قراءة في الانتخابات البرلمانية الإيرانية.. سيطرة المحافظين
انتهت الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية الإيرانية الثانية عشر في تاريخ الجمهورية الإسلامية وعزز معها الأصوليون “المحافظون” من مواقعهم في البرلمان ومجلس الخبراء. وكان هذا الأمر متوقعاً إلى حدٍ كبير قبل حتى إجراء الانتخابات في الأول من مارس 2024؛ حيث كان أغلب المؤهلين للترشح من جانب “مجلس صيانة الدستور” – المنوط به “فلترة” المرشحين – من الأصوليين وتم استبعاد أعداد كبيرة من المنتمين للتيار الإصلاحي، ما بدا معه الطريق ممهداً أمام الأصوليين.
ولكن مع هذا، لا ينبغي للمحافظين الذين باتوا الآن – وسيتضح أكثر بعد الجولة الثانية للانتخابات البرلمانية المقررة بعد أسابيع قليلة – في مواقع القيادة السياسية بإيران سواء في مجلس صيانة الدستور أو البرلمان الحالي والمقبل أو مجلس الخبراء أو حتى في المواقع الاستراتيجية الأخرى في الهيئات الاستخباراتية بالبلاد أن يثقوا كثيراً في أن مسار استبعاد الإصلاحيين وتوطيد ثقل المحافظين في جميع المواقع السياسية بإيران سيكون “فرصة” لهم أو لإيران ذاتها في المستقبل، بل إنه سوف يشكل على هذا النحو “تهديداً” لسياسات وسيطرة الأصوليين على الحكم في إيران.
سيطرة مطلقة للمحافظين: النتائج الأخيرة للانتخابات في إيران
انتهت الانتخابات البرلمانية الـ 12 وانتخابات مجلس الخبراء الـ 6 في إيران في الأول من مارس 2024. وقد حسمت هذه المرحلة الأولى النتائج الكلية وهُوية النواب القادمين في البرلمان، وهم الأصوليون بالأساس. فقد أُجريت الانتخابات بشقيها في 31 محافظة إيرانية لتشمل 208 دائرة انتخابية و59 ألف لجنة فرعية. وقد تم الإعلان خلال الأيام الماضية عن نتائج 188 دائرة انتخابية وتتبقى بالتالي 20 دائرة أخرى لم تُحسَم بشكل كامل.
وحسب إعلان وزارة الداخلية الإيرانية، فقد حسم الناخبون 245 مقعداً في الجولة الأولى ويتبقى 45 كرسياً يحتاجون إلى جولة انتخابية ثانية. ومن بين الـ 245 هؤلاء، حصل 200 فائز في الجولة الأولى على دعم ائتلافات أو أحزاب متشددة وذلك بنسبة 81.6%، بينما يمكن القول إن الـ 45 فائزاً المتبقين ينتمون لقوائم مدعومة من معتدلين نسبياً أو مستقلين أو محافظين أيضاً.
وطبقاً لموقع “تابناك” الإيراني الناطق بالفارسية، فإن محافظة “كهكيلويه وبوير أحمد” قد شهدت النسبة الأكبر من الإقبال من جانب المصوتين الإيرانيين بنسبة بلغت 64.27% من إجمالي عدد ناخبين في تلك المحافظة وحدها يصل إلى 520 ألف شخص. وقد ذهبت أغلب الأصوات في هذه المحافظة إلى المرشحين المعتدلين مثل “غلامرضا تاجكردون” و”محمد بهرامي”. أما محافظة طهران العاصمة، فقد استحوذت على نسبة المشاركة الأقل على الإطلاق من بين مجموع المحافظات الإيرانية البالغ 31 بواقع 24%، تليها محافظة ألبرز وكردستان بـ 28.4% و30.54% على التوالي.
ويمكننا تفهم لماذا كانت النسبة الأقل في طهران وألبرز وكردستان حينما ننظر مرة أخرى إلى التظاهرات العارمة التي كانت قد شهدتها إيران على إثر مقتل الفتاة الكردية “مهسا أميني” في سبتمبر 2022 واستمرت أشهراً، حيث تُعد طهران العاصمة مركز التفاعلات السياسية في البلاد ولا تبعد عنها جغرافياً وديناميكياً محافظة ألبرز التي كانت بالأساس جزءً من طهران حتى انفصلت عنها في 23 يونيو 2010. كما أنه بالعودة لقومية مهسا أميني الكردية وتبلور التظاهرات المُشار إليها في محافظة كردستان الإيرانية ومدنها على نحو واسع، سنتفهم أيضاً لماذا جاءت محافظة كردستان إيران في المرتبة الثالثة في البلاد من حيث انخفاض نسبة المشاركة الشعبية.
سيطر المحافظون أيضاً على الأصوات في طهران وألبرز وبقية المحافظات الأخرى التي من بينها كردستان. أما فيما يخص الأقليات الدينية، فقد فاز عالم الاجتماع “آرا شاورديان” – الذي ينتمي للمسيحيين الأرامنة شمال إيران – بعدما حصل على 5058 صوتاً، وفاز الطبيب ورئيس جمعية يهود إيران “همايون نجف آبادي” في الجولة الأولى من الانتخابات بـ 1406 صوتاً، وفاز أيضاً “كقارد منصوريان” ممثلاً عن المسيحيين الأرامنة في جنوب إيران، بينما فاز “بهشيد برخوردار” بـ 1021 صوتاً ممثلاً عن الطائفة الزرادشتية.
لماذا يدق استبعاد الإصلاحيين من السلطة ناقوس خطر سياسي للنظام في إيران؟
على الرغم من أن استحواذ الأصوليين على مفاصل الدولة في إيران خلال السنوات الماضية وخلال الانتخابات الأخيرة قد وطّد من نفوذهم بشكل غير مسبوق في تاريخ الجمهورية الإسلامية منذ تسعينيات القرن الماضي، إلا أن استبعاد الإصلاحيين في الواقع يحمل في طياته عدة تهديدات سياسية داخلية لنظام الحكم في إيران سوف تتضح على الأغلب خلال السنوات المقبلة إن استمر الحال كما هو عليه. حيث إنه وعلى غير ما تذهب كثير من الآراء لدى الأروقة السياسية في طهران، فإن النظام السياسي الإيراني يحتاج إلى إشراك الإصلاحيين في الحكم خاصة خلال الفترة المقبلة، وذلك من أجل ما يلي:
- منع تكوين الإصلاحيين جبهة موحدة “مشددة” قد تتعاون مع الخصوم:
إن استبعاد الإصلاحيين على هذا النسق والشكل الجاري سوف يعمق من الخلافات بين الإصلاحيين والأصوليين من ناحية وبين النظام السياسي الإيراني برمته والإصلاحيين من ناحية أخرى؛ ذلك لأن الإقصاء العميق يختلف كلية عن الإقصاء النسبي، فالأول يُتوقع أن يُحدث تغييراً في إيديولوجية الإصلاحيين ويجعلهم “أكثر إصلاحاً” مما يريد الأصوليون والدولة العميقة في إيران ممثلة في المجتمع الاستخباراتي والحرس الثوري ورجال الدين، مما يبعدهم بالأساس عن نهج النظام والدولة. أما الإقصاء النسبي، فهو يتيح متنفساً على أي حال للجماعة السياسية السلمية الرسمية من خلال المشاركة في السلطة.
وعليه، فإن النظام الإيراني كوحدة سياسية حاكمة سوف يخلق بذلك جماعة داخلية أكثر معارضة له قد تذهب بآرائها بعيداً عما يريد النظام السياسي، حيث يمكن لها أن تختلف بذلك مع الآراء الجذرية والثابتة للنظام الممثلة في عدة مباديء سياسية محلية من بينها القبول بنظرية ولاية الفقيه. بل لا يُستبعد أن يدفع الاستبعاد الإصلاحيين إلى التعاون مع خصوم النظام السياسيين في المستقبل.
وعلى أي حال، تشكل هذه السيناريوهات تهديداتٍ سياسية للنظام الإيراني ولنظام ولاية الفقيه.
- تجنب إعاقة الانتقال لمرحلة “إيران ما بعد خامنئي”:
إن تلك السيناريوهات السالف ذكرها قد تشكل تهديداً داخلياً لانتقال إيران لمرحلة ما بعد خامنئي؛ ذلك لأن الإصلاحيين لديهم سياسيون بارزون ومؤثرون في الحياة الداخلية ولديهم منابر ومنافذ إعلامية شتى، وهم باستطاعتهم أيضاً تحريك بعض من أنصارهم في الداخل، على غرار ما حدث في الاحتجاجات الخضراء في 2009. وينتاقض هذا بالطبع مع ما تحتاج إليه إيران خلال الفترة المقبلة من هدوء سياسي بغية الترتيب الدقيق لضمان الانتقال السلس لمرحلة ما بعد خامنئي.
- إيجاد قنوات حوار مباشر أو غير مباشر مع الغرب:
حينما بدت الحرب مطروحة بشدة على الطاولة خلال شهر فبراير 2024 بين الولايات المتحدة وإيران وخشيت الأخيرة من توجيه الجيش الأمريكي ضربات لها في العمق إثر مهاجمة موالين للحرس الثوري قاعدة “البرج 22” الأمريكية في الأردن، لجأ المرشد الأعلى، علي خامنئي، إلى السياسيين الإصلاحيين من أجل التفاهم مع واشنطن وإقناعها بأن إيران لن تتوسع في هجماتها أو ترفع من درجة عدم الاستقرار الإقليمي. وكان على رأس هؤلاء وزير الخارجية الإصلاحي السابق، محمد جواد ظريف. أي أن خامنئي لم يلجأ للوزير الحالي أو أي من الوزراء القائمين؛ لأن كلهم من الأصوليين الذين لا يتمتعون بعلاقات جيدة مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة، بل إن بعضهم يخضع لعقوبات أمريكية أو أوروبية.
ومن هذا المنطلق، فإن النظام الإيراني سوف يحتاج على الأغلب للسياسيين الإصلاحيين خلال الفترة المقبلة؛ لأسباب عدة سوف تعزز وتقوي من الحاجة إليهم، خاصة في المرحلة المقبلة التي تحتاج إلى تهدئة إيران إقليمياً ودولياً في ظل الترتيب لإيران ما بعد المرشد الحالي. وتأتي من بين هذه الأسباب حاجة طهران للتواصل مع واشنطن والغرب بشأن ترتيبات المرحلة المقبلة والتعامل مع ملفات إقليمية ودولية، كما أن الخبرة والقبول اللتان يتمتع بهما السياسيون الإصلاحيون في التعامل مع الغرب، والتي اكتسبوها على الأغلب خلال فترة رئاسة حسن روحاني، سوف تدفعان النظام للتشاور معهم.
- المسؤولية المشتركة أمام الشعب وانتخابات 2025 الرئاسية:
خلال فترة حكم الإصلاحيين برئاسة حسن روحاني (2013- 2021)، حمّل الأصوليون مسؤولية التدهور الاقتصادي والتراجع في عدة ملفات إلى السياسيين الإصلاحيين الذين كانوا يسيطرون على السلطة التنفيذية في البلاد، ما شجّع في الواقع قطاعات من الإيرانيين على اللجوء للتيار الأصولي لعلهم يجدون الحل لديهم. أما مع استبعاد الإصلاحيين وإخراجهم من المشهد، فإن المواطنين الإيرانيين سوف يحملون الأصوليين المسؤولية كاملة على النواحي الاقتصادية والسياسية وغيرهما، ما يمثل بالأساس تهديداً لمستقبل هذا التيار المحافظ على الناحية السياسية. إذ، قد يدفع ذلك، من إحدى جوانب المشهد، المصوتين في الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2025 أو خلال الدورات الانتخابية الأخرى للبرلمان ولمجلس الخبراء لاستبعاد الأصوليين من التصويت واختيار الإصلاحيين، كما أنه يمنح الإصلاحيين الفرصة لتزعم أي احتجاجات شعبية مقبلة في إيران.
الاستنتاج: يشكل استبعاد الإصلاحيين من منظومة الحكم في إيران تهديداً لمستقبل الأصوليين على الناحية السياسية من جانب، وللنظام السياسي في إيران على المدى المتوسط والبعيد من جانب أخر، خاصة وأن ذلك النظام يحتاج إلى توحيد صفوف الموالين داخلياً وإلى الهدوء أيضاً من أجل الترتيب “الصحيح”، حسب رؤية النظام، لمرحلة “إيران ما بعد خامنئي”. كما لا تقتصر هذه التهديدات على السياسة الداخلية، بل إنها سوف تنعكس على علاقات إيران مع الخارج، خاصة مع الدول الغربية.