إذا عدنا للخلف قليلًا، وبالتحديد شهر فبراير الماضي، الذي أجرى خلاله الحرس الثوري الإيراني مناورة تحاكي هجومًا بالصواريخ الباليستية على قاعدة “بالماخيم” الجوية الإسرائيلية جنوب تل أبيب، والتي تعد القاعدة الأساسية لتمركز مقاتلات “إف-35” الأحدث في الترسانة الجوية الإسرائيلية؛ نجد أن هذه المناورة، التي تضمنت استهداف مواقع هيكلية، مطابقة لمناطق تخزين هذه المقاتلات داخل قاعدة “بالماخيم”، مرت بشكل عابر دون أن يلتفت أغلب المحللين إلى أهميتها، كدليل على وضع القواعد الجوية الإسرائيلية على رأس الأولويات الإيرانية على المستوى الصاروخي.
هذا المنظور تعزز بشكل أكبر من خلال مجريات الغارة الجوية التي شنتها المقاتلات الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية، والتي استخدمت فيها مقاتلات من نفس الطراز، وبالتالي يمكن النظر للغارة الصاروخية الإيرانية على إسرائيل أمس -من حيث الشكل- من هذا المنظور. يضاف إلى ذلك أن هذه الغارة تعد عمليًا أكبر هجوم بالطائرات المسيرة في التاريخ العسكري، وهو ما قد يعزز بشكل أو بآخر الانطباع الحالي حول أداء المسيرات الإيرانية في عدة ميادين قتال، مثل الميدان الأوكراني، وقبله الميدان الإثيوبي والسوداني.
لكن بالنظر إلى هذا الهجوم من حيث المضمون، نجده مطابقًا في نواحٍ كثيرة للضربة الصاروخية الإيرانية لقاعدة “عين الأسد” الأمريكية في العراق عام 2020، خاصة فيما يتعلق بغياب عنصر المفاجأة. فقد ظهرت مؤشرات واضحة لدى واشنطن وتل أبيب حول وجود احتمالات جدية لتنفيذ عمليات إطلاق للمسيرات والصواريخ ضد إسرائيل من إيران في هذا التوقيت بالتحديد، وبالتالي توفر لكافة الأطراف وقتًا كافيًا للاستعداد لهذه الضربة وتداعياتها.
مجريات “الضربة الصاروخية” الإيرانية
تم تنفيذ الضربة الإيرانية بنسق “مركب”، روعي فيه الحفاظ على مبدأ “وحدة الساحات”، وفي نفس الوقت استخدام كافة الجبهات المتاحة، فصباح يوم العملية، سيطرت القوات الخاصة التابعة لبحرية الحرس الثوري على سفينة الحاويات “MCS Aries”، عبر إنزال تم من مروحية عسكرية، وتعود ملكية هذه السفينة إلى شركة Zodiac Maritime ومقرها لندن، التي تعد بدورها جزءًا من مجموعة Zodiac التابعة للملياردير الإسرائيلي إيال عوفر.
في حدود الساعة العاشرة من مساء نفس اليوم، أطلقت إيران ثلاث موجات متتابعة من الطائرات المسيرة والصواريخ الجوالة، بإجمالي يتراوح بين 200 و400 مسيرة وصاروخ جوال، تم رصدها تباعًا في أجواء مناطق عراقية عدة منها ميسان والناصرية وذي قار وديالى والسليمانية وواسط والنجف، انطلاقًا من عدة مناطق إيرانية خاصة كرمنشاه ودوكوهه، تبعها صليتان من الصواريخ الباليستية، تقدر كل واحدة منها بنحو 70 – 80 صاروخًا باليستيًا متوسط المدى، تم إطلاقها من مواقع شمال وشمال غرب إيران، وتحديدًا أصفهان وشيراز وكرمانشاه وقزوين وسربول ذهب وتبريز، ويعد معسكر “أمير المؤمنين” جنوب غرب طهران، هو مركز عمليات الإطلاق.
تزامنت عمليات الإطلاق مع أنباء عن عمليات إطلاق لطائرات مسيرة من اليمن، وإطلاق صواريخ من العراق، لكن لم تظهر دلائل واضحة على صدقيتها أو وصول أي من وسائطها إلى إسرائيل، في حين نفذ حزب الله عمليات صاروخية محدودة استهدفت مقر الدفاع الجوي في موقع “كيلع” العسكري في الجولان السوري بالصواريخ، ومناطق أخرى في الجليل الأعلى.
درجة استعداد إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية للتعامل مع هذا الوضع ظهرت من خلال الوجود السريع لطائرات التزويد بالوقود الأمريكية في الأجواء العراقية، وطائرات التزود بالوقود البريطانية في شرق المتوسط انطلاقًا من قاعدة “أكروتيري” في قبرص، حيث قدمت هذه الطائرات الدعم للمقاتلات الأمريكية والبريطانية التي عملت في الأجواء الأردنية والسورية والعراقية؛ بهدف إعطاء الأولوية لاعتراض الصواريخ الجوالة، التي تحتاج إلى ساعتين فقط للوصول إلى إسرائيل، في حين كانت الأولوية التالية لاعتراض الطائرات المسيرة، التي تحتاج إلى ما بين 6 إلى 8 ساعات للوصول إلى إسرائيل، أما مهمة التصدي للصواريخ الباليستية، فقد تولتها منظومات “حيتس”.
على مستوى القدرات التسليحية المستخدمة، يمكن تقسيمها إلى قسمين: الأول يضم الطائرات المسيرة والصواريخ الجوالة، والثاني يضم الصواريخ الباليستية. بالنسبة للقسم الأول، تم تأكيد استخدام نوعين من أنواع المسيرات والصواريخ الجوالة، وذلك عبر التسجيلات المصورة التي نشرها الجيش الإسرائيلي، لعمليات الاعتراض الجوي لبعضها. كان جوهر هذه الوسائط هي الذخائر الجوالة “شاهد-136”، التي يبلغ مداها 2500 كيلو متر، والتي رغم مداها الكبير، فإن رأسها الحربي صغير نسبيًا، وتتراوح زنته بين 40 و50 كيلو جرامًا.
لم يتم تسجيل وصول أي منها إلى الأراضي الإسرائيلية، ومن الواضح أن الغرض الأساسي من إطلاقها، كان “إشباع” أو “استنزاف” الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وإفساح المجال لوصول الصواريخ الباليستية، خاصة في ظل بيئة تشويش كبيرة فرضتها إسرائيل على منظومة تحديد المواقع العالمية “جي بي إس” منذ أسابيع. بالنسبة للصواريخ الجوالة، استخدمت طهران الصاروخ الجوال “ياوه”، وهو أحدث صواريخ عائلة “سومار”، ويبلغ مداه الأقصى 1650 كيلو متر.
أما على المستوى الباليستي، وبالنظر إلى تسجيلات مصورة نشرها الإعلام الإيراني لعمليات إطلاق الصواريخ، وكذا تحليل بقايا الصواريخ التي تم أسقاطها في عدة مناطق بالعراق وسوريا والأردن، يمكن القول إنه تم استخدام أربعة أنواع من الصواريخ الباليستية: الأول هو الصاروخ الباليستي متوسط المدى “عماد”، والذي يعمل بالوقود السائل، ويعد نموذجًا مطورًا من صواريخ “شهاب-3″، وتم الإعلان عنه عام 2015، ويصل مداه إلى 1700 كيلومتر، بهامش خطأ لا يتجاوز عشرة أمتار. النوع الثاني هو الصاروخ الباليستي متوسط المدى “خيبر شكن”، الذي تم الإعلان عنه للمرة الأولى عام 2022، ويعمل بالوقود الصلب، ويبلغ مداه 1450 كيلو متر، ومزود برأس حربي قابل للانفصال، وقد تم استخدام هذا النوع من الصواريخ لقصف مواقع في مدينة أربيل العراقية في يناير الماضي.
النوع الثالث هو الصاروخ الباليستي متوسط المدى “غدير-1″، ويبلغ مداه 1900 كيلو متر، وهو عامل بالوقود السائل، وهو تطوير للصاروخ الباليستي قصير المدى “شهاب-1”. النوع الرابع والأخير، يحتمل أن يكون الصاروخ الباليستي متوسط المدى “دزفول”، والذي تم الكشف عنه للمرة الأولى عام 2019، ويبلغ مداه 1000 كيلو متر، ويحمل رأسًا حربيًا يزن 700 كيلوجرام، ويمتلك القدرة على الوصول لبعض النقاط المحدودة في إسرائيل. جدير بالذكر هنا، أن بعض البقايا التي تم العثور عليها في الأردن، رجحت استخدام نوع خامس من أنواع الصواريخ الباليستية، ألا وهو صاروخ “رضوان” الباليستي، وهو تطوير لصواريخ “سكود” السوفيتية، ويعمل بالوقود الصلب، ويبلغ مداه 1400 كيلو متر.
وبالنظر إلى عدم تمكن الصواريخ الجوالة أو الطائرات المسيرة من الوصول إلى أهدافها، يمكن القول إن نقطة الزخم الأساسية للصواريخ الباليستية الإيرانية كانت تركز على المثلث الرابط بين القواعد الجوية الإسرائيلية في النقب “رامون – نيفاتيم – حتسريم”، خاصة قاعدتي رامون ونيفاتيم، نظرًا لارتباط هذه القواعد بشكل رئيس أولًا بوجود أسراب مقاتلات “إف-35″، وثانيًا لارتباطها العملياتي بالنشاط الجوي في قطاع غزة.
وقد أظهرت صور الأقمار الصناعية تعرض المدرج الفرعي لقاعدة “نيفاتيم” الجوية، وثلاثة مباني أخرى داخل القاعدة، لأضرار متوسطة. وعلى الرغم من وجود أنباء عن تعرض قاعدة “رامون” الجوية في النقب، لعدد من الصواريخ يتراوح بين ثلاثة وسبعة، إلا أن الصور الجوية لم تظهر حتى الآن لحاق أية أضرار بالقاعدة نفسها، ويرجح أن تكون هذه الصواريخ قد سقطت في مناطق أخرى قرب مدينة بئر السبع وفي النقب. على مستوى الخسائر البشرية، فقد اقتصرت على أصابه بالغة لطفلة عمرها 10 سنوات في النقب، أصيبت سيارة كانت بداخلها، من جراء سقوط شظايا صاروخ اعتراضي.
هنا لابد من التنويه أنه رغم ضآلة الأضرار التي لحقت بهذه القاعدة، إلا أن وصول الصواريخ لها، ودقة الإصابة التي تعرض لها المدرج الفرعي، تشي بإن الهدف الأساسي من هذه الضربة كان إيصال هذه الرسالة، دون التسبب في أضرار بشرية “بالنظر إلى المؤشرات العديدة على قرب تنفيذ هذه الضربة”، وحقيقة أن كافة مقاتلات سلاح الجو الإسرائيلي كانت محلقة في الجو لاعتراض الصواريخ الجوالة والطائرات المسيرة، بجانب إقلاع الطائرة الحكومية الإسرائيلية الخاصة برئاسة الوزراء، من قاعدة “نيفاتيم” قبيل بدء الضربة الإيرانية.
بالنظر إلى نتائج هذه الضربة، يمكن القول إنها تعد من حيث الشكل، تطورًا هائلًا على مستوى توازن الردع بين طهران وتل أبيب، لكن على المستوى العسكري لم تحقق هذه الضربة خسائر معتبرة أو نوعية في الجانب الإسرائيلي، إلا تكبيد إسرائيل تكاليف كبيرة تتعلق بالتكلفة المادية الخاصة بالعمليات الجوية والصاروخية التي اضطر سلاح الجو والدفاع الجوي الإسرائيليين لتنفيذها في هذه الليلة.
وهنا يمكن القول إنه بجانب الرسالة المتعلقة باستهداف قاعدة انطلاق الطائرات التي نفذت غارة دمشق الأخيرة، تشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن عمليات الاعتراض قد كلفت الجيش الإسرائيلي نحو مليار دولار، وهي تكلفة باهظة بالنظر إلى حالة الاستنزاف الحالية التي يعاني منها الجيش الإسرائيلي، نتيجة العمليات في قطاع غزة.
حالة الاستنفار والتوتر التي عاشتها الجبهة الداخلية في إسرائيل خلال هذه الضربة، كانت لافتة أيضا، فبالنسبة للإسرائيليين الذين جلسوا في منازلهم مساء يوم 13 أبريل، كان معايشة هذه الأحداث أمرًا غير مسبوق منذ عام 1991. بشكل عام كان هذا الهجوم متوقعًا، وكان الجيش الإسرائيلي في حالة تأهب قصوى، كما أن طهران على علم تام أن الوسائط الجوية الأمريكية والبريطانية جاهزة بشكل دائم للتصدي لأية وسائط جوية قادمة نحو إسرائيل من أي اتجاه، خاصة أنه تم استخدام الطائرات المسيرة بطيئة السرعة في بداية تنفيذ هذه الضربة.
إلا أن هذا الهجوم على الجانب الآخر، يعد تدشينًا لمرحلة جديدة يتم فيها إعادة تقييم وتعيين قواعد الاشتباك بين الجانبين، ليكون مسرح الرد المتبادل بينهما هو الأراضي الإيرانية وأراضي فلسطين المحتلة، وليس أراضي دول أخرى. طبيعة الرد الإسرائيلي على هذه الضربة، ستكون العامل الأساسي في تحديد المستوى الذي ستستقر عليه قواعد الاشتباك بين الجانبين خلال المدى المنظور، علمًا أن دلائل عدة تشير إلى رغبة أمريكية في تحجيم الموقف إلى الحد الحالي.