جدوى اتخاذ مجلس الأمن قرار بوقف إطلاق النار خلال شهر “رمضان” في السودان
اعتمـد مجلس الأمن قرارًا يفضي إلى وقف “مؤقت” وفوري لإطلاق النار في السودان خلال شهر رمضان في الثامن من مارس الجاري، وذلك وفقًا للمقترح الذي قدمته بريطانيا والذي ينص على وقف فوري للأعمال العدائية ويطالب جميع أطراف النزاع بالبحث عن حل دائم عبر الحوار، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع وآمن وبدون عوائق، وقد تم تبني القرار بأغلبية 14 صوت، فيما امتنعت روسيا عن التصويت. وجاء القرار الأخير من مجلس الأمن بعد أن دعا الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتريش” طرفي الصراع إلى احترام قيم شهر رمضان ووقف إطلاق النار، الأمر الذي فتح بابًا للأمل والتفاؤل بين السودانيين بأن نهاية الحرب قد اقتربت، إلا أن المؤشرات الميدانية لا تشير إلى نية الأطراف في إدخال الهدنة حيز التنفيذ، مما يطرح تساؤل حول؛ هل تلتزم الأطراف المتحاربة بقرار المجلس بالوقف المؤقت للحرب وتسهل دخول المساعدات الإنسانية في ظل الأزمة الإنسانية المستمرة منذ 11 شهر؟ وهو ما سيحاول التقرير الإجابة عليه في السطور القادمة.
سياقات دافعة لاتخاذ مجلس الأمن قرار وقف إطلاق النار
تأتي القرارات الأخيرة التي اتخذها مجلس الأمن الدولي في ضوء العديد من السياقات، ويعتبر القرار الأخير خطوة إيجابية لمجلس الأمن في ملف الأزمة السودانية، والذي اقتصرت جهوده على مدار العام الأخير منذ اشتعال الصراع في السودان على إصدار بيانات شجب واستنكار دون اتخاذ أي قرارات تفضي إلى الوقف الدائم او المؤقت لنزيف الشعب السوداني. وفي ذلك الإطار يمكن تحديد أهم السياقات الدافعة لقرار مجلس الأمن في التالي:
- دعوة الأمين العام للأمم المتحدة لوقف الحرب:
شكلت دعوة الأمين العام الأخيرة دافعًا قويًا لاتخاذ مجلس الأمن قراره الأخير، حيث دعا في البيان الذي ألقاه الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتريش” أمام مجلس الأمن طرفي الصراع في السودان للموافقة على وقف الأعمال القتالية خلال شهر رمضان، مشيرًا إلى أنه يؤمل من هذه الخطوة أن تؤدي إلى إسكات الأسلحة بشكل نهائي في جميع أنحاء البلاد، ورسم طريق محدد نحو السلام الدائم للشعب السوداني.
وبشكل لافت، نوه الأمين العام إلى تأثير الصراع الجاري في السودان على استقرار المنطقة بأكملها من الساحل إلى القرن الأفريقي والبحر الأحمر، فضلًا عن التأثيرات الإنسانية للصراع على زيادة نزيف الشعب السوداني، حيث تتجدد الهجمات في ولايتي الخرطوم والجزيرة وأماكن أخرى، مشيرا إلى أن القتال أجبر الأمم المتحدة مؤخرًا على تعليق عملياتها من المركز الإنساني الحيوي في ود مدني وهناك مخاوف متزايدة من توسع الأعمال العدائية شرقا.
كما سلط الأمين العام الضوء على دعوات تسليح المدنيين، وأنشطة الحشد الشعبي في مختلف الولايات وتدخل الجماعات المسلحة في المعركة في دارفور وجنوب كردفان، وقال إن كل هذه التطورات الخطيرة تصب الزيت على النار مما يؤدي إلى تفتيت البلاد بشكل أكثر خطورة، وتعميق التوترات بين المجتمعات، والمزيد من العنف القبلي. وقد كانت تلك الكلمات التي ألقاها الأمين العام بمثابة عامل ضغط على أعضاء مجلس الأمن لاتخاذ قرار عاجل بشأن وقف الأعمال العدائية القتالية المستمرة في السودان.
- اتخاذ السلطات السودانية قرار تسهيل وصل المساعدات عبر تشاد:
اتخذت السلطات السودانية قرارات تهدف بها إلى تسهيل دخول المساعدات الإنسانية، وقامت بإبلاغ الأمم المتحدة موافقتها على استخدام معبر “الطينة” في تشاد لدخول المساعدات الإنسانية إلى دارفور، بعد اتفاق تم بين الحكومتين السودانية والتشادية على الجوانب الفنية. عقب ذلك إعلان مجلس السيادة السوداني عن تحديد المطارات الخاصة بإنفاذ المساعدات والمطارات المخصصة للرحلات الإنسانية، وتأتي تلك الجهود وفقًا لما جاء في إعلان جدة بضرورة سماح السلطات بوصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل وفوري إلى جميع السكان الضعفاء بغض النظر عن مكان وجودهم ومن يسيطر على المنطقة. وذلك في سياق تعثر وصول المساعدات منذ اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع منتصف أبريل (نيسان) العام الماضي، إلى مئات الآلاف من المدنيين العالقين في مناطق الصراع.
لكن على الرغم من الجانب الإيجابي لقرار تسهيل المساعدات، إلا أن تلك القرارات لم تبعث الأمل في نفوس السودانيين المنهكين من الحرب، وذلك على خلفية استمرار الحرب وصعوبة الوصول للمساعدات التي يواجها الشعب السوداني منذ 11 شهر، وتوقع الشعب الذي يعاني من أزمة إنسانية مستمرة استمرار عرقلة الوصول للمساعدات بسبب استمرار الصراع المسلح.
- توقعات استئناف مفاوضات “منبر جدة” مطلع مارس:
في نهاية فبراير الماضي، تم تداول بعض الأخبار المتعلقة بكشف مصادر من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع عن استئناف المفاوضات في منبر جدة، مطلع مارس الجاري. وأشارت الأخبار إلى أن المفاوضات بين الطرفين ستنقل إلى جدة وثيقة مبادئ وأسس الحل الشامل للأزمة السودانية، التي جرى توقيعها في العاصمة البحرينية المنامة، بين نائب قائد الجيش الفريق شمس الدين كباشي، ونائب قائد قوات الدعم السريع الفريق عبد الرحيم دقلو. وقد تضمنت الوثيقة تكوين جيش قومي مهني من القوتين المتقاتلتين، والقبض على قيادات تنظيم الإخوان المسلمين، وعلى رأسهم المطلوبون للمحكمة الجنائية الدولية، والفارّون من السجون، وتفكيك نظام الحركة الإسلامية. غير أنه لم يتم الإعلان بشكل رسمي حتى الآن عن جولة جديدة من المفاوضات التي تستضيفها جدة، إلا أنه يمكن اعتبار تلك الأخبار هي عبارة عن تصريحات غير مباشرة تعكس نوايا استئناف المفاوضات في الفترة المقبلة.
- تفاقم الوضع الإنساني وتدهوره بشكل مستمر:
يستمر الصراع المسلح في السودان منذ 11 شهر والذي خلف أزمة إنسانية عدُت من أكبر الكوارث الإنسانية التي تحل بمجتمع أو شعب ما، وأصبحت أزمة النزوح في السودان تحتل المرتبة الأولى عالميًا حيث صُنفت على أنها “أكبر أزمة نزوح داخلي في الوقت الحالي على مستوى العالم”، في ظل بحث 6.3 مليون شخص عن الأمان داخل البلاد منذ بداية الصراع، وفرار 1.7 مليون شخص آخرين إلى البلدان المجاورة.
كما تسبب الصراع في تدمير البنية التحتية المدنية وتوقف الخدمات الأساسية، وأكثر من 70% من المرافق الصحية في المناطق المتضررة من النزاع لا تعمل، وملايين الأطفال خارج أسوار المدارس، وأنظمة المياه والصرف الصحي تنهار والأمراض تنتشر. ويلاحق الجوع 18 مليون شخص في السودان ويعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وهو أكبر رقم تم تسجيله على الإطلاق خلال موسم حصاد، ويحتاج نصف السكان- نحو 25 مليون شخص- إلى المساعدة المنقذة للحياة، ومن المتوقع أن يزيد العدد في الأشهر المقبلة، فضلًا عن وفاة أطفال بسبب سوء التغذية. بالإضافة إلى أن عدد القتلى في تزايد على مدار العام والذي وصل إلى ما يزيد عن 14 ألف شخص.
وفي إطار ما سبق، يمكن القول بان العوامل السابقة -التي ذكرت على سبيل المثال لا الحصر وتم ترتيبها من حيث الأهم فالمهم- شكلت دوافع قوية أمام مجلس الأمن الدولي لاتخاذ القرار الأخير المتعلق بوقف إطلاق النار، وعلى الرغم من أن تلك الخطوة تعد إيجابية بالنظر إلى أن المجلس لم يتخذ أي قرار من شأنه وقف إطلاق النار في السودان منذ بداية الصراع، إلا أنه يبدو ان تلك الدعاوي قد ذهبت أدراج الرياح، إذ لا تظهر التصريحات المتتالية القادمة من السودان، كما لا تظهر الوقائع على الأرض أيضا، أي بشائر للسودانيين بالعودة إلى حياة طبيعية في الوقت القريب.
تصريحات سياسية متضاربة وتجدد اشتباكات متصاعد
بدا الإحباط سيد الموقف لدى السودانيين، الذين كانوا قد استبشروا خيرا بالدعوة إلى الهدنة لالتقاط الأنفاس، وممارسة بعض من طقوس حياتهم الطبيعية، التي اعتادوا عليها خلال شهر رمضان، حيث حدد بيان الخارجية السودانية بشكل صريح 4 شروط لقبول وقف إطلاق النار، وهم؛ أولًا تنفيذ قوات الدعم السريع التزاماتها عبر منبر جدة بخروج عناصرها من مساكن المواطنين والمرافق العامة والأعيان المدنية. ثانيًا انسحاب قوات الدعم من ولايتي الجزيرة وسنار وكل المدن التي اعتدت عليها بعد التوقيع على إعلان المبادئ الإنسانية في 11 مايو 2023 مثل نيالا والجنينة وزالنجي والضعين، ومن ثم تجميع قواتها في مكان يتفق عليه. ثالثًا وقف الفظائع وانتهاكات القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان التي ترتكبها القوات في مختلف الولايات التي اعتدت عليها بما فيها ولايات دارفور، الجزيرة، سنار، النيل الأبيض، جنوب كردفان، وغرب كردفان. رابعًا إعادة المنهوبات العامة والخاصة ومحاسبة مرتكبي أعمال التدمير التي طالت المرافق العامة وممتلكات المواطنين.
في حين ردت قوات الدعم السريع من خلال مستشارها القانوني محمد مختار النور، أن قوات الدعم ستلتزم بوقف إطلاق النار خلال شهر رمضان، لكنها سترد إن هي تعرضت لهجوم. ووافق مبدئيًا رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان على لسان مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس على القرار، لكنه اشترط وقف قوات الدعم السريع هجماتها ضد المدنيين بلا انقطاع، داعيا إلى “تقديم آلية للتنفيذ”.
وقد شكلت تلك التصريحات السابقة مؤشرات واضحة على عدم نية الأطراف المتحاربة في السودان لوقف الصراع، على الرغم من تهاتف تلك الأطراف من وقت لأخر بأنها على استعداد لوقف إطلاق النار، واتهام كل طرف بتعنت الطرف الأخر، إلا تحركات الطرفان تعكس تعنتهما معًا وانسداد الأفق أمام أي حل سياسي مقترح من شأنه وقف حد للدماء النازفة من الشعب السوداني وتنفيذ وقف إطلاق النار حتى وإن كان “مؤقتًا”. ويمكن إرجاع ذلك إلى التخوف من أن الهدنة المؤقتة قد تؤدي إلى إعادة اصطفاف كل طرف واستعداده لشن هجمات أكبر بعد مرور شهر رمضان، والسماح بإعادة تسليح وتذخير الطرفان وعودة الصراع بشكل أوسع.
وقد عكس ذلك التحركات العسكرية الأخيرة بعد إقرار الهدنة، ففي أول أيام شهر رمضان، احتدم القتال في العاصمة الخرطوم، بين الجيش السوداني والدعم السريع في أم درمان وبحري غربي وشمالي العاصمة، وأكد الجيش في بيانه أن قواته في منطقة الكدرو العسكرية شمالي مدينة بحري دمرت 7 عربات قتالية وشاحنتي وقود تابعة للدعم السريع. كما تقدم الجيش السوداني نحو مبنى الإذاعة والتلفزيون وسط اشتباكات قوات الدعم، كما تمكن أيضا من السيطرة بشكل كامل على مدخل جسر شمبات من ناحية أم درمان القديمة، وسُمعت أصوات انفجارات قوية بحي النهضة وحول مواقع لقوات الدعم السريع والمدينة الرياضية وأرض المعسكرات، جنوبي مدينة الخرطوم.
وفي ثاني أيام رمضان ذكر الجيش السوداني -في بيان أصدره- أنه أحبط في الساعات الأولى من اليوم محاولة من قبل قوات الدعم السريع للهروب من طوق فرضه عليها الجيش بمحيط حي المُلازمين ومقر الإذاعة السودانية، وأورد البيان أن قوات الجيش قضت على معظم القوة الهاربة ودمرت واستلمت معظم معداتها وآلياتها، مشيرا إلى استهداف مجموعة أخرى من قوات الدعم السريع حاولت إسناد المقاتلين المحاصرين. وفي نهاية اليوم تمكن الجيش من استعادة وتحرير مقر الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون بمدينة ام درمان من قوات الدعم السريع.
وفي الفترة الأخيرة، لوحظ تقدم الجيش السوداني ميدانيًا، حيث في الأسبوع الأخيرة أعلن سيطرة قواته على أحياء ود نوباوي وبيت المال وأبو روف في مدينة أم درمان، بعد أن كانت تنتشر فيها قوات الدعم السريع خلال الشهور الماضية، وترى العديد من التحليلات أن التحرك الميداني الأخير المتعلق بسيطرة الجيش على مقر الإذاعة والتلفزيون بمدينة ام درمان يعد مؤشرًا جيدًا وحافزًا لاستمرار محاولات الجيش في استعادة المقرات السي سيطرت عليها قوات الدعم.
ماذا بعــد؟
تطرح التحركات الميدانية الأخيرة للجيش واستعادته السيطرة على مقر الإذاعة والتلفزيون، تساؤلات عن الخطوات التي يمكن أن تترتب على ذلك، خاصة في مسار الهدنة التي دعا لها الأمين العام للأمم المتحدة، وأقرها مجلس الأمن، في التاسع من مارس الجاري، بعد مقترح من بريطانيا، خاصة في ظل موقف الجيش الواضح والمعلن، بأنه لا تفاوض مع قوات الدعم السريع، ما لم تنفذ اتفاقية جدة، وتخرج من منازل الموطنين والأعيان المدنية، وأيضًا موقف قوات الدعم السريع الذي أكد أنه سيلتزم بوقف إطلاق النار مع الاحتفاظ بحقه في الدفاع إذا هوجمت من قبل الجيش السوداني.
ومن المتوقع أن تشكل التحركات الأخيرة دافعًا للجيش السوداني من أجل استمرار تقدماته واستعادة كافة المناطق التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع منذ بداية الصراع في أبريل الماضي. أما عن مصير الهدنة التي أقرها مجلس الأمن، فتشير المؤشرات الأخيرة إلى أن الطرفان ليس لديهما أي نية في وقف الصراع في الوقت الحالي، وعلى استمرار التصاعد بين الطرفين وربما استمرار المعارك بحدة أكبر، خاصة في ظل التقدمات الأخيرة التي حققها الجيش السوداني.
وعلى الرغم من إقرار قوات الدعم السريع باستعادة الجيش السوداني لمقر الإذاعة في أم درمان، دون وجود أي رد فعل ميدانية حتى الآن، إلا أنه وفقًا للتصريحات التي أدلى بها مستشارها القانوني محمد مختار النور، أن قوات الدعم سترد إذا تعرضت لهجوم، فيتوقع أن تقوم قوات الدعم بهجوم في الأيام المقبلة ردًا على تحركات الجيش، خاصة في ظل تأكيد مستشارها عمران عبد الله أن قوات الدعم السريع قد خسرت الإذاعة ولم تخسر المعركة برمتها، وهو ما يمكن تفسيره باستعدادها لشن هجمة في الأيام المقبلة.
أما عن مصير إيصال المساعدات، فعلى الرغم من اتخاذ السلطات السودانية قرار تسهيل وصل المساعدات إلا أن تصاعد المواجهات بين الجيش وقوات الدعم السريع، من المتوقع أن يدفع إلى أزمة إنسانية أكبر خاصة مع دخول شهر رمضان أيامه الأولى، حيث يعاني 18 مليون سوداني من انعدام الأمن الغذائي الحاد، إذ صار 5 ملايين منهم على شفا المجاعة، بينما تواجه المنظمات صعوبات في إيصال المساعدات إلى المتضررين، بحسب وكالات الأمم المتحدة، وهو ما يؤكد أن استمرار الصراع سيؤدي إلى وقوع مزيد من الملايين السودانيين تحت براثن الجوع والفقر، وبعد فشل الهدنة الأخيرة التي أقرها مجلس الأمن، تقع مسؤولية إيصال المساعدات في المقام الأول حاليًا على السلطات السودانية، ووضع حد للأزمة الإنسانية الجارية ومنع تفاقمها.