أفريقيامصر

تعزيز الحضور: القرن الأفريقي في سياق استراتيجي متغير وأولويات السياسية المصرية

رغم ما تبنته السياسية الخارجية المصرية من أولوية استثنائية ضمن أولويات السياسية الخارجية المصرية، خلال السنوات العشر الماضية، إلا إن التحديات والتحولات الاستراتيجية الراهنة التي يشهدها الإقليم، سواء على المستوى الإقليمي ككل، أو على مستوى التفاعلات السياسية الداخلية والتحولات التي تشهدها الأنظمة السياسية القائمة في المنطقة، تفرض متطلبات وأولويات استراتيجية تواكب بنية التفاعلات الأمنية والسياسية القائمة في المنطقة، على نحوٍ يلبي التطلعات والأولويات المصرية الإقليمية.

أهمية جيواستراتيجية

تتجلى الأهمية الاستراتيجية للقرن الأفريقي في التنافس الدولي والإقليمي المحموم على نحوٍ مؤثر في تفاعلاته البينية وتحالفاته الإقليمية والدولية. ولعل واحدة من محددات الأهمية الاستراتيجية للقرن الأفريقي تتصل بامتداده على ساحل البحر الأحمر، الممر الملاحي الأهم بالنسبة للتجارة الدولية، مما جعل الدول المشاطئة له ذات ثقل استراتيجي في معادلة التوازنات الإقليمية والدولية.

وثبت تلك الأهمية في التفاعلات الإقليمية الأخيرة التي أثرت على الأمن في البحر الأحمر، والتهديد الحوثي الذي أثر على حركة مرور التجارة بالممر الملاحي، الذي مرّ به 23 ألف سفينة العام الماضي، ويحوز على نسبة 12% من التجارة العالمية و40% من التجارة بين آسيا وأوروبا،  وما سبقها من تداعيات عالمية تجلت في ارتفاع أسعار النفط العالمي على إثر جنوح سفينة ” إيفرغيفن” وتعطيل حركة المرور التجاري، بما يؤشر على الأهمية القصوى للممر الملاحي في الأجندة الدولية، على نحوٍ حفَز إعادة الانخراط في معادلة الأمن الإقليمي في المنطقة.

وعلى الرغم من انخراط القوى الإقليمية والدولية في معادلة الأمن الإقليمي في المنطقة على مدار العقود السابقة، على نحوٍ ساهم في تصاعد مظاهر العسكرة بما يؤثر على المصالح الاستراتيجية للدول الإقليمية، إلا إن  التحديات الإقليمية المتصاعدة سواء في منطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي، تدفع نحو مزيد من التنافس والاستقطاب السياسي والعسكري في المنطقة.

فلم تعد القواعد العسكرية القائمة في المنطقة الضامن لتأمين مصالح القوى الكبرى وتأمين حركة التجارة الدولية، بل صارت التهديدات الأمنية الناشئة بحاجة لاستجابات واسعة وتحالفات متعددة الأطراف، بما يخلق مصفوفة من المصالح والتحالفات المتقاطعة والمعقدة. ومثل التشكيل الأمريكي الأخير لتحالف ” حارس الازدهار” في 19 ديسمبر 2023، لمواجهة تهديدات الحوثي في البحر الأحمر، أحد مظاهر العسكرة في المنطقة، والتي تلاها تشكيل البعثة البحرية الجديدة للاتحاد الأوروبي ” أسبيدس” في فبراير 2024، لتضاف إلى الاهتمام والانخراط الأوروبي في المنطقة، منذ عملية أتالانتا 2008 لمكافحة القرصنة، وبعثة المراقبة البحرية التي أطلقتها فرنسا في الخليج العربي في 2020 بمشاركة ثماني دول أوروبية،

وكذلك جاء إعلان الصين في 24 فبراير 2024 عن إرسال أسطول عسكري لمنطقة البحر الأحمر، لتأمين الملاحظة، في الوقت الذي أحجمت فيه أغلب الدول العربية بما في ذلك مصر، التي تمتلك الأسطول الجنوبي وقاعدة برنيس على البحر الأحمر، عن الانخراط في الترتيبات الأمنية القائمة، ما يعكس حجم التعقيد في صياغة القرار الاستراتيجي بما يحافظ على المصالح في المنطقة، ويتطلب في الوقت نفسه قدرًا كبيرًا من التنسيق على المستوى الاستراتيجي، خاصة وأن التناقضات والتنافس الاستراتيجي في المصالح ليس فقط بين الدول الإقليمية والدولية المتدخلة، بل يمثل التناقس بين القوى الكبرى المتواجدة بالمنطقة تهديدًا لاتساع نطاق المنافسة والتهديد في المنطقة بما ينعكس على المصالح الإقليمية القائمة.

استقطابات إقليمية

وفرت البنية السياسية للتفاعلات الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي مجالًا للاستقطاب الدولي والإقليمي، على نحوٍ مؤثر على مسار التفاعلات الداخلية والبينية بين الدول المشكلة له.  وقد شهد الإقليم تحولات في شبكة التحالفات، انعكست على تحديد الأولويات وطبيعة المصالح في المنطقة، وتحديدًا على وقع التقارب الإثيوبي الإريتري عام 2018، والإعلان عن منظمة تعاون القرن الأفريقي بانضمام الصومال إليهما في يناير 2020، مما أثر بدوره على مستوى العلاقات بين جيبوتي وإثيوبيا، إذ وجدت الأخيرة موانئ بديلة لموانئ جيبوتي التي كانت تعتمد عليها لمرور 70% من تجارتها.

ولقد حافظت مصر على علاقات استراتيجية وثيقة مع إريتريا حتى عام 2018، إذ ساهم تحالف أسياس أفورقي مع أبي أحمد في فجوة في العلاقات الثنائية بين البلدين، انعكست على تراجع مستويات التنسيق في القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك. والمفارقة، أن هذا الفتور في العلاقات، واكب سياق من العودة المصرية للمنطقة، بعد سنوات من التراجع التي اقترنت بالتحولات السياسية في الداخل المصري بعد 2011، مما أثر على متابعة سياسية إقليمية نشطة في تلك السنوات.

وارتباطًا بهذا السياق، لم تكن العلاقات المصرية مع جيبوتي في أعلى مستوياتها، رغم ما تحظى به الأخيرة بعلاقات إقليمية ودولية متنوعة ومتعددة، ساهم في كونها الوجهة الإقليمية للقواعد العسكرية والمناطق اللوجستية التي اعتمدت عليها اقتصاديًا وزادت من أهميتها الجيواستراتيجية، لكنها ساهمت في ذات التوقيت في عسكرة منطقة البحر الأحمر، مما أثر على معادلة الأمن في المنطقة.

وبالمثل، لم تكن العلاقات مع الصومال في وضعِ جيد حتى رحيل نظام محمد عبد الله فرماجو، وقدوم الرئيس حسن شيخ محمود، إذ على مدار السنوات الماضية، استطاعت دول إقليمية مثل تركيا وقطر، تعزيز حضورهما في الصومال على كافة المستويات، على نحوٍ ساهم في توتر علاقات الأخيرة بدول إقليمية متعددة مثل مصر، خاصة مع إلقاء التفاعلات في الشرق الأوسط بظلالها على مستويات واتجاهات التفاعل في القرن الأفريقي.

تعزيز الحضور

حظيت القارة الأفريقية بأولوية على أجندة السياسة الخارجية المصرية بعد عام 2014 بوجه عام، ومنطقة القرن الأفريقي وحوض النيل بشكل خاص، لما يحوز عليه هذا الإقليم الفرعي من ثِقل استراتيجي في السياسية المصرية، إذ أنه يمتد بين البحر الأحمر شرقًا ومجرى النيل غربًا، مما يجعل الانخراط في تفاعلاته وبناء شبكة تحالفات إقليمية، أمرًا ذات أهمية لأولويات السياسية الخارجية المصرية.

فعلى الرغم من الواقع الاستراتيجي المشار إليه سلفًا، والذي واكب حالة من الانشغال بالأحوال السياسية على المستوى الداخلي، إلا أن إعادة تنشيط السياسية الخارجية المصرية، لم يغفل دوائر الاهتمام التقليدية إضافة إلى الدوائر الجديدة التي تم اختراقها، إذ على مستوى القرن الأفريقي، كانت هناك خطوات متتابعة إزاء كافة القضايا والملفات الإقليمية، على نحوٍ يمكن معه القول أن مصر راكمت حضورًا يمكن أن تستند عليه في بناء استراتيجية متكاملة ومستدامة في كيفية تعريف المصالح والتهديدات ومن ثم بناء استراتيجية إقليمية متكاملة ومستدامة لتعزيز الحضور وبناء شبكة من التحالفات التي تحافظ على المصالح المصرية في المنطقة.

فعلى مستوى الحضور والتعاطي المصري مع الإقليم، مثّلت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لجيبوتي في مايو 2021 أول زيارة لرئيس مصري لها منذ الاستقلال، مما ساهم في إعطاء دفعة قوية للعلاقات الثنائية بين البلدين. وفي فبراير من عام 2022، استقبل الرئيس السيسي نظيره الجيبوتي في القاهرة، مما عكس أعلى مستويات التنسيق الاستراتيجي بين البلدين، متمثلًا في تواصل القيادات السياسية، خاصة في ظل الفتور الذي كان واضحًا في موقف كل من الصومال وجيبوتي من قرار جامعة الدول العربية الداعم لحق مصر والسودان في مياه النيل، كانعكاس واضح لتوازنات وتحالفات منطقة القرن الأفريقي.

أما بالنسبة للصومال، فساهمت عودة الرئيس حسن شيخ محمود فرصة لإعادة التقارب التاريخي بين البلدين بعد سنوات من التوتر والتباعد، إذ كانت مصر واحدة من الدول الإقليمية الذي زارها شيخ محمود فور وصوله للحكم، كجزء من إعادة التوازن للسياسة الخارجية الصومالية. ومثلت اللحظة الفارقة بين البلدين، فيما أبدته مصر من موقف معلن، انحازت فيها للموقف الصومالي، فيما يتعلق بمسألة التعاون الإثيوبي مع أرض الصومال، بهدف الوصول للبحر عبر ميناء بربرة، إذ أعلنت الخارجية المصرية موقف مصر الداعم للصومال ولسيادة أراضيه في الثالث من يناير 2024، تبعها زيارة وفد مصري للصومال في السابع من ذات الشهر لتأكيد موقف مصر الثابت تجاه وحدة الصومال وسلامة أراضيه، وصولًا لزيارة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود للقاهرة في 21 من ذات الشهر، بعد أن أجرى زيارة سابقة له في أعقاب وصوله للحكم، كجزء من جولة إقليمية كانت مصر جزءًا منها في يوليو 2022، في سياق إعادة التوازن والتخلي عن سياسة المحاور التي انتهجها الرئيس فرماجو سابقًا.

وفيما يتعلق بإريتريا، كحليف استراتيجي مهم في المنطقة، مثّلت لحظة التوتر بين أبي أحمد وأسياس أفورقي فرصة سانحة لعودة تقارب الأخير مرة أخرى مع مصر، خاصة لما تحظى به إريتريا من أهمية استراتيجية، سواء فيما يتعلق بمسألة الأمن في منطقة البحر الأحمر، أو معادلة الاستقرار في السودان، خاصة مع التأثير الإريتري على شرق السودان. وقد انعكس ذلك في مشاركة الرئيس أفورقي في قمة دول الجوار المتعلقة بالأزمة السودانية في يوليو 2023، تبعها استقبال الرئيس السيسي لوزير الخارجية الإريتري برفقة وفد رفيع المستوى في أكتوبر 2023، سلّم خلالها الرئيس السيسي خطابًا من نظيره الإريتري، يعرب فيه عن تطلعه لتطوير مستويات العلاقات الثنائية بين البلدين، إلى أن جاءت زيارة أفورقي للقاهرة في 24 فبراير 2024، في أعلى خطوات للتنسيق في قضايا القرن الأفريقي وأزمة السودان.

وعلى المستوى الإقليمي، تتشارك الدول السالفة مع مصر في عضوية مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، والذي كانت تسعى إثيوبيا للانخراط في عضويته بما يتعارض مع المصلحة المصرية، في الوقت الذي كانت تتزايد في احتمالات دعم المساعي الإثيوبية سواء من الدول الأفريقية أو الدول العربية المطلة على البحر الأحمر.

وبالنظر إلى تصاعد الهواجس لدى دول القرن الأفريقي من التحركات والطموحات الإثيوبية، فإن التحركات والسياسات المصرية على المستوى الإقليمي، والتي ظهرت في اتفاقات التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري، فضلًا عن اتفاقيات التعاون العسكري والتدريب المشترك، سواء مع دول القرن الأفريقي أو دول حوض النيل، لا يتعين أن تظل عند حدود الاتفاقيات الثنائية، إذ من الضرورة رفع مستوى التعاون على كافة المستويات، بما يخلق شبكة قيمة مضافة إقليمية، تكون فيها المصالح المصرية جزءًا من المصالح الإقليمية.

فبالنظر إلى المساعي الإثيوبية التي كانت ترمي إلى تشكيل منظمة تعاون القرن الأفريقي كبديل عن المنظمة الإقليمية القائمة الهيئة الحكومية للتنمية (إيجاد)، فضلًا عما بذلته من جهود لتبديل معادلة التوازن والتعاون في إطار حوض النيل؛ فإنه من الضرورة ألا تتغيب مصر عن الحضور الذي يضمن إليها الانخراط في الترتيبات وصياغة التوازنات ومعادلات التعاون الإقليمي القائمة، وألا تقتصر على التعاونات الثنائية والمحدودة، التي لا تسهم في النهاية في شكل التعاون الإقليمي، الذي يمكن أن تتخذ مصر في سبيل تعزيزه، آليات مؤسسية إقليمية بما يتسق مع مبادئ السياسية الخارجية المصرية، بما في ذلك تشارك العضوية في عدد من المنظمات والترتيبات الإقليمية، بما في ذلك مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر، وعضوية تجمع الكوميسا، فضلًا عن منطقة التجارة الحرة القارية؛ إذ يمكن من خلال تلك الآليات الإقليمية متعددة الأطراف تدعيم مستويات التنسيق والتعاون على المستويات الأمنية والتجارية، بما يؤسس في النهاية لمستويات متقدم من التنسيق الاستراتيجي المشترك.

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى