مصر

العلاقات المصرية مع القوى الكبرى.. استمرار التوازن

نجحت مصر في أن تُرسخ “نهجًا متوازنًا” في علاقاتها الدولية، وحققت معادلة صعبة حافظت من خلالها على علاقات استراتيجية مع القوى الكبرى، عبرت عنه المواقف المصرية المتوازنة والمدروسة من مختلف القضايا الإقليمية والدولية، والسعي إلى إيجاد الحلول بشأن كثير من الأزمات، وإقامة علاقات صداقة متوازنة مع جميع دول العالم، أساسها الاحترام المتبادل والتعاون البناء والمصالح المشتركة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

تقوم الاستراتيجية المصرية في علاقاتها مع القوى الكبرى على وضع مجموعة من المصالح القومية التي تستهدف تحقيقها والتي يمكن إجمالها في ثلاث مصالح رئيسة هي: مصلحة البقاء وهي المصلحة الأساسية للدولة، ومصلحة تعظيم القوة العسكرية التي تعد أداة الدولة الأساسية للدفاع عن نفسها ضد الطامعين، ومصلحة تعظيم المكانة والقوة السياسية على المستويين الإقليمي والدولي وتعزيز التنمية الاقتصادية، بالاهتمام بالبعد الاقتصادي والتجاري في العلاقات مع الدول الأخرى.

وتسعى مصر، التي تتمتع بموقع متميز، إلى الحفاظ على علاقات وثيقة مع القوى الكبرى من أجل الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية. وهي في ذلك تدرك أن تنوع علاقاتها وتعدد حلفائها يرسخ منظومة التعددية القطبية عالميًا، ويرفع حجم الترابط المصري في المصالح الدولية، وهي التطورات التي تدفع إلى تعزيز وترسيخ الروابط الثقافية والسياسية والاقتصادية في الأمدين المتوسط والطويل، خاصة مع طرح وتنفيذ مصر اتفاقيات شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين.

وكذا تدرك القوى الدولية المؤثرة في العالم أن استقرار الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمصر، وأن أكثر من يجيد قراءة وتحليل المشهد في المنطقة هي مصر، النواة الصلبة لمنطقة الشرق الأوسط والعالم العربي ورمانة الميزان لاستقرار المنطقة.

أولًا: آفاق الشراكة الاستراتيجية بين مصر الولايات المتحدة

خلال المئة عام الماضية، ارتبطت مصر والولايات المتحدة بعلاقات وثيقة وثابتة لم تتأثر بتغير الإدارات الأمريكية المتعاقبة، تقوم على الشراكة القوية من أجل تحقيق الأهداف المشتركة. وللولايات المتحدة دورها الريادي في جميع القضايا العالمية والإقليمية، في حين أن مصر لها دورها المحوري في الشرق الأوسط وأفريقيا.

تقوم الاستراتيجية المصرية تجاه الولايات المتحدة على حفاظ المصالح الاستراتيجية لكل منهما؛ إذ تسعى مصر إلى الحفاظ على التوازن الاستراتيجي في المنطقة بما في ذلك خطتها الرامية إلى الحفاظ على حقها في تطوير قدراتها العسكرية والاقتصادية التي تمكنها من محاربة الإرهاب، وقد حققت في هذا الملف انتصارات كبيرة وأصبحت قبلة تقصدها الدول التي تعاني نفس الخطر الذي يهدد كيان الدولة واستقرارها، بل ووجودها. وكذا تريد الولايات المتحدة الحفاظ على التسهيلات التي تحصل عليها بالعبور من قناة السويس للمرور إلى مسارح عملياتها في المنطقة، خاصةً إلي الخليج والمحيط الهندي، بالإضافة إلى الحرص المشترك على الحفاظ على السلام مع إسرائيل.

وتثمن الولايات المتحدة قوة ومتانة علاقتها مع مصر؛ إذ تعد مصر صديقًا وحليفًا قويًا تعول عليه في المنطقة، وذلك في ضوء الثقل السياسي الذي تتمتع به القاهرة ودورها المتزن في محيطها الإقليمي، وإسهاماتها بقيادة الرئيس السيسي في تحقيق الاستقرار لكافة شعوب المنطقة. وبوصفها دولة مستقرة في منطقة محاصرة بالتوترات والصراعات، فإن لدى مصر استراتيجية من المصالح المشتركة مع الولايات المتحدة تشمل:

تعزيز الاستقرار الإقليمي: انطلاقًا من أن مصر دولة مستقرة في منطقة غير مستقرة، فإن ثقل مصر السياسي مكّنها من الحفاظ على دورها في استقرار المنطقة؛ وذلك من خلال لعب دور الوسيط الرئيس في حل النزاعات الإقليمية. ومن ذلك الجهود المصرية الحالية للتوصل إلى وقف إطلاق النار على قطاع غزة ووصول المساعدات إلى القطاع. وحرص الولايات المتحدة في التنسيق مع مصر حول مستجدات الوضع في المنطقة على خلفية الحرب في غزة، التي أدت إلى تنامي التهديدات المرتبطة بالحرب على جبهات عدة، وصولًا إلى تصاعد التهديدات في مدخل البحر الأحمر، فضلًا عما يعتري عملية الوساطة المصرية – القطرية للتهدئة في غزة “من جمود”، بسبب مواقف الجانب الإسرائيلي التي لا ترغب في وقف الإبادة الجماعية التي تقوم بها في غزة.

وترى الولايات المتحدة أن مصر تتبع سياسة خارجية نشطة جعلت منها عنصرًا فاعلًا على الأصعدة العربية والمتوسطية والأفريقية لا يُمكن تجاهله، بشأن تطورات الأوضاع في كل من ليبيا واليمن وسوريا ولبنان والسودان، وسيرها على نهج اعتمد في جوهره على الانفتاح على جميع الأطراف، والانحياز إلى الشرعية.

التعاون العسكري: تعد الولايات المتحدة القوة العسكرية الأولى في العالم، وتعد مصر كذلك القوة العسكرية العربية الرئيسة والأولى بالمنطقة، بما يعني أن التعاون العسكري المصري الأمريكي أمر ضروري للحفاظ على التوازنات الإقليمية، وهو شرط ضروري للاستقرار في المنطقة. وقد ساعد في ذلك أيضًا انضمام مصر في أبريل 2021، إلى القوات البحرية المشتركة التابعة للقيادة البحرية الأمريكية، وهي شراكة بحرية تضم 34 دولة لمكافحة الإرهاب ومنع القرصنة وتشجيع التعاون الإقليمي.

وتأتي المساعدات العسكرية الأمريكية في إطار أوسع للتعاون ولا يجوز اعتبارها هبة، وإنما هي جزء من صفقة متكاملة تخدم مصالح الطرفين، وحدث تآكل كبير للقدرة الشرائية لهذه المساعدات الثابتة قيمتها عند مبلغ 1,3 مليار دولار منذ الثمانينيات، والتي تُوجَّه لشراء الأسلحة والذخائر وصيانتها وتحديثها، والتدريب وتنمية مهارات أفراد القوات المسلحة. ففي عام 1978، شكلت المساعدات الأمريكية ما يقرب من 6.4٪ من “الناتج المحلي الإجمالي” لمصر، لكنها اليوم أقل من نصف في المائة.

وعلى الرغم من عمق العلاقات مع الجيش الأمريكي، تحركت مصر لتنويع مصادر أسلحتها منذ أن جمد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في 2013 تسليم مساعدات عسكرية لمصر بعد ثورة 30 يونيو. وارتفعت واردات مصر من الأسلحة من روسيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وفقًا لبيانات من معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.

مكافحة الإرهاب: يحتل هذا الملف أهمية خاصة في العلاقات الثنائية، لأولويته المتقدمة لدى البلدين، ولوجود توافق عام بينهما حول سبل مواجهة هذه الظاهرة. ويؤكد الرئيس السيسي على إرادة الدولة الثابتة حكومةً وشعبًا على مواصلة جهودها الحثيثة لمواجهة تلك الآفة، وتقويض خطرها أمنيًا وفكريًا. وأشاد الرئيس الأمريكي جو بايدن بنجاح الجهود المصرية الحاسمة في هذا الإطار وما تتحمله من أعباء في مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف، ومؤكدًا أن مصر تعد شريكًا مركزيًا في التصدي لتحدي الإرهاب العابر للحدود.

وتنظر الولايات المتحدة إلى استقرار مصر على أنه مفتاح الاستقرار الإقليمي، وتحتفظ بشراكة أمنية لتعزيز القوات المسلحة المصرية وقدرتها على مكافحة الإرهاب. ولضمان هذه الغاية، زوّدت واشنطن القاهرة بالتدريب اللازم ومروحيات هجومية لمساعدتها في حملتها المستمرة منذ سنوات ضد الإرهاب في شمال سيناء، فضلًا عن التدريبات المشتركة التي تجرى بشكل مستمر.

الأمن الاستراتيجي: تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل من عام 1979، والتي تبقى حجر الزاوية للاستقرار في المنطقة. وكذا تشكل قناة السويس محورًا رئيسًا في المصالح الأمريكية لدى مصر؛ إذ تحتاج دائمًا واشنطن ضمان بقاء قناة السويس مفتوحة، سواء مجالها الجوي أمام الطائرات الأمريكية، أو كمجرى مائي للسفن العملاقة، وهو ما يحتاج ضمان أمن القناة، والبقاء على علاقات قوية مع القاهرة. وتتمتع السفن الحربية الأمريكية بتعامل تفضيلي في أوقات الطوارئ بقناة السويس، ويُسمح لها بتجاوز السفن المنتظرة على مدخل القناة، ودون المساعدة المصرية ستطول فترة العمليات الأمريكية في المنطقة.

وأخيرًا، تعد العلاقات المصرية الأمريكية نموذجًا للعلاقة بين الأصدقاء والحلفاء التي تقوم على الشراكة القوية من أجل تحقيق الأهداف المشتركة، والتي تتمثل في دعم الاستقرار والرخاء والازدهار في المنطقة عبر مجموعة من الأدوات، في مقدمتها: التحرك الاستباقي لمحاصرة ووأد الأزمات، ونشر ثقافة السلام والتعايش والمساواة وقبول الآخر، وكل يوم في العلاقات المصرية الأمريكية التي بدأت منذ مئة عام شاهد على ما لدى البلدين من عزم وإرادة سياسية لتعظيم المصالح المتبادلة سياسيًا واقتصاديا وثقافيًا، وهو ما أثمر عن الاكتشافات المبكرة للفرص والإمكانات الهائلة التي كانت وراء الاستجابة الكاملة لتطلعات البلدين، بما يعود بالنفع على الشعبين المصري والأمريكي.

ثانيًا: آفاق الشراكة الاستراتيجية بين مصر والاتحاد الأوروبي

شهدت العلاقات المصرية الأوروبية زخمًا متواصلًا على مدار السنوات الماضية، سواء على مستوى زيارات المسؤولين الأوروبيين إلى مصر، أو انعقاد مجلس الشراكة العاشر بين مصر والاتحاد الأوروبي الذي عقد في ديسمبر الماضي، الأمر الذي يمكن تفسيره بأن ثمة مصالح مشتركة تتلاقى بينهما خلال الفترة القادمة، فمن ناحية تحاول أوروبا دعم مصر في أزمتها الاقتصادية، ومن ناحية ثانية تهدف إلى مواجهة الأزمات المتلاحقة التي تواجهها مصر والمنطقة على خلفية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وأخرى ثالثة بهدف تعزيز النفوذ الأوروبي في شمال أفريقيا وعبر البحر الأبيض المتوسط.

تعد مصر شريكًا مهمًا للاتحاد الأوروبي في إيجاد حلول لمواجهة عدد من التحديات الاستراتيجية، التي تتخطى الحدود القومية إلى المنطقة الأورومتوسطية بما في ذلك السيطرة على الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط، ومكافحة الإرهاب، والسعي لحل الصراعات الكبرى التي دمرت دولًا بعينها في الشرق الأوسط مثل ليبيا وسوريا واليمن.

ويغلب الطابع الاستراتيجي على العلاقات بين مصر والاتحاد الأوروبي، وأهمية التعاون المشترك في ظل التحديات الإقليمية والدولية المتصاعدة في الوقت الراهن، بخاصة أن مصر تُعد ركيزة للاستقرار في الشرق الأوسط وبوابة إفريقيا، وهو ما أكد عليه الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الذي وصف الشراكة بين مصر والاتحاد الأوروبي بأنها “ذات أهمية استراتيجية بالنسبة لأوروبا”.

ركائز الاستراتيجية المصرية نحو أوروبا

الوضع في غزة: شارك الاتحاد الأوروبي ومصر مخاوفهما من الموقف الإنساني الكارثي في غزة. وحثا على الالتزام بأعلى درجات ضبط النفس طبقا لمبادئ القانون الإنساني الدولي العالمية. وتتفق الرؤية المصرية والأوروبية على الحاجة إلى ضمان توصيل المساعدات الإنسانية والطبية. ويلتزم الاتحاد الأوروبي ومصر بمواصلة العمل معًا عن كثب للحد من وطأة المعاناة الإنسانية التي يعيشها الشعب في غزة، ورفضهما التام لأي شكل من أشكال تهجير الفلسطينيين الفردي أو الجماعي، سواء قسرًا أو بأي شكل آخر، من أي جزء من الأراضي المحتلة بما في ذلك قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.

مجابهة الهجرة غير الشرعية: يسعى الاتحاد الأوروبي إلى شراكة جديدة واسعة النطاق مع مصر، تتضمن تدابير لوقف الهجرة غير الشرعية، وتقويض شبكات تهريب البشر اللاإنسانية. وشهدت الهجرة غير الشرعية لأوروبا من ساحل مصر الشمالي تراجعًا حادًا منذ أواخر 2016. ولمساعدة حرس الحدود وخفر السواحل في مصر على الحد من الهجرة غير الشرعية وقع الاتحاد الأوروبي اتفاقًا مع مصر بقيمة 80 مليون يورو، ضمن برنامج لإدارة الحدود، والحد من طرق الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. وجاء توقيع الاتفاق في إطار الزيارة التي أجراها مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الجوار والتوسع أوليفر فارهيلي، إلى مصر في نوفمبر 2022، وسط تخوفات من زيادة الهجرة عبر الحدود الصحراوية بين مصر وليبيا على البحر المتوسط إلى أوروبا، في خضم الأزمة الاقتصادية العالمية.

ازمة المياه: اعترافا منه لاعتماد مصر الكبير على نهر النيل في إطار ندرة المياه التي تواجهها البلاد، يؤكد الاتحاد الأوروبي على دعمه لأمن مصر المائي والامتثال للقانون الدولي مع التذكير بأن مبدأ “عدم إلحاق الضرر” يمثل مبدأً إرشاديًا في الاتفاقية الأوروبية الخضراء. ويعترف الاتحاد الأوروبي ومصر بأهمية الحفاظ على حقوق الملاحة والحريات في خليج عدن والبحر الأحمر طبقًا للقانون الدولي والذي نصت عليه اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1982 بشأن قانون البحار. وقد وقعت مصر والاتحاد الأوروبي على إعلان مشترك لتأسيس شراكة مياه مستدامة والتي تمثل لحظة محورية في التعاون البيئي طويل الأمد بين الاتحاد الأوروبي ومصر.

التعاون الاقتصادي: يعد الاتحاد الأوروبي أهم شريك تجاري لمصر، ويمثل حوالي 25% من إجمالي حجم التبادل التجاري مع مصر، وتضاعفت التجارة الثنائية في السلع 3 مرات تقريبًا منذ دخول اتفاقية التجارة الحرة حيز النفاذ، ونمت من 8.6 مليارات يورو في عام 2003 “السنة التي سبقت دخول اتفاقية الشراكة حيز التنفيذ” إلى 24.5 مليار يورو في عام 2020، وتصدر مصر في الغالب إلى الاتحاد الأوروبي الوقود والمنتجات التعدينية والكيماويات والمنتجات الزراعية.

ويعد الاتحاد الأوروبي أيضًا المستثمر الرائد في مصر، ويبلغ رصيد الاستثمار المتراكم حوالي 38.8 مليار يورو تمثل حوالي 39% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر، وتظل مصر ثاني أكبر متلقٍ للاستثمار الأجنبي المباشر من الاتحاد الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويعمل الاتحاد الأوروبي ومصر باستمرار على تحسين العلاقات التجارية والاستثمارية من أجل تعزيز التنمية والنمو بما يحقق المنفعة المتبادلة.

مكافحة الإرهاب: يمثل مكافحة الإرهاب والحيلولة دون العنف المتطرف المؤدي للإرهاب هدفًا مشتركًا بين مصر والاتحاد الأوروبي. ويرحب، في هذا الإطار، الاتحاد الأوروبي ومصر برئاستهما المشتركة للمنتدى الدولي لمكافحة الإرهاب ويؤكدان على التزامهما المشترك نحو معالجة الأسباب الرئيسة المؤدية إلى الإرهاب مع الاحترام التام لحقوق الإنسان والحريات الأساسية. والمزيد من التعاون لمعالجة مظاهر الجريمة المنظمة العديدة ومتعددة الأوجه. وتعرب مصر والاتحاد الأوروبي عن التزامهما بالعمل مع أعضاء المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب لتنفيذ نهج شامل وعالمي يعالج الأسباب الجذرية للإرهاب ويوفر استجابات ملائمة وعملية للتهديدات على أرض الواقع. وأهمية تعميق التفاعل والمشاركة مع الجهات الفاعلة الأخرى في تنفيذ هذا النهج.

ثالثًا: آفاق الشراكة الاستراتيجية بين مصر وروسيا

تشكلت الاستراتيجية المصرية تجاه روسيا منذ أربعينيات القرن الماضي، فحافظت على علاقات وطيدة في ظل ما مرت به الساحة الإقليمية والدولية من توترات ونزاعات كشفت عن مدي توافق الرؤية المشتركة التي تجمع البلدين في عدد من الملفات، وفي ظل ما يمتلكانه من رؤى مشتركة على المستويين الداخلي والخارجي، تم تعزيزها تدريجيا على مدار ثمانين عامًا حتى وصلت إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس فلاديمير بوتين، لتمتد الروابط الثنائية على الصعيد الدبلوماسي، والأمني، والدفاعي، والاقتصادي.

تتقدم الرؤية الاستراتيجية لمصر تجاه روسيا بشكل قوى منذ 2014 في مختلف المجالات على المستوي الاقتصادي والسياسي وصولًا إلى المستوى التقني والعسكري، وقد حصل هذا التقدم على دفعة كبيرة باتفاقية الشراكة الشاملة التي تم توقيعها بين مصر وروسيا عام 2018، وقد اتخذ الطرفان خلال الفترة الاخيرة خطوات تاريخية من شأنها تعميق الشراكة، منها اعتماد التعامل بالعملات الوطنية، وتفعيل بطاقة مير الروسية في النظام المصرفي المصري وانضمام مصر إلى البريكس.

وعن الأزمة الروسية الأوكرانية، فقد استندت القاهرة إلى النهج المحسوب في رسم موقفها من الأزمة، ففي الوقت الذي أعلت فيه مصر دبلوماسيًا من قيمة الالتزام بمبادئ القانون الدولي، رفضت ازدواجية المعايير في تعامل مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة مع روسيا ورفضت قرارًا ينهي عضويتها، مما عكس صورة من الحياد الموزون الذي أهّل القاهرة فيما بعد للدعوة إلى وقف الحرب الروسية الأوكرانية من منصة مؤتمر المناخ في شرم الشيخ.

ركائز الاستراتيجية المصرية تجاه روسيا

تسعى الرؤية المصرية الاستراتيجية إلى تنويع شراكاتها الدولية من أجل توسيع استقلالها الاستراتيجي، مع تعظيم العوائد الجيوسياسية والاقتصادية، وذلك من خلال:

استقرار الشرق الأوسط: تأتي القاهرة على رأس اهتمامات روسيا؛ نظرًا للدور الكبير الذى تلعبه في ضمان استقرار الشرق الأوسط، والثقل الكبير الذى تحظى به القاهرة داخل القارة الأفريقية، فضلًا عن موقعها الاستراتيجي المتميز، وقربها من الأسواق الآسيوية والإفريقية وكذلك الأوروبية، وهو ما ظهر بشكل واضح في قمة “روسيا – إفريقيا” في نسختيها اللتين عُقدتا في 2019 و 2023؛ وذلك انطلاقا من سعى القاهرة لتنويع علاقاتها مع مختلف الشركاء الدوليين والقوى الدولية، في سياق الاتجاه نحو تعدد القطبية، خاصة أن موسكو تولي تقديرًا كبيرًا لمساعي القاهرة واستعدادها للانخراط في جهود الوساطة في مسعى، لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية التي مازالت تداعياتها تلقى بظلالها على مختلف دول العالم.

وتتبنى مصر وروسيا موقفًا وثيقًا فيما يتعلق بالوضع في سوريا وليبيا، وهو ضرورة تعزيز الحوار السياسي الشامل بين الأطراف المتنازعة، وأنه لا يوجد بديل إلا الحل السياسي في كلا النزاعين. تعد مصر الشريك الإقليمي الأساسي لروسيا في مكافحة الإرهاب حيث تقدر روسيا جهود مصر في هذا المجال، بما في ذلك الحملة طويلة الأمد التي تشنها قوات الأمن المصرية في شمال سيناء ضد الإرهاب.

كما أن هناك مشاورات منتظمة على مستوى وزاري في إطار (2+2) في مجالي الشؤون الخارجية والدفاع التي تسهم في تطوير الشراكة الاستراتيجية بين مصر وروسيا، فكلا الجانبين يشجعان على توسيع التعاون الاقتصادي والتجاري من خلال الإطار الحالي للجنة الحكومية المشتركة. ويبدي الجانبان اهتمامًا كبيًرا بالحفاظ على اتصالات مكثفة وتعاون في مجالي الأمن ومكافحة الإرهاب ومن المخطط عقد اجتماع لمجموعة العمل المشتركة حول قضايا مكافحة الإرهاب في المستقبل.

المشروعات النووية: تعد روسيا أول دولة دعمت مصر في التكنولوجيا النووية، والدليل على ذلك محطة “الضبعة” للطاقة النووية، وإنشاء المنطقة الصناعية الروسية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، والتي ستمهد الطريق للبدء في مشروعات للتصنيع المشترك وتوطين الصناعة، والتصدير إلى أسواق العديد من الدول في مناطق جغرافية مختلفة، فضلًا عن مناقشة التعاون في مجال توريد الحبوب والغذاء في ضوء الأزمة العالمية الحالية. وتعطى هذه المشاريع رسالة واضحة أن الشراكة المصرية – الروسية ستظل على نهجها، وتدعم روسيا كل الطموحات المصرية لنقل الخبرات التكنولوجية في مختلف المجالات.

وفي مجال الطاقة، تم التوقيع على اتفاقيات لتطوير قطاعات الكهرباء والطاقة النووية في مصر بالتعاون مع شركات روسية. كما يهتم قطاع الأعمال الروسي بتوسيع نشاطه في المجال الصناعي وفي مجال اللوجيستيات، وزيادة التعاون في مجال تصدير المعدات الزراعية، والدواء، والتكنولوجيا الرقمية بما يزيد من فاعلية الدور الروسي في مجال أمن المعلومات، كما أن التعاون في مجال النقل شهد إبرام اتفاقيات لتطوير قطاع النقل البحري، في مصر بالتعاون مع شركات روسية، وزيادة التعاون في مجال النقل الجوي. فضلًا عن التعاون في المجالات الثقافية، وزيادة التدفق السياحي الروسي إلى مصر، بالإضافة إلى تطوير التعاون في مجال التعليم وارتفاع عدد الطلاب المصريين في روسيا، الذي وصل إلى 15 ألف طالب.

التعاون الاقتصادي: تشهد العلاقات الاقتصادية بين مصر وروسيا تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، حيث تم التوقيع على العديد من الاتفاقيات التجارية والاستثمارية بين البلدين، وزيادة حجم التبادل التجاري بشكل كبير، وتركزت العلاقات الاقتصادية بين البلدين على عدة مجالات، منها الصناعات الغذائية، حيث تم إبرام اتفاقيات لتصدير المنتجات الزراعية المصرية إلى روسيا، وتوقيع اتفاقيات لتجميع السيارات في مصر بالتعاون مع شركات روسية

وللمزيد من تنويع شركائها، انضمت مصر رسميا إلى تجمع البريكس ما يتيح لها المزيد من الأسواق غير التقليدية لمنتجاتها واستخدام العملات المحلية لسداد وارداتها من روسيا والهند والصين، وهي الأعضاء الرئيسة في البريكس. يأتي ذلك في وقت زاد فيه الضغط على طلب الدولار مع الدعوة للتخلي عن العملة الأمريكية في تسوية التجارة الخارجية في ضوء انضمام المزيد من الدول إلى تجمع البريكس، وأصبحت مصر أحدث الوافدين عليه.

رابعًا: آفاق الشراكة الاستراتيجية بين مصر والصين

تستند الاستراتيجية المصرية تجاه الصين على عدة مرتكزات أولها، العامل التاريخي والتفاهم السياسي بين البلدين، وهو ما انعكس على تعزيز التعاون المشترك بين الجانبين في مختلف المجالات على مدى ما يقرب من 65 عامًا؛ حيث دعمت مصر عضوية الصين في الأمم المتحدة في منتصف سبعينيات القرن العشرين، وتمسكت بمبدأ “الصين الواحدة”، وأيدت مبدأ “دولة واحدة ونظامان” في منطقة هونج كونج الإدارية الخاصة الخاضعة للصين. ثانيًا، يتفق البلدان على تعظيم الاستفادة من مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقها الرئيس الصيني «شي جين بينج» عام 2013، لا سيما في ظل دعم مصر المتواصل لتلك المبادرة وحرصها على المشاركة فيها.

ويقوم الهدف الرئيس للرؤية المصرية تجاه الصين على تدشين نظام سياسي ذي توجهات تنموية داخليًا، وتبني سياسة “التوجه شرقًا” على المستوى الخارجي، وهو ما يسهم في تأسيس علاقات مصرية صينية مستقبلية تتجاوز الأطر التقليدية، السياسية والاقتصادية والتجارية، وتؤسس لشراكة أكثر شمولًا وتوسعًا تتمثل في تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين، وذلك من خلال زيادة حجم التجارة بين البلدين وجذب الاستثمارات الصينية إلى مصر. ويمثل اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين مصر والصين أهمية استراتيجية كبيرة لكلا البلدين، حيث يوفر فرصة حقيقية لمصر لتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري مع أكبر اقتصاد في العالم، وجذب الاستثمارات الصينية إلى مصر.

وهناك عدة دوافع لقيام الدولتين بتطوير علاقاتهما في المستقبل، من أبرزها: رفض الدولتين التدخل في الشأن الداخلي لكلتيهما؛ حيث تتجنبان ممارسة أية ضغوط داخلية عليهما فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، إضافة إلى تسارع وتيرة النمو الاقتصادي الصيني الذي تراه مصر النموذج العالمي المستهدف في تحقيق التنمية، حيث نجحت الصين في تحويل نفسها من دولة نامية إلى قوة اقتصادية كبرى، وهو ما يستدعي بالتالي ضرورة السعي الحثيث إلى إقامة علاقات اقتصادية وثيقة معها أملًا في تعزيز مكانة مصر الاقتصادية واللوجستية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ ويتيح للصين فتح أسواق مصر الكبيرة أمام منتجاتها في المنطقة التي قد تمنح بدورها بكين نافذة لباقي العالم العربي وإفريقيا؛ وهذه الأهداف وغيرها دفعت الحكومتين إلى توقيع أكثر من 65 اتفاقية ثنائية خلال الفترة بين عامي 2014 و2022، ومن أبرزها اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة في عام 2014.

ركائز الاستراتيجية المصرية نحو الصين

أقامت مصر والصين على مدى العقد الماضي شراكة استراتيجية شاملة بينهما، فتحت عصرًا ذهبيًا من القفزات التنموية في العلاقات الثنائية. وتسعى الرؤية المصرية إلى تحقيق:

  • مواصلة البلدان تعميق الثقة الاستراتيجية المتبادلة، ودعم بعضهما بعضا بقوة في حماية المصالح الأساسية، وقدمت الصين الشكر لمصر على الدعم القيم الذي تقدمه في القضايا المتعلقة بالمصالح الأساسية للصين، خاصة مسألة تايوان، وستواصل الصين دعم مصر بقوة في حماية سيادتها الوطنية وأمنها واتخاذ طريق تنمية ناجح يناسب ظروفها الوطنية.
  • العمل بشكل مشترك على البناء عالي الجودة لمشروع الحزام والطريق لتحقيق منافع متبادلة، ونتائج مربحة للجانبين على مستوى أعلى، فيما أعربت الصين عن استعدادها للعمل مع الجانب المصري لتنفيذ خطة الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين للسنوات الخمس المقبلة وتعميق التعاون العملي في مختلف المجالات، ومواصلة دعم مصر لتعزيز بنائها الاقتصادي والاجتماعي، واستيراد المزيد من المنتجات عالية الجودة من مصر، فضلًا عن تشجيع المزيد من الشركات الصينية على الاستثمار في مصر.
  • تعزيز الحوار الحضاري وتحقيق تبادلات شعبية أعمق بين الجانبين وتعزيز التعاون في مجالات الثقافة والشباب ومراكز البحوث والتعليم المهني، وستواصل الصين تشجيع المزيد من المواطنين الصينيين على زيارة مصر وتجربة سحر حضارتها العريقة.
  • الاتفاق على ضرورة أن يتعين على البلدين إجراء اتصالات وتعاون على نحو أوثق في القضايا الإقليمية والدولية. وتتطلع الصين إلى العمل مع مصر لقيادة التعاون الجماعي بين الصين والدول العربية وبين الصين وإفريقيا نحو مستوى جديد، وبناء نموذج للتعاون الجنوبي-الجنوبي عالي الجودة، وتعزيز الحوكمة العالمية بشكل مشترك نحو اتجاه بناء عالم متعدد الأقطاب منصف ومنظم، وتعزيز عولمة اقتصادية شاملة تعود بالنفع على الجميع.
  • استمرار دعم مصر لمبدأ الصين الواحدة، ومواصلة التنسيق المشترك لتعزيز السلم والاستقرار على المستوى الدولي، وتأكيد العزم على استمرار مشروعات التنمية الاقتصادية المشتركة، سواء على المستوى الثنائي أو في إطار العضوية في تجمع “بريكس”، ومبادرة الحزام والطريق.

كاتب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى