مصر

نحو حياة حزبية للجمهورية الجديدة

شهدت انتخابات الرئاسة المصرية ٢٠٢٤ تنافسًا بين ٣ رؤساء أحزاب بالإضافة إلى المرشح المستقل الفائز بالانتخابات الرئيس عبد الفتاح السيسي. تنافُس رؤساء الأحزاب والتحالفات التي دعمتهم تمثل بداية جديدة للحياة الحزبية المصرية، مماثلة للمرحلة الأولى من الحياة الحزبية في عام ١٩٧٧؛ في ذلك الوقت، شهدت مصر تحول التنظيم السياسي من الاتحاد الاشتراكي إلى منابر ثم إلى أحزاب. هذا التطور الحالي يشير إلى نضوج التجربة في مصر وتنوع الخيارات السياسية التي يمكن للناس اختيارها. تعزز هذه المنافسة الحياة الحزبية من جانب وتزيد من المسؤولية الملقاة على الأحزاب السياسية للاضطلاع بدورهم في المشهد السياسي ما بعد الانتخابات الرئاسية؛ فالمهمة الأولى للأحزاب هي تمثيل المواطنين ومصالحهم وصياغتها في سياسات ومبادئ تعبر عنهم.

هذه التطور في العمل الحزبي على النحو الذي ظهر في الانتخابات الرئاسية لم يبدأ فقط مع الانتخابات، وإنما سبقته الدعوة إلى الحوار الوطني والذي يعد خطوة مهمة نحو تعزيز الديمقراطية وتوفير فرص لمشاركة متنوعة وشاملة في العملية السياسية. وقد نص الدستور المصري في مادته الخامسة على “يقوم النظام السياسي على أساس التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمي للسلطة. الخ”، وهذا النص الدستوري يحتاج إلى منظومة تشريعية تجعل عملية تعزيز العمل الحزبي أكثر سهولة وتقدمية وتتواكب مع التغيرات التي حدثت في العالم وفي شكل وآليات التنظيمات السياسية.

فلا يزال قانون الأحزاب المصري هو القانون رقم ٤٠ الصادر عام ١٩٧٧ ولم تطرأ عليه تعديلات جوهرية منذ فترة طويلة. وكان القانون استجابة لمرحلة سياسية مختلفة لانفتاح سياسي في مرحلة جديدة بعد اتحاد قوى الشعب العامل في ثورة ١٩٥٢ لتحرير القرار المصري، وهو ما تطلب وحدة التنظيم في ذلك الوقت والذي بدأ بهيئة التحرير ثم الاتحاد الاشتراكي بهياكله ثم الحرب والوحدة حولها كهدف، ومن بعدها عملية السلام ومعها مرحلة التعددية السياسية المقيدة، واستمر الوضع على ما هو عليه باستثناء حصول بعض الأحزاب على مقاعد سواء بالضغط أو الاتفاق مع الحزب الحاكم في ذلك الوقت.

نحو قانون جديد للأحزاب السياسية

رغم كل التغييرات التي حدثت في مصر منذ يناير ٢٠١١، فإن قانون الأحزاب السياسية الساري حاليًا في مصر هو قانون عام ٤٠ لعام ١٩٧٧ وهو ما يحتاج إلى صياغة قانون جديد. وعلى الرغم من أن الأحزاب السياسية هي من تمثل أصحاب المصلحة الرئيسين في هذا القانون، فإن صياغة مثل هذا القانون على النحو الذي يمثل نقلة كبيرة في الحياة الحزبية في مصر قد تحتاج إلى أن توضع القواعد والأسس والفلسفة التي تحكم مشروع القانون من جانب خبراء مستقلين، وبعدها يصاغ القانون بالتشاور مع أصحاب المصلحة وفقًا لهذا الإطار الذي يراعي التحول إلى حياة حزبية أكثر تفاعلية ونشاطًا على النحو الذي يحقق المصلحة العامة للدولة الديمقراطية الحديثة، ويعكس تطلعات المجتمع نحو نظام سياسي أكثر شمولية وتمثيلية وتفاعلًا في المجال العام، ويقوي قاعدة الأحزاب السياسية وتمثيلها للمصالح المختلفة.

الحقوق والحريات كأساس للقانون

إن حرية التنظيم ليست هدفًا في حد ذاته ولكنها وسيلة لتجميع المصالح المشتركة والمتقاربة والأهم التفاوض بشأنها وتعبئة المواطنين حولها وصياغة السياسات العامة وتربية الكوادر السياسية على العمل العام والسياسي وتحقيق المصالح العامة، وهو عمل مستمر غير مرتبط فقط بالانتخابات بل هو جزء من الحياة العامة والمجال العام.

الأصل بين الأحزاب هو المنافسة حول التعبير الأفضل عن المصالح المختلفة والتعاون هو الاستثناء، إذا تقاربت المصالح إلا أن هذه المنافسة محكومة بعدة ضوابط:

  • الأصل هو الإخطار في التأسيس مع اقتراح من الحزب بتقليل العدد إلى ٣٠٠٠ (ثلاثة آلاف) توكيل مع الإبقاء على رقم ال١٠ محافظات ولضمان عدم التكتل القبلي أو الحدودي.
  • أن تكون على أرضية وطنية وأن تضع تفرقة بخط واضح بين ما هو وطني لا يجوز الاختلاف عليه وبين ما هو سياسي يمكن الاختلاف عليه، فالوطن وتهديد استقراره ووجوده أكبر من الأحزاب.
  • أن تكون هذه الممارسة حرة ومستقلة، فلا يجب أن تخضع الممارسة الحزبية لأي قيود تعيق أو توجه عملها غير ما تراه في إطار المصلحة الوطنية.
  • أن عدم نجاح الحزب في خلال ثلاث دورات انتخابية أي ١٠ سنوات يحوله تلقائيًا إلى لجنة من لجان العمل السياسي، وذلك للقضاء على التعددية الحزبية السلبية، وجعل التنافس الحزبي هو الأساس للاستمرار. على أن يحدد معيار النجاح هنا بحصول الحزب على تمثيل بمقعد على الأقل في مجلسي النواب أو الشيوخ، أو ١٠ مقاعد في المجالس المحلية.

تنظيم عمل التنظيمات غير الحزبية (لجان العمل السياسي)

الأحزاب ليست هي الوسيلة الوحيدة؛ فالكيانات غير الحزبية والتحالفات العابرة للحزبية والائتلافات والتنسيقيات أصبحت أحد أساليب العمل الحزبي الحديثة. ولمّا كانت إحدى الإشكاليات الكبيرة التي يثيرها العمل الحزبي في مصر هو زيادة عدد الأحزاب، فإن البحث في أسبابه يقود إلى أن عدم وجود أشكال أخرى من التنظيمات السياسية في القانون أحد الأسباب الجوهرية له، يضاف إلى ذلك ضرورة تشجيع الأحزاب على الاندماج والتحالف الذي يؤدي في النهاية إلى نضوج التجربة السياسية وممارستها.

وفي هذا السياق، يمكن أن تكون هناك ما يشبه لجنة حكماء فرعية يتم انتخابها من الأحزاب كلها تتكون من عشرة أعضاء تكون بمثابة لجان فض المنازعات الحزبية على رئاسة أي حزب، وتصدر توصياتها التي تكون بمثابة قرار إداري يجوز الطعن عليه أمام القضاء الإداري ولكنها ستمثل أساسًا شرعيًا وأخلاقيًا يستند إليه أطراف أي نزاع حزبي ويحقق الاستقلالية ويمنع التحجج بتدخل الدولة في الشؤون الحزبية ويعزز الديمقراطية الحزبية عبر ممارستها بشكل جماعي.

إدارة عملية الانتقال السياسي وتمثيل المصالح

الأحزاب في الأساس وسيط بين الدولة والمواطنين، وهي وسيط تفاوضي في الأساس؛ فالدولة –إذا ما كان هناك عمل حزبي رشيد- تستطيع التعرف على توجهات المواطنين وآرائهم بسهولة، فالأحزاب هي المكان الذي تتم فيه صياغة المصالح المختلفة والتعبير عنها. كذلك فإن الانتقال من كون الانتخابات والعمل الحزبي عملًا نخبويًا بل وأحيانًا فرديًا إلى عمل شعبي مسؤول يتواصل مع الجمهور دون إثارة أو تحريض بل بتمثيل اجتماعي ملائم عن المصالح والتفاوض حول السياسات والبرامج؛ هو أحد الأهداف الأساسية من أي تشريع جديد للعمل الحزبي. وبغض النظر عن الأسباب، فإن الصورة السلبية للأحزاب تطغى على الصورة الإيجابية، وبالتالي فنضال الأحزاب مزدوج في بناء الثقة مع الجمهور بالإضافة إلى تمثيل المجتمع بطريقة تعبر عن مصالحه وطموحه للأفضل.

ويمكن تلخيص التحديات التي تواجه الأحزاب في الاتي:

  • تحدي التمويل
  • تحدي الديمقراطية الداخلية وحل النزاعات
  • تحدي ظهور كيانات غير حزبية
  • تحدي جدية التأسيس والاستمرار

توفير تمويل حزبي مستدام واستقرار مالي:

تمويل الأحزاب السياسية هو مجموعة المبادئ التي تحكم دخل وإنفاق الأحزاب السياسية، ولا توجد حاليًا أي سوابق فيما يتعلق بهذا الأمر في مصر أو العالم العربي، خاصة وأن النصوص التشريعية بعيدة كل البعد عن الواقع الحقيقي. وتثير مسألة تمويل العمل السياسي الحزبي دائمًا مخاوف من سيطرة المصالح الاقتصادية بعينها على الأحزاب ولكن هذه المسألة لها عدة اعتبارات:

  • الأصل هو حق المصالح الاقتصادية المشروعة في التعبير عن نفسها وبالتالي الحرمان من التعبير عن المصالح يتنافى مع حرية التنظيم والتعبير السياسي المنصوص عليه دستوريًا.
  • مع زيادة العدد الكبير في الأحزاب فأن أي مصالح مالية واقتصادية تستطيع الانضواء في داخل أي حزب وأن يكون معبرًا عنها ولا تحتاج إلى كل هذا التخوف الذي كان وليد حقبة اشتراكية انتهت.

وعلى هذا الأساس فإن المقترحات اتبعت القواعد المعمول بها في أغلب دول العالم التي خاضت غمار مواجهة المال السياسي غير المنظم وتبدو كثير من الحلول على النحو التالي:

  1. تقديم دعم من الدولة للأحزاب (التمويل العام)

وهو يشمل الدعم المالي المباشر للأحزاب أو الدعم غير المباشر عبر إعطائها مساحات في الاعلام الحكومي والإعفاءات أو التخفيضات الضريبية التي يحصل عليها الحزب نفسه أو الافراد الأعضاء فيه في حال تبرعهم، والمقترح هنا:

  • عودة تمويل الدولة للأحزاب بواقع مليون جنيه سنويًا لأي حزب له تمثيل برلماني، ونصف مليون جنيه لأي حزب غير ممثل برلمانيًا وهي تفرقة منطقية فالأحزاب الممثلة برلمانيًا عليها عبء خدمة النواب ودوائرهم وطلباتهم.
  • عدم وضع أي سقف للتبرعات الحزبية؛ فمن حق من يملك المال أن يعبر عن مصالحه من خلال حزب. وإنما الفساد يأتي من عدم الإعلان عن الدعم أو إنفاقه بدون رقابة تحت مسمي (الاستقلالية) مع إهدار كامل لمبدأ (الشفافية)، إذا لا مانع من فتح سقف تبرع الأشخاص للأحزاب مع تشديد العقوبة بالحبس والحرمان من مباشرة الحقوق السياسية في حال إثبات التلاعب بأموال الحزب.
  • أن يقدم الحزب بشكل ربع سنوي إلى اللجنة المحاسبية في لجنة شؤون الأحزاب بيانًا بما حصل عليه من تبرعات ومن إنفاق ويجوز فرض غرامة في حالة التأخر في الإفصاح.
  • السماح للأشخاص الاعتبارية بتمويل الأحزاب:

يجب السماح للأشخاص الاعتبارية بتمويل الأحزاب/ فهو يوسع قاعدة المستفيدين من الجمهور، كما أن الأشخاص الطبيعية تدفع ضرائب ولها مصالح مشروعة من والأفضل تنظيمها للتعبير عنها بدلًا من أن يصبح التعبير عنها عبر الرشى، فالسماح للشركات والأشخاص الاعتبارية بالتعبير عن مصالحها في جوهره ونظرته البعيدة مواجهة للفساد ودعم للشفافية في المجال العام، ويقوي قاعدة الأحزاب السياسية وتمثيلها للمصالح

الانفتاح على العالم ومواكبة العصر واستحداث نظم تكنولوجية

خلال السنوات القليلة الماضية/ تطورت وسائل الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي وأصبح الاتصال الحزبي الداخلي أو حتى مع الجماهير له أشكال مختلفة ليست كما كانت طوال الـ200 عام السابقة. كم ان الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي بفعل وسائل التواصل الاجتماعي أصبح أقوى ويؤثر في المجتمعات والمؤسسات والتنظيمات السياسية بشكل عميق يحتاج إلى تعامل مرن معه يجمع بين الحفاظ على المؤسسات الدستورية والقانونية قوتها وفاعليتها وفي نفس الوقت يستوعب قوى التغيير الصاعدة غير المنظمة.

كما أن لجنة شؤون الأحزاب يجب ان يكون لها موقع على الإنترنت، ويوضح عليه قانون الأحزاب، ويحتوي على القرارات والمعلومات المختلفة، وتستطيع الأحزاب الوصول إليها والتفاعل معها. وكذا يجب أن يكون للأحزاب مواقع على شبكة الانترنت بل وان أغلبها لها تواجد على وسائل التواصل الاجتماعي وهو ما يحتاج إلى حماية وتنظيم لهذا التواجد.

كما أن جزءًا مهمًا من الانفتاح على العالم هو الاطلاع والاستفادة من تجارب الدول الأخرى والديمقراطيات الناشئة، مع مراعاة مشددة للخط الفاصل بين التعاون والاطلاع والتعلم وبين التدخل والإملاء وإثارة الفوضى.

الخلاصة

  • من حيث المبدأ، لا يجب أن تقف الدولة على الحياد في العملية السياسية؛ فالأحزاب بضعف إمكانيتها وضعف البنية السياسية تحتاج إلى دعم من الدولة، ليس دعمًا ماليًا فقط، وإنما دعم بالتأسيس لبنية أساسية للحياة السياسية تتواكب مع الجمهورية الجديدة بحيث يصبح الحوار السياسي قائمًا على معلومات صحيحة ونقاشات تدير اختلافًا حقيقيًا يأخذ المجتمع إلى الأمام، وهو ما تحتاج العملية السياسية الحالية أن يستمر بمزيد من الدعم الفني والمعلوماتي المقدم في مختلف مجالات الحوار.
  • تحديات إدارة عملية الانتقال السياسي وتمثيل المصالح تتطلب تنظيمًا تشريعيًا مختلفًا، فيعد الحزب وسيطًا بين الدولة والناس، ومنصة لصياغة وتعبير المصالح المختلفة. إن تحول العمل الحزبي إلى عمل شعبي يتطلب تفاعلًا أكبر مع الجمهور وتمثيلًا اجتماعيًا ملائمًا للمصالح والتفاوض بشأن السياسات والبرامج.
  • تواجه الأحزاب تحديات عديدة، منها التحديات المالية والديمقراطية الداخلية وظهور كيانات غير حزبية وجدية التأسيس والاستمرار. وهو ما يتطلب تخفيف حدة الصراعات المجتمعية وتوفير مكان للجميع داخل الأحزاب، وهذا يسهم في تقليل الفوضى والتنظيم غير القانوني.
  • لتحقيق هذه التحديات، يمكن اتخاذ العديد من الخطوات، مثل: تطوير آليات تمويل مستدامة وشفافة، وتعزيز الديمقراطية الداخلية من خلال حل النزاعات بشكل سلمي، وتعزيز الشراكة مع الكيانات غير الحزبية لتحقيق أهداف مشتركة، والعمل على تعزيز جدية التأسيس والاستمرار من خلال تنمية رؤية واضحة وتنفيذ استراتيجيات فعالة لتحقيق أهداف الحزب.
  • باختصار، تحقيق التحول إلى نظام حزبي متساوٍ يتطلب جهدًا مشتركًا من الأحزاب للتعامل مع التحديات المالية والتنظيمية والسياسية، وتعزيز الديمقراطية الداخلية وتحقيق التمثيل الشامل لمختلف الفئات والمصالح في المجتمع، وهو العمل الذي يليق بالجمهورية الجديدة التي تنطلق نحو المستقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى