تحرير سعر الصرف المصري: الدوافع والتداعيات
في صباح يوم الأربعاء، استيقظ المصريون على بيان استثنائي من لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري. تضمن البيان قرارًا تاريخيًا بتحرير سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي، تاركًا سعره يتحدد وفقًا لآليات السوق. ويُعد هذا القرار علامة فارقة في مسيرة الاقتصاد المصري، ويُمثل خطوة جريئة نحو تحقيق الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل. تهدف هذه الخطوة إلى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وزيادة الصادرات، وتحسين تنافسية الاقتصاد المصري على الصعيد الدولي.
كما جاء قرار تحرير سعر الصرف عقب خطوة مفاجئة من البنك المركزي المصري برفع أسعار الفائدة بنحو 600 نقطة أساس في نفس اليوم. تهدف هذه الخطوة إلى كبح جماح التضخم، الذي يُعد أحد أكبر التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري في الوقت الحالي. لا شك أن تحرير سعر الصرف يُمثل تحديًا كبيرًا للحكومة المصرية، حيث قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة في المدى القصير. ومع ذلك، فإن الحكومة المصرية تُدرك أهمية هذه الخطوة على المدى الطويل، وتعمل على اتخاذ خطوات للتخفيف من آثارها السلبية على المواطنين.
تفاصيل القرار وأسبابه
في خطوة مفاجئة، أقدم البنك المركزي المصري على رفع أسعار الفائدة بنحو 600 نقطة أساس، تبعها خفض قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي. هذه الخطوة، التي اعتبرها البعض “مفاجئة” و”غير متوقعة”، أثارت العديد من التساؤلات حول تداعياتها على الاقتصاد المصري والمواطن العادي. بلغ سعر صرف الدولار 45 جنيهاً بحلول الساعة 10.30 بتوقيت القاهرة، وفق بيانات البنك التجاري الدولي، ما يمثل تراجعاً بنسبة 46%. وتشير بيانات بنوك خاصة أخرى إلى تراوح سعر صرف الدولار بين 40 و42 جنيهاً. وبلغ متوسط سعر الصرف 47 جنيهاً لكل دولار في أكثر من 10 بنوك مصرية بحلول الساعة 11.43 بتوقيت القاهرة، مما يمثل ارتفاعاً في سعر الدولار مقابل الجنيه بنسبة 53%.
خفض قيمة الجنيه يهدف إلى جذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة بعد قرار رفع أسعار الفائدة، الذي من شأنه أن يجعل الجنيه أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب. كما أن هذه الخطوة تهدف إلى تشجيع الصادرات المصرية، وتعزيز قدرة الشركات المصرية على المنافسة في الأسواق العالمية. كما يرى البعض أنها ضرورية لتعزيز الاقتصاد المصري وجذب الاستثمارات الأجنبية.
من ناحية أخرى، قرر البنك المركزي المصري رفع أسعار الفائدة بواقع 600 نقطة أساس في اجتماع استثنائي، وذلك في مسعى لكبح جماح التضخم المتصاعد. وبهذه الزيادة، يصبح إجمالي الزيادة في أسعار الفائدة منذ مارس 2022 حوالي 1900 نقطة، ليصل سعر عائد الإيداع والإقراض في مصر لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي إلى 27.25%، 28.25% و27.75%، على الترتيب. يُعزى هذا القرار إلى توقعات البنك المركزي بتجاوز التضخم المعدل المستهدف البالغ 7% في الربع الرابع من عام 2024. ويهدف البنك من خلال هذه الزيادة إلى تقليل كمية الأموال المتداولة في السوق، مما يُقلل من الطلب على السلع والخدمات وبالتالي يُساهم في خفض الأسعار.
وعلى الرغم من أن هذه الزيادة ستؤثر سلبًا على تكلفة الاقتراض، إلا أنها ستُحفز على الادخار، خاصة مع ارتفاع عائد شهادات الادخار. فقد قرر بنكا “مصر” و”الأهلي” طرح شهادات ادخار لمدة 3 سنوات بعائد قياسي 30% سنوياً للعام الأول و25% للعام الثاني و20% للعام الثالث، وذلك بعد وقت قصير من قرار البنك المركزي. ويُشير ذلك إلى سعي البنوك لجذب المزيد من الودائع، مما يُساعد في الحد من التضخم. ويُعد هذا القرار خطوة جريئة من البنك المركزي المصري، ويهدف إلى تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والسيطرة على التضخم. ولكن يبقى السؤال: هل ستكون هذه الزيادة كافية لكبح جماح التضخم؟
من الأهمية تحليل الأسباب التي أدت إلى اتخاذ القرار، فهو يأتي في سياقٍ معقدٍ يواجه فيه الاقتصاد المصري تحدياتٍ جمة، أبرزها التضخم وارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء. انخفاض التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية حيث وصل إلى 29.8 بالمئة في يناير من 33.7 بالمئة في ديسمبر، وعلى أساس شهري، ارتفعت الأسعار بنسبة 1.6% في يناير، مقارنة بـ 1.4% في ديسمبر. وارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 1.4%، مقارنة بـ 2.1% في ديسمبر. وفي العام حتى يناير، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 47.5%، بانخفاض من 60.5% في العام حتى ديسمبر. ويعد التضخم من أهم التحديات التي يعاني منها الاقتصاد المصري وتضغط على كاهل المواطن المصري، والشكل التالي يوضح تطور التضخم خلال الأشهر الماضية:
من ناحية أخرى، خسر الجنيه المصري أكثر من 50% من قيمته مقابل الدولار الأمريكي منذ بداية عام 2022، مما أدى إلى تفاقم أزمة نقص العملة الصعبة. ونتيجة لذلك، ظهرت السوق الموازية للعملة، حيث يتم تداول الدولار بأسعار أعلى بكثير من السعر الرسمي وبصورة لا تعبر عن قيمته الحقيقية. وأدت هذه الظاهرة إلى حالة من القلق في السوق المصرفي حيث اعتمد التجار على أسعار السوق الموازية لتجنب الخسائر، مما تسبب في زيادة أسعار السلع. كما أدى نقص العملة الصعبة إلى حجز البضائع في الموانئ، مما أدى إلى نقص المعروض من السلع وزيادة التضخم.
كما أدى تفاقم أزمة سعر الصرف إلى انكماش نشاط الأعمال بالقطاع الخاص غير المنتج للنفط في مصر خلال فبراير 2024. فقد تراجع مؤشر مديري المشتريات (PMI) الخاص بالقطاع إلى 47.1 في فبراير، من 48.1 في يناير، ما يشير إلى تدهور كبير في وضع القطاع. وتمثل هذه القراءة أدنى مستوى لها في 11 شهراً، مما يعكس حجم التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري. كما تفاقم إجمالي عجز صافي الأصول الأجنبية للبنوك المصرية، شاملةً البنك المركزي، ليسجل مستوى تاريخياً جديداً عند 28.96 مليار دولار نهاية يناير الماضي.
كما كان أحد أهم أسباب تحرير سعر الصرف هو نقص الاحتياطيات الأجنبية لدى مصر. كان البنك المركزي المصري ينفق الكثير من الاحتياطيات الأجنبية لدعم سعر الجنيه المصري، مما أدى إلى انخفاضها بشكل كبير. وكان تحرير سعر الصرف أحد مطالب المستثمرين الأجانب. كان المستثمرون الأجانب يطالبون بتوحيد سعر الصرف وجعله أكثر شفافية. ويُعدّ قرار رفع سعر الفائدة خطوة ضرورية لمعالجة هذه التحديات، لكنه قد يكون له بعض الآثار الجانبية السلبية. فقد يؤدي إلى زيادة تكلفة الاقتراض على الشركات والأفراد، ولكن، على المدى الطويل، من المتوقع أن يساعد قرار رفع سعر الفائدة في استقرار سعر صرف الجنيه المصري، وجذب الاستثمار الأجنبي، وخفض التضخم.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية
في ظل مسار التعافي والنمو الذي يشهده الاقتصاد المصري، اتخذت القيادة السياسية قرار تحرير سعر الصرف، إيمانًا منها بقدرة هذا القرار على إحداث نقلة نوعية في مسيرة التنمية وتحسين حياة المواطن. لم يكن قرار تحرير سعر الصرف خطوة ارتجالية، بل جاء بعد دراسة متأنية وتقييم شامل لاحتياجات الاقتصاد المصري في هذه المرحلة. فمع بدء التعافي وعودة ثقة المستثمرين، كان من الضروري اتخاذ خطوات جريئة لتعزيز هذا المسار وتحقيق الاستقرار على المدى الطويل.
يتوقع أن يكون لتحرير سعر الصرف العديد من الآثار الإيجابية على مختلف قطاعات الاقتصاد المصري، بدءًا من زيادة حجم الصادرات المصرية وجذب الاستثمارات الأجنبية، وصولًا إلى خلق فرص عمل جديدة وتحسين مستوى معيشة المواطن. ومن أهم فوائد تحرير سعر الصرف عودة تدفقات تحويلات المصريين في الخارج من العملات الأجنبية، وزيادة استقرار ميزان المدفوعات. كما سيساهم في زيادة الطلب على المنتجات المصرية لأنها ستكون أرخص من مثيلاتها، مما يحقق مستهدفات الدولة من تدفقات النقد الأجنبي رسميًا للسوق الرسمي في البنوك.
كما يؤدي تحرير سعر الصرف إلى الإسراع في إبرام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، بما يوفر تمويلًا إضافيًا للاقتصاد المصري. ويساهم تحرير سعر الصرف في الوصول بالصادرات المصرية إلى 145 مليار دولار خلال الست سنوات القادمة، وفقًا لوثيقة التوجهات الاستراتيجية للاقتصاد المصري. بالإضافة إلى أنه من المتوقع أن يكون لتحرير سعر الصرف تأثير إيجابي على زيادة حجم الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث سيساهم في تحديد الجدوى الاقتصادية للمشروعات التي ينوي المستثمرون ضخ استثماراتهم فيها داخل الاقتصاد المصري.
كما يتوقع أن يؤدي تحرير سعر الصرف إلى زيادة خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، نتيجة إلى زيادة حجم الإنتاج المدفوع بزيادة حجم الصادرات المصرية وجذب الاستثمارات الأجنبية. الإضافة إلى أنه سيساهم تحرير سعر الصرف في زيادة أعداد السائحين الوافدين إلى مصر، مما يساعد في الوصول إلى تحقيق المستهدف في إيرادات قطاع السياحة وفقًا لوثيقة التوجهات الاستراتيجية للاقتصاد المصري خلال الست سنوات القادمة إلى 45 مليار دولار في عام 2030.
ومن ناحية أخرى، يؤدي تحرير سعر الصرف لزيادة حجم الاحتياطي النقدي والأجنبي لدى البنك المركزي المصري، مما يعطي الأريحية والملاءة المالية القوية للاقتصاد المصري في الوفاء بالتزاماته وتعهداته الدولية. كما سيعزز تحرير سعر الصرف من سمعة وثقة الدولة المصرية أمام المؤسسات المالية والدولية، ويرفع التصنيف الائتماني للاقتصاد المصري، مما يعني ثقة أكبر في قدرته على توليد إيرادات مستدامة واقتصاد متنوع ينمو ويزداد، وبالتالي ثقة أكبر للمستثمرين في مناخ الاستثمار في مصر.
وعلي صعيد أخر، عانى المواطن المصري خلال الفترة الماضية، وتحمل الكثير من الضغوط الاقتصادية، فهل هذه الخطوة ستزيد من معاناته؟ الإجابة هي لا لن يتأثر المواطن المصري سلبياً بالقرار. فعلى الرغم من الارتفاع المؤقت للأسعار في بداية الأمر، إلا أنه سرعان ما يتلاشى هذا الارتفاع مع استقرار السوق وتوافر السلع بشكل كافٍ. وتُعد زيادة الصادرات من أهم الفوائد الاجتماعية لقرار تحرير سعر الصرف، حيث تصبح السلع المصرية أكثر تنافسية في الأسواق العالمية.
ومع زيادة الصادرات، تزيد الحاجة إلى العمالة، مما يخلق فرص عمل جديدة للشباب المصري، ويُساهم في خفض معدلات البطالة. كما يُشجع تحرير سعر الصرف تحويلات المغتربين، حيث تصبح قيمة تحويلاتهم أكثر بالعملة المحلية. وهذا بدوره يُساهم في تحسين مستوى المعيشة لأسرهم في مصر، ويُعزز من الاستقرار الاجتماعي. ولا ننسى أيضاً التأثير الإيجابي على جذب الاستثمارات الأجنبية، حيث تصبح مصر وجهة أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب. ومع زيادة الاستثمارات الأجنبية وزيادة المنافسة في السوق المصري، تنخفض الأسعار بشكل تلقائي، مما يُساهم في تحسين جودة السلع والخدمات المقدمة للمواطنين.
ختاماً، يُعد تحرير سعر الصرف قرارًا هامًا يحمل في طياته فوائد اجتماعية جمة للمواطن المصري. فمع انخفاض أسعار السلع المستوردة، وزيادة الصادرات، وتحويلات المغتربين، وجذب الاستثمارات الأجنبية، يُمكننا توقع تحسين مستوى المعيشة للمواطنين، وخفض معدلات البطالة، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي.