تداعيات التصعيد الإيراني الإسرائيليعلى حرب غزة
تعكس تطورات التصعيد الإيراني – الإسرائيلي ارتباطًا بتطورات الأحداث بغزة ومسارات مفاوضات اليوم التالي للحرب، حيث تنعكس ارتدادات هذا التصعيد على متغيرات السياق الراهن الذي كان قد تهيأ قبل أيام قليلة من بدء الهجوم الإيراني ضد إسرائيل للدفع نحو حلحلة وضع المفاوضات الراهنة وكسر جمود مواقف الطرفين (الحكومة الإسرائيلية وحماس)، خاصة فيما يتعلق بمرونة الموقف الإسرائيلي للتعامل مع مطالب حركة حماس في ظل تصاعد الضغط الدولي وخاصة الموقف الأمريكي وكذلك ضغوط الجبهة الداخلية التي شهدت تظاهرات تنادي باستقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، وهو ما أوجد الحاجة لإبداء المرونة التكتيكية لعقد اتفاق هدنة مؤقتة يتم بموجبها إطلاق سراح الأسرى للتخفيف من حدة الضغوط الداخلية، إلا أن تصاعد وتيرة التصعيد العسكري الإيراني – الإسرائيلي كان له تداعياته على مسار المفاوضات وكذلك سيناريوهات اليوم التالي للحرب، وهو ما يمكن إجماله على النحو التالي.
التداعيات ومتغيرات السياق الراهن
ألقت جولات التصعيد العسكري الإيراني – الإسرائيلي خلال الأيام الماضية بظلالها على مشهد المفاوضات الجارية في الوقت الراهن، ارتباطًا بجملة من متغيرات السياق التي خلفتها جولات التصعيد السابقة، وذلك على النحو التالي:
- ترميم شرعية الدعم الإقليمي والدولي لتل أبيب: ساعد الهجوم الإيراني الأخير ضد إسرائيل في ترميم شرعية الدعم الإقليمي والدولي لتل أبيب الذي شهد تآكل حاد على وقع حادث استهداف الجيش الإسرائيلي لقافلة الإغاثة التابعة لمؤسسة “المطبخ المركزي العالمي”، وهو ما دفع الإدارة الأمريكية وغيرها من صناع القرار الغربيين بالضغط على إسرائيل لضرورة الشروع وإبداء المرونة لعقد اتفاق هدنة يقود لوقف دائم لإطلاق النار، وانعكس ذلك على الموقف الإسرائيلي خلال الأيام الماضية في التعامل مع شروط اتفاق الهدنة الذي ترعاه القاهرة، إلا أنه خلال الساعات الماضية منذ بدء الهجوم الإيراني ضد إسرائيل توالت ردود الأفعال الغربية الداعمة لإسرائيل في حقها للدفاع عن نفسها ضد التهديد الإيراني وأذرعها الإقليمية، وهو ما سيكون له تأثيره على الموقف التفاوضي لتل أبيب خاصة في ضوء التقارير التي تفيد برفض حركة حماس للاقتراح الذي رعته كل من مصر والولايات المتحدة وقطر خلال مفاوضات القاهرة الأخيرة.
- استعادة زخم مواجهة محور “الشر الإيراني” على مستوى الداخل الإسرائيلي والإقليم: اكتسب التصعيد الإيراني ضد إسرائيل حالة من الزخم على مستوى الداخل الإسرائيلي الذي شهد حالة استنفار قصوى للتصدي للهجمات الإيرانية أمس، وهو ما سيساعد بشكل محدود في كسر ضغوط الشارع الإسرائيلي المطالب باستقالة الائتلاف الحكومي، وكذلك المساعدة في تخفيف التوترات والانقسامات داخل الائتلاف المتوحد في اللحظة الراهنة لمواجهة ما يسموه بـ “محور الشر الإيراني”، وانعكس ذلك من خلال ردود فعل المسؤولين في حكومة الحرب، والتي أكدت على ضرورة الرد على الضربة الإيرانية بقوة واستغلال حالة الزخم الدولي الذي يوفر بدوره شرعية سياسية لتل أبيب لضرب إيران. أيضًا على مستوى الإقليم تدفع العديد من التحليلات الإسرائيلية بأهمية المكتسب المتحقق جراء الهجوم الإيراني أمس والذي ساهم في تنسيق ما أشبه بالتحالف الذي قادته الولايات المتحدة ومعها بريطانيا وبعض الدول الأوروبية بالتنسيق والتعاون مع دول الإقليم وفي مقدمتها دولة الأردن التي اعترضت عبر مجالها الجوي عدد من المسيرات الإيرانية، على نحو يشكل فرصة – بحسب هذه التحليلات – بأن تستخدم الإدارة الأمريكية نجاح التحرك المنسق مع المنطقة كوسيلة لتعزيز رؤيتها لـ “اليوم التالي للحرب” كهدف استراتيجي والرد الأكثر فعالية على إيران.
- تنشيط محور المقاومة وتفعيل مبدأ “وحدة الساحات”: أحيت الضربة الإسرائيلية غير المسبوقة للقنصلية الإيرانية، وما تبعها من تصعيد إيراني مضاد، رهان حركة حماس على انفجار الأوضاع وتفعيل مبدأ “وحدة الساحات” بالنظر إلى مشاركة وكلاء إيران بدول ما يسمى بـ “محور المقاومة أو الممانعة” في كل من اليمن والعراق ولبنان، وكان لذلك دوره في التأثير على مرونة الموقف التفاوضي لحماس للقبول باتفاق الهدنة المقترح، وذلك بحسب بيان مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو اليوم، الذي أكد خلاله على تلقي رد سلبي من جانب حماس على مقترح الهدنة، مشددًا على أن إسرائيل “ستواصل بكل قوة سعيها إلى تحقيق أهداف الحرب ضد حماس، وستبذل قصارى جهدها لإعادة المختطفين الـ 133 من غزة في أقرب وقت ممكن”، وهو ما يمثل تمهيدًا لعملية اجتياح بري وشيك لرفح.
المسارات والسيناريوهات المحتملة
تكشف متغيرات السياق السابقة، عن اتجاه مسارات الأحداث في قطاع غزة على وقع التصعيد العسكري الإيراني – الإسرائيلي، نحو عدد من المسارات والسيناريوهات المحتملة، التي يمكن إجمالها على النحو التالي:
- استكمال الأعمال العسكرية وتوقف المسار السياسي: يبدو أن سرعة إصدار مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي في 14 أبريل 2024 بيانًا يؤكد الرد السلبي لحركة حماس على المقترح المقدم من الوسطاء الثلاث بشأن اتفاق هدنة مؤقتة بحسب البيان، يشي باحتمالية الاتجاه الإسرائيلي نحو تنفيذ عملية اجتياح بري لمدينة رفح، والنزوع نحو السيناريو التصعيدي، لعدة اعتبارات، أولها، الموقف العملياتي داخل قطاع غزة، حيث أعلن الجيش الإسرائيلي في 14 أبريل الجاري (2024)، عزمه تجنيد لواءين احتياطيين للمهام العملياتية في قطاع غزة خلال الأيام المقبلة، هذا بالإضافة إلى تواتر عدد من التقارير تتحدث عن سماح الجيش الإسرائيلي بعودة النازحين الفلسطينيين لشمال القطاع، وهو ما أوردته العديد من وكالات الأنباء منذ الأحد 14 أبريل من خلال فيديوهات مصورة لجموع كبيرة من النازحين تتحرك صوب شمال القطاع، إلا أنه سرعان ما عاد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي آفيخاي أدرعي لينفي هذه التقارير. ثاني هذه الاعتبارات، الموقف الدولي، حيث تعزز متغيرات السياق الراهن المتعلقة بالموقف الدولي، وكذلك الداخل الإسرائيلي المتوقع أن يتبع الهجوم الإيراني ردًا إسرائيليًا، من فرص هذا السيناريو، خاصة وأن الموقف الأمريكي بحسب ما تداولته العديد من التقارير للصحف الإسرائيلية لا يدعم ولن يشارك في هجوم عسكري ضد إيران، بل ويدفع بأن يتم اعتبار الدفاع ضد الهجوم الإيراني “انتصارًا” بالإضافة إلى تنسيق ردًا دبلوماسيًا موحدًا مع قادة مجموعة السبع، وهو ما قد لا تكتفي به الحكومة الإسرائيلية كرد ضد الهجوم، حيث من المتوقع أن تروج إسرائيل – في ضوء تجدد شرعية الدعم لموقفها إقليميًا ودوليًا – بأن القضاء على حركة حماس باعتبارها أحد أذرع محور “الشر الإيراني” أصبح ضرورة ملحة لاستعادة ترميم معادلة الردع الداخلي، وبالتالي الدفع نحو عملية اجتياح بري لمدينة رفح لاحكام سيطرتها العسكرية على كامل القطاع وتفكيك ما تبقى من الترسانة العسكرية لحركة حماس. ثالث هذه الاعتبارات، موقف الداخل الإسرائيلي، حيث يبدو أن المعارضة الإسرائيلية تتجه في الوقت الراهن لدعم هذا الخيار إلى جانب أعضاء الائتلاف، حيث عبر قادة المعارضة في أعقاب الهجوم الإيراني عن ضرورة أن تعيد إسرائيل الأسرى دون حصر ذلك عبر المسار السياسي، حيث عبر زعيم المعارضة يائير لابيد، عن إشادته بالجيش الإسرائيلي في التصدي للهجوم، مؤكدًا ” أن دولة إسرائيل ملتزمة بالعمل لإعادة 133 مختطفاً إلى منازلهم في اسرع وقت ممكن”، وهو ما أكده أيضًا جدعون ساعر، زعيم حزب “الأمل الجديد” المنشق مؤخرًا عن حكومة الحرب، في منشور له، قائلاً: “ليس على إسرائيل أن تتعجل في الرد وأن تعطل ترتيب الأولويات التي حددتها لنفسها. والآن يجب أن يعود التركيز إلى القرار في غزة: هزيمة حماس وإطلاق سراح المختطفين”، مشيرًا إلى أن “هذا هو الشيء الصحيح والذكي الذي يجب القيام به”.
- دفع اتفاق هدنة مؤقتة لتحرير الأسرى وتخفيف ضغط الشارع الإسرائيلي: قد ترى إسرائيل في المسار السياسي عبر المفاوضات خيار أقل كلفة مقارنة بالمسار العسكري الذي قد يؤدي إلى ارتفاع عدد القتلى في صفوف الأسرى الإسرائيليين، هذا فضلا عن التوتر المحتمل لعلاقاتها مع دول جوارها الإقليمي، التي تؤكد رفضها لأي عملية عسكرية في رفح من شأنها أن تزيد من الضغوط على حدودها وتضر بأمنها القومي، بفعل التدافع المحتمل من جانب النازحين لاختراق الحدود، وهنا يمكن أن تلعب دولة الأردن دورًا إيجابيًا خاصة في ظل موقفها الإيجابي تجاه تل أبيب في التصعيد الأخير وتصديها لهجمات المسيرات الإيرانية في مجالها الجوي، على النحو الذي عكس في الإدراك الإسرائيلي، وعبرت عنه العديد من التحليلات والتقديرات الإسرائيلية، أهمية تحقيق معادلة الردع والأمن الإسرائيلي من خلال التنسيق مع الشركاء الإقليميين، وهو ما يستوجب أن تراعي في المقابل تل أبيب مصالح هؤلاء الشركاء.
- تقديم التنازلات من جانب حركة حماس للقبول بهدنة إنسانية مؤقتة: قد تعوّل تل أبيب في ضوء تبدل مواقف الدعم الإقليمي والدولي على وقع الهجوم الإيراني الأخير ضدها، على النحو المشار إليه سلفًا، بأن يكون هناك ضغط سياسي إقليمي ودولي تجاه حماس، وذلك في إطار سعي هذه الأطراف لمنع تصعيد الصراع لحرب إقليمية ستضر بمصالحهم، واعتبار أن هذا الضغط هو المكافئ للضغط العسكري الذي تعوّل عليه تل أبيب خلال السيناريو الأول، وهو ما قد يُعيد، بحسب تصورهم، مرونة الموقف التفاوضي لحركة حماس خاصة إذا تعزز لها الإدراك بالاحتمال الضعيف لمشاركة وتفعيل “وحدة الساحات” لما يسمى محور المقاومة، إذا ما أقدمت تل أبيب على الشروع في عملية اجتياح بري لمدينة رفح، حيث ليس من المتوقع أن تصّعد إيران هجماتها ضد إسرائيل إذا لم تمس مصالحها بشكل مباشر، وهي المعادلة التي رسختها خلال الأيام الماضية خلال جولات تصعيدها مع إسرائيل، بأن تجاوز الخطوط الحمراء بالنسبة لها ليس باستهداف حركة حماس وحركات المقاومة الفلسطينية الأخرى، وإنما باستهداف المصالح والأهداف ذات الرمزية المباشرة للسيادة الإيرانية.
إجمالًا، فرضت جولات التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل خلال الأيام الماضية، حسابات معقدة على مسارات التسوية في إطار ما يُعرف بـ “سيناريوهات اليوم التالي” للحرب في غزة، فمن ناحية مهدت الطريق وعززت مساحة الحركة الإسرائيلية للنزوع إلى السيناريو التصعيدي العسكري، في ضوء نجاحها في ترميم موقف الدعم الدولي و(الإقليمي المحدود إلى حد ما)، الذي كان يحول دون شروعها في هذا السيناريو، ومن ناحية أخرى، قد يكون أسهم في تعزيز مرونة الموقف الإسرائيلي تجاه المطالب الأمريكية بشأن تصورها لليوم التالي، خاصة في ظل تعزز الحاجة الإسرائيلية للدعم الأمريكي (السياسي والعسكري) الذي أثبتت جولات التصعيد السابقة أنه لا غني عنه إذا ما قررت تل أبيب الاعتماد على قدراتها الذاتية ضد التهديدات الأمنية الإيرانية، في مسار حركة مستقلة عن واشنطن، هذا فضلًا عن استعادة الزخم لأهمية مشروعات السلام الإقليمي بالنسبة للأمن الإسرائيلي، خاصة في ظل الدعم الذي قدمته دولة الأردن على النحو المشار إليه سلفًا، وبالتالي ستتحدد هذه الرؤى بشأن مآلات هذه التطورات الخاصة بالحرب ضد غزة على وقع الموقف الإسرائيلي ومسارات حركته سواء بالتصعيد أو الانصياع لمقتضيات اللحظة الإقليمية والدولية الراهنة التي ستدعمها واشنطن.