التوترات في الشرق الأوسط: انعكاسات متوقعة على أسواق الطاقة
مصطلح أمن الطاقة العالمي ليس أمرًا جديدًا في السياسة الدولية، فالصراعات حول موارد الطاقة العالمية كانت منذ فترة طويلة -وما زالت- تُشكل عنصرًا مهمًا في الأزقة الدولية للدول الكبرى. لكن هذا المصطلح أصبح اليوم يمثل واحدًا من أهم عناصر أمن العالم، وذلك بسبب محدودية موارد الطاقة غير المتجددة واختلال مناطق توزيعها عالميًا. بالإضافة إلى إن حركة أسعار النفط تتأثر بالأحداث التي لا تتعلق بصورة مباشرة بعمليات العرض، بدءًا من الأحداث الجيوسياسية، مثل حالات عدم الاستقرار الإقليمي أو الجيوسياسي، وبالأخص عندما يتعلق الأمر بالمنابع النفطية الكبري مثل منطقة الشرق الأوسط. بالإضافة إلى إن الشرق الأوسط هي منطقة ذات أهمية كبيرة على الساحة الدولية، وتأثيرها يمتد إلى مجموعة متنوعة من المجالات، بما في ذلك الاقتصاد والسياسة والأمن العالمي، تحدياتها وأحداثها تلعب دورًا مهمًا في تشكيل العالم الحديث ومستقبله، وبالأخص فيما يتعلق بأمن الطاقة العالمي.
لأيامٍ عديدة ظلت أسعار النفط الخام العالمية رهينة مخاوف متصاعدة جراء رد إيراني -مُحتمل حينها- على الغارة التي استهدفت مقر القنصلية الإيرانية في دمشق، وذلك وسط سيناريوهات مختلفة بشأن مدى تأثير ذلك الرد من قبل طهران على المستويات السعرية للنفط الخام، بالإضافة إلى المخاوف المرتبطة بتداعيات ذلك على حركة النفط الخام من خلال المضائق البحرية في المنطقة وبالأخص مضيق هرمز. إلى أن جاء الهجوم الإيراني على إسرائيل مخالفًا للعديد من التوقعات والتقديرات التي ضغطت بشكل كبير على أسعار النفط الخام عالميًا، والتي جعلت الأسواق العالمية تحبس أنفاسها ترقبًا لهذا الرد الذي ظل محدودًا وبشكل نسبي، وذلك مقارنة بتلك التوقعات السابقة.
ولكن ما مدى تأثير ذلك على محور إمدادات النفط من المنطقة، وذلك وسط مخاوف من أن تؤدي تلك الأحداث المتتالية إلى زيادة التوترات في منطقة الشرق الأوسط “الأمر متعلق بلاعب رئيس في أسواق النفط الخام”، مما قد يؤثر على إنتاج كبار منتجي النفط، وفي وقت كثر الحديث عن دخول النفط الإيراني اللعبة، بما يطرح سؤالًا مهمًا: هل ستنعكس خطوات التصعيد الأخيرة أمس “وإن كانت محدودة” على أسواق النفط العالمية؟، وما هي أهمية النفط الإيراني؟
مكانة إيران النفطية
تمتلك إيران احتياطيات كبيرة من النفط الخام في العالم، حيث تُصنف من بين قائمة الكبار في إنتاج النفط على مستوى العالم، فتأتي في المرتبة الثالثة بعد فنزويلا والسعودية بين دول أوبك من حيث الأكثر امتلاكًا للاحتياطيات النفطية المؤكدة، إذ تستحوذ طهران على حصة قدرها نحو 14%. ويُقدر إجمالي احتياطيات النفط الخام القابلة للاستخراج لدى إيران بحوالي 157.8 مليار برميل، وذلك حتى نهاية عام 2022، بالإضافة إلي إنها تمتلك حوالي 21 مصفاة غاز، و10 مصافي نفط، ولديها القدرات التقنية التي تمكنها من بناء مصافي أخرى.
وعن تأثير التوترات والأحداث الجارية على النفط الإيراني، نجد أن طهران تلتف بصعوبة على العقوبات، ورغم أن وجهات وكمية مبيعات النفط الإيراني غير واضحة، إلا أن واشنطن قد تُعطل مبيعات النفط ونقل عائداتها إلى إيران إذا وصلت الأزمة إلى نقطة الغليان وأغلقت إيران مضيق هرمز ستعاني ناقلات النفط في هذه المنطقة وستتضرر منطقة الشرق الأوسط بشكل كبير.
ونجد إن إنتاج النفط الإيراني قد ارتفع منذ بداية العام الحالي بأكثر من حوالي 700 ألف برميل يوميًا، مسجلًا بذلك أعلى مستوياته في خمس سنوات عند نحو 3.2 ملايين برميل يوميًا، بعد أن استفادت طهران من انحسار حدة التوترات مع واشنطن، وغض الإدارة الأمريكية الطرف عن صادرات النفط الإيراني “قد تختلف خلال الفترة المقبلة”، في خطوة ربطها البعض في رغبة إدارة بايدن في الحد من صعود أسعار الخام.
الأزمة لم تصل بعد إلى نقطة الغليان، لأنه لا يوجد سوى تهديدات ثنائية، فربما تكون أحداث أمس بمثابة إنذار لأسواق النفط الخام، غير أن هذا الأمر سيحد من حركة الدخول والخروج من مضيق هرمز ويؤثر على أسعار النفط.
حركة أسعار النفط الخام وانعكاسات متوقعة
منذ بداية العام الحالي 2023، تشهد أسواق النفط العالمية حالة من عدم الاستقرار، حيث جاءت التطورات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط وبالتحديد تداعيات الحرب على غزة لتعكس مسارًا جديدًا في حركة أسعار النفط ومشهد الطاقة العالمي بشكل عام، فقد أنهت أسعار النفط في نهاية الأسبوع الماضي، على ارتفاع خلال التعاملات الأسبوعية حوالي 1%، وذلك تأثرًا بتصاعد المخاوف والتوترات في منطقة الشرق الأوسط.
ولكنها سجلت خسائر أسبوعية بفعل العديد من الأسباب والتي من ضمنها التوقعات السلبية من وكالة الطاقة الدولية لنمو مستويات الطلب العالمي على النفط الخام، بالإضافة إلى المخاوف بشأن تباطؤ تخفيضات أسعار الفائدة الأمريكية، علاوة على التقديرات المرتبطة بالطلب العالمي على النفط الخام، وكذلك الطلب في الصين (حوالي 1.3 مليون برميل يوميًا من النفط الخام).
ولكن صعدت العقود الآجلة لخام برنت حوالي 70 سنتًا مسجلة 90.5 دولار للبرميل الواحد، في حين زادت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط الأميركي حوالي 65 سنتًا إلى 85.7 دولار، وذلك عند التسوية الجمعة الماضية. وتراجع خام برنت حوالي 0.8% على أساس أسبوعي مقابل انخفاض بأكثر من 1% للخام الأمريكي.
والجدير بالذكر أنه قبل استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق في مطلع أبريل الجاري، كانت أسعار النفط تدور في نطاق سعري في حدود حوالي 85 دولارًا للبرميل النفطي الواحد بالنسبة للعقود الآجلة لخام غرب تكساس الأميركي الوسيط تسليم مايو، وحوالي 88.9 دولارًا للبرميل لخام برنت. وفي تعاملات الخامس من شهر أبريل الجاري، تجاوز خام برنت الـ 90 دولارًا للبرميل النفطي الواحد، وذلك للمرة الأولى منذ منتصف العام الماضي، وذلك تحت ضغط التطورات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.
وفي نهاية الأسبوع قبل الماضي سجلت أسعار النفط مكاسب أسبوعية وذلك بعد توعد طهران، وهي ثالث أكبر منتج في منظمة البلدان المصدرة للبترول بالرد، حيث أنهت العقود الآجلة للخام الأمريكي تعاملات الأسبوع عند التسوية 86.9 دولار للبرميل، وعند حوالي 91.2 دولار للبرميل بالنسبة لخام برنت.
تحتضن منطقة الشرق الأوسط نحو 75% من مخزون النفط الخام في العالم (جودة مرتفعة)، وتُشكل أهمية الشرق الأوسط محورًا هامًا في صناعة النفط الخام وذلك لأن حوالي 90%من النمو في العرض النفطي سيأتي من المنطقة (منطقة منبع أساسية)، حيث تمتلك منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حوالي 57% من الاحتياطيات المؤكدة من النفط الخام وحوالي 41% من الغاز الطبيعي.
ووفقًا لما سبق، تلعب مصادر الطاقة دورًا رئيسًا في توازن القوى والمصالح الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يخلق مجالًا ملتهبًا ومحفزًا للتنافس على هذه المصادر، وعلى وجه الخصوص (النفط الخام والغاز الطبيعي)، وخاصة في المواقع التي تتقاطع عندها المصالح والأهداف. حيث إن التوترات الأخيرة والتي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وبالإضافة إلى الضربات الإيرانية الأخيرة، فإنذلكمنشأنهأن يكون له تأثير مباشر على أسعار النفط، وذلك بالنظر إلى مدى تصاعد الأحداث خلال الفترة المقبلة “الرد الإسرائيلي المحتمل”، بالإضافة إلى تحذير الرئيس الأمريكي جو بايدن يوم السبت الماضي وذلك بالتزامن مع دخول بريطانيا والولايات المتحدة خط الدفاع الأول عن تل أبيب، تلك العوامل من شأنها أن تزيد من حالة عدم الاستقرار بالنسبة للأوضاع في منطقة الشرق الأوسط ، فضلًا عن احتمالات دخول موسكو أيضًا على الخط وذلك من خلال التصريحات الإعلامية السابقة والتأكيد على دخولها الحرب حال وقوع حرب على طهران.
وبالنظر إلى نطاق الصراع الحالي، نجد أن الصراع الحالي (وإن كان محدود التأثير لإنه لا يوجد تدخل عسكري مباشر) يُمثل تهديدًا مباشرًا على خطوط الإمدادات النفطية، أو مصادره الرئيسة في المنطقة، فإن الأسواق النفطية تنظر إلى الأبعد من ذلك تحديدًا، إذ إن هناك العديد من المخاوف بشأن احتمالية توسع نطاق الصراع.
وعليه، تترقب الأسواق النفطية بدء التعاملات الجديدة المبكرة، وذلك لترجمة انعكاسات الرد الإيراني وتأثيره على الأسواق بشكل عملي. ومن المتوقع أن تطرأ ارتفاعات متواضعة لأسعار النفط، وذلك بسبب تصاعد حدة التوتر الجيوسياسي، لا سيما وأن الرد الإيراني لم يكن له أي تأثير يذكر عسكريًا (تأثير سياسي فقط وبشكل محدود). ولكن في حالة حدوث رد أو تصعيد إسرائيلي محتمل واتساع رقعة الحرب الدائرة في منطقة الشرق الأوسط وتدخل أمريكي أوسع فقد تجتاز الأسعار حاجز الـ 100 دولار للبرميل النفطي الواحد وذلك خلال تعاملات الربع الثاني من العام الجاري.
وذلك لإنه من الممكن أن يؤدي إلى زيادة الإدارة الأمريكية في عمليات تضييق الخناق على صادرات النفط الإيراني والتي وصلت لمستويات عالية. وهو الأمر الذي قد يدفع أسعار النفط للأعلى (فوق مستويات 100 دولار للبرميل( تأثير كبير ومباشر قد يصل إلي حوالي 60% زيادة في حركة الأسعار) ولذلك يمكن القول إن خفض أو فقدان حوالي 100 ألف برميل يوميًا من النفط الإيراني سيؤدي إلى زيادة بمقدار نحو دولار واحد للبرميل خلال العام الجاري).
إستكمالًا لما سبق، نجد إن التخوف الأكبر من المواجهة المباشرة بين طهران وتل أبيب، هو أن يؤثر على حركة السفن في مضيق هرمز، وهو الذي يُشكل أداة من أدوات الضغط الإيراني في صناعة النفط العالمية. إذا قررت إيران تعطيل حركة سفن النفط في مضيق هرمز، فلا شك أن ذلك سيؤثر على سعر النفط حتى على المدى القصير، وهذا التأثير لن يكون ضئيلًا، أي أنه سيؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط على المدى القصير.
أهمية مضيق هرمز في حركة النفط الخام
تُشكل منطقة الشرق الأوسط موطنًا لعدة ممرات نقل نفط مهمة، بما في ذلك مضيق هرمز، وقناة السويس، ومضيق باب المندب. حيث تعمل هذه الممرات كروابط حيوية تربط الخليج والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، ولذلك نجد أن التركيز الرئيس لأسواق النفط سينصب في المرحلة المقبلة على مدى حجم الرد الإسرائيلي على الهجوم الإيراني (المحدود)، لذلك فإن الخطر الأكبر سيتمثل في هجوم إسرائيلي مباشر على إيران (رد متوقع)، وهو الأمر الذي قد ينتهي برد إيراني قد يطال مضيق هرمز (يربط الدول المنتجة للنفط في الخليج العربي بمصافي التكرير في جميع أنحاء العالم)، وهو المضيق الذي يُعد نقطة عبور محورية لنحو حوالي 18.5 مليون برميل يوميًا من النفط الخام والمنتجات البترولية المهمة، أي ما يعادل خمس شحنات النفط الخام على مستوى العالم. ومن خلال حركة النفط الخام من خلاله نجد أنه يمر من خلاله أكثر من ثلث صادرات النفط العالمية البحرية، إذ يستوعب ما حوالي 30 ناقلة نفط يوميًا، وتصدر المملكة العربية السعودية من خلاله نحو 88% من إنتاجها النفطي، مقابل 99% للإمارات، و98% للعراق، أما إيران والكويت وقطر، فتصدر كامل صادراتها النفطية من خلاله. ونُعد اليابان، والصين، وكوريا الجنوبية، والهند، وسنغافورة، أكبر مستوردي النفط المار عبر المضيق.
وبشكل عام، نظرًا للأهمية الاستراتيجية البالغة لهذا الممر التجاري المهم والتهديدات الجيوسياسية العديدة التي تحيط به، تحرص الولايات المتحدة على إبقاء تواجد عسكري مكثف لها في منطقة الخليج لحماية المضيق من أي تهديدات محتملة. إلا أن هذا السيناريو، لا يزال مُستبعدًا بشكل كبير، لأنه لم يُغلق مضيق هرمز فعليًا أبدًا، حتى في خضم حرب الناقلات عام 1984 التي هاجمت فيها إيران والعراق ناقلات النفط التابعة لبعضهما بعضًا بشكل متكرر، كما لم يحدث ذلك مؤخرًا عندما كثفت طهران عمليات استيلاء ومضايقة سفن الشحن التجاري.
مجمل القول، رغم كل المخاطر التي تلوح في الأفق، لا تزال هناك احتمالات كبيرة ألا يؤثر هذا الصراع بشكل حاد وكبير على حركة أسعار النفط الخام عالميًا، حيث لم تتسبب الاضطرابات التي شهدتها المنطقة مؤخًرا في ارتفاعات مستدامة وطويلة بأسعار النفط العالمية، ولكن يُشكل الصراع الحالي بين طهران وتل أبيب أحد أكبر المخاطر الجيوسياسية على أسواق النفط العالمية، منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية والحرب على غزة، وذلك لأن الأمر المؤكد أن أي حرب في الشرق الأوسط تُشكل تهديدًا محتملًا لأمن إمدادات النفط، وأمن الطاقة بشكل عام، وأن حربًا قد تشمل طهران يمكن أن تكون لها تداعيات أخطر على أسواق النفط العالمية، وذلك لأن ثمة نتيجة واحدة مؤكدة تهدد إمدادات النفط، وهي ارتفاع سعره. ولذلك فإنه ومنذ بداية الحرب على غزة، والحديث عن أمن الطاقة العالمي وإمدادات الطاقة، وجدنا كل الأنظار على إيران ومكانتها النفطية في أسواق الطاقة العالمية.