديمقراطي، الذي يعد موطنًا لكل من الدوائر الانتخابية المؤيدة لفلسطين والدوائر المؤيدة لإسرائيل. وبالنسبة للعديد من التقدميين الشباب، أصبح الاحتجاج ضد إسرائيل جزءًا من النضال من أجل العدالة الاجتماعية، حيث ترتبط القضية الفلسطينية بقضايا محلية مثل التمييز العنصري. ووفقًا لاستطلاع للرأي أجراه مجلس شيكاغو للعلاقات الخارجية، فإن 62% من الناخبين الديمقراطيين لا يدعمون أيًا من جانبي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بينما تنقسم نسبة 38% المتبقية بالتساوي تمامًا، بين أولئك الذين يتعاطفون مع إسرائيل وأولئك الذين يقفون مع الفلسطينيين. لكن إذا نظرنا إلى الاتجاه السائد في الرأي العام، يتبين أن النسبة تتجه نحو زيادة عدد المؤيدين لفلسطين. ويتجلى ذلك بشكل خاص بين الشباب، حيث تصل نسبة معارضي المساعدة العسكرية لإسرائيل إلى 45%.

لحظة غزة وتأثيرها على الانتخابات الأمريكية

ساعدت الحرب في غزة على خلق تصور بأن “بايدن” لم يفعل المزيد لوقف الحرب، وأن الصراع كارثة إنسانية لم يتمكن البيت الأبيض من حلها، وهو ما يضاعف التصورات بأن الولايات المتحدة تفقد مكانتها الدولية تحت قيادة “بايدن”. فيما تشكك معظم التقديرات في مدى قدرة السياسة الخارجية على تغيير مسار الانتخابات. حيث يهتم الأمريكيون دائمًا بالقضايا المحلية أكثر من الدولية. وتميل وجهات نظرهم بشأن الأحداث الخارجية إلى أن تكون ضعيفة ومرنة: فعادة ما يقوم الناخبون بمواءمتها لتتناسب مع آراء حزبهم أو مرشحهم المفضل. لكن الحرب في غزة يمكن أن تكون ذات أهمية انتخابية في عام 2024، على نحو قد لا تكون عليه القضايا الدولية الأخرى بما في ذلك الغزو الروسي لأوكرانيا.

وعلى نحو متزايد، أصبح عام 2024 بمثابة انتخابات للسياسة الخارجية. وحتى فيما يتعلق بالسياسة الداخلية، فإن إحدى أهم القضايا هي الهجرة، وهي المنطقة التي تتقاطع فيها السياسة الخارجية والسياسة الداخلية. ويؤكد على ذلك أحد أبرز استطلاعات الرأي، حيث سأل مركز بيو لاستطلاعات الرأي الأمريكيين عما إذا كانوا يعتبرون أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وبين روسيا وأوكرانيا، والتوترات بين الصين وتايوان، مهمة بالنسبة للمصالح الأمريكية. وقال نحو 75% إنها إما مهمة إلى حد ما أو مهمة جدًا للمصالح الوطنية للولايات المتحدة.

وعلى الرغم من عدم تمتع القضايا الخارجية بنفس الأهمية النسبية في كثير من الأحيان، إلا أنها قد تحدث فرقًا. فقد عطلت أزمة الرهائن الإيرانيين مساعي الرئيس جيمي كارتر لإعادة انتخابه عام 1980، واستفاد رونالد ريغان من تصوير كارتر على أنه متساهل مع الشيوعية. وفي عام 1968، أدى الانقسام بين التقدميين الديمقراطيين والوسطيين بشأن حرب فيتنام إلى الإضرار بمرشحهم، هيوبرت همفري، في منافسة كانت محسومة بفارق ضئيل للوصول إلى البيت الأبيض. أما عام 2016، فقد وضع ترامب الاقتصاد والقضايا الداخلية على رأس اهتمام حملته الانتخابية.

وعلى جانب آخر، قد تكون السياسة الخارجية هي السبب الرئيسي في خسارة مرشحيها. وهو ما حدث في عام 1992 عندما لم يكافئ الناخبون جورج بوش الأب بولاية ثانية على الرغم من أنه أشرف على هزيمة صدام حسين على يد قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة في حرب الخليج. في المقابل، يمكن للمرشحين الفوز على الرغم من أخطاء السياسة الخارجية، حيث كان غزو الرئيس جورج بوش الابن للعراق بمثابة مستنقع بحلول محاولته إعادة انتخابه في عام 2004، ورغم ذلك فقد فاز. وحرمت الخسائر التي تكبدتها القوات الأمريكية بوش من حوالي 2% من الأصوات. ولولا إراقة الدماء، لكان بوش قد حقق نصرًا ساحقًا بدلًا من تحقيق فوز ضئيل.

ومع اقتراب انتخابات عام 2008، قال واحد من كل ثلاثة ناخبين لمؤسسة جالوب إنهم صنفوا حرب العراق على أنها “مهمة للغاية”. وقد فاز باراك أوباما المناهض للحرب صراحة بترشيح حزبه والانتخابات الرئاسية. وفي عام 2013، عندما أطلق أوباما حملته الانتخابية لفترة ولاية ثانية، كان هدفه التركيز بشكل مباشر على القضايا الداخلية التي تتماشى مع مشاعر البلاد. وكان الناخبون يضعون القضايا العالمية في أسفل قائمة الأولويات. فقد تسببت الحربان في العراق وأفغانستان في ألم كبير للناخبين الأمريكيين، وتركتهم منهكين، ومعنوياتهم محبطة، بشأن تورط بلادهم في مناطق أخرى من العالم.

قد تكون غزة لحظة أخرى عندما يكون للصراع الخارجي تداعيات داخلية كبيرة، تسلط الضوء على التحديات السياسية التي لا يزال بايدن يواجهها جراء دعمه غير المشروط لإسرائيل مع محاولته تحقيق توازن دقيق بين إدانة معاداة السامية في الجامعات ودعم حق الطلاب في الاحتجاج. والكشف عن تحول تاريخي في الولايات المتحدة فيما يتعلق بدعم مواطنيها لإسرائيل التي لطالما كان انتقادها من المحظورات بينما كثيرون يرفعون أصواتهم اليوم لانتقاد سلوكها والمطالبة بتقييد تزويدها بالأسلحة لوقف إبادة غزة. وبالتالي من الممكن أن يستعيد الرئيس الأمريكي رضا بعض الناخبين الشباب بحلول شهر نوفمبر، إذا تم التوصل إلى اتفاق بين حماس وإسرائيل بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن المحتجزين في غزة بأسرى فلسطينيين. سيسهم ذلك في وضع حد لبعض الاحتجاجات واستعادة الاستقرار في الجامعات. وإذا فشل في التوصل لاتفاق، واستمرت الاحتجاجات في الجامعات، فسوف يعقد الديمقراطيون مؤتمرهم في ظل توتر شديد للغاية في أغسطس المقبل وسط تهديد لمستقبل بايدن في الحصول على فترة رئاسية ثانية.

أخيرًا، أظهر الدعم الشعبي غير المسبوق لغزة وسط الطلاب الأمريكيين عزلة إسرائيل داخل أكبر وأهم حليف لها على الإطلاق، وكشف كذلك عن سقوط السردية الصهيونية رغم الأموال التي ينفقها اللوبي الإسرائيلي للتأثير على الرأي العام الداخلي، فاللوبي وخاصة منظمة “آيباك” لا يزال في صدمة مما يحدث. ما دفعه إلى تحريك أذرعه داخل الكونجرس لاستدعاء رئيسات ثلاث جامعات للإدلاء بشهاداتهن عن التوتر الذي تشهده ساحات الحرم الجامعي. وما يحدث في الجامعات الأمريكية يؤكد أن القمع لن يغير نظرة الطلاب لما يحدث في غزة أو في فلسطين المحتلة، لأن طاقة الاحتجاج تزداد قوة كلما زادت محاولات قمعها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى