غرق السفينة “روبيمار”: هل يتحول البحر الأحمر إلى ساحة تصفية حسابات؟
بعد إعلان خلية الأزمة التابعة للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا غرق السفينة البريطانية “روبيمار”، وهي سفينة شحن كانت قد جنحت في خليج عدن بعد استهداف الحوثي لها ضمن مسلسل الاعتداءات على السفن في البحر الأحمر والمستمر منذ أشهر، اتجهت جميع الأنظار لمحاولات رصد المخاطر البيئية لغرق السفينة خصوصًا أنها كانت محملة بحوالي 21 ألف طن من الأسمدة الكيماوية، وأشارت تقديرات إلى أنها كانت تنقل مادة الأمونيا -التي تدخل في صناعة المتفجرات وزيوت غير معروفة- مما يشكل قلقًا بيئيًا بالغًا تكون إحدى انعكاساته تكوين بقعة نفطية قطرها 18 ميلًا؛ إذ إن بقية حمولة السفينة التي تصل إلى 41 ألف طن غير معروفة ويخشى من أن تكون مشتقات نفطية.
وأعاد هذا للأذهان أزمة الخزان صافر والتي لم تنته حتى الآن وبدأت في ميناء الحديدة الذي يسيطر عليه الحوثي، حين رست الناقلة العملاقة صافر التي كانت تستخدم كمرفق عائم للتخزين والتفريغ وترسو قبالة محطة نفط البحر الأحمر اليمنية في رأس عيسى. قبل أن تتوقف عمليات الإنتاج والتفريغ والصيانة في عام 2015 بسبب الحرب في اليمن، لتحذر الأمم المتحدة من أن السلامة الهيكلية للناقلة قد تدهورت بشكل كبير وأنها معرضة لخطر الانفجار وهو ما تطلب تدخل الأمم المتحدة لتفريغ حمولة الخزان.
ويثير ما تقدم التكهنات حول تحول البحر الأحمر ” لمكب نفايات” من جهة ولـ “ساحة تصفية حسابات” من جهة أخرى بسبب التوترات الجيوسياسية في المنطقة وتنامي عسكرتها وتحكم الحوثي دون الدولة اليمنية في هذه المنطقة بدعم وإن لم يكن بتوجيه من إيران التي تعرضت سفينة تابعة لها هي الأخرى للاعتداء من الحوثي فيما وصف بالنيران الصديقة.
ماذا حدث؟
مع استمرار الحرب في غزة، نشط عديد من أذرع إيران في المنطقة في محاولات لتشكيل ضغط على إسرائيل وتشتيت قوتها ودفعها لوقف إطلاق النار في غزة، وهو ما لم تنجح فيه هذه الأذرع حتى الآن.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة نجحت من خلال ضرباتها المضادة في ردع وكلاء طهران في العراق وسوريا فإنها لم تنجح في ذلك مع الحوثي رغم أنها شكلت تحالفًا مثلت بريطانيا ضلعًا أساسيًا فيه، ومع ذلك فقد تخاذلت لندن عن مسؤولياتها الدولية في سحب السفينة ومحاولة تفريغ حمولتها باعتبار أن السفينة بريطانية، ولكنها تجاهلت الكارثة طالما أن السفينة لن تغرق في بحر المانش.
ونتيجة للتخاذل الغربي استمر الحوثي في استهداف حركة السفن في البحر الأحمر ، وقام باستهداف السفينة “روبيمار” للمرة الأولى في الثامن عشر من فبراير الماضي قبل أن يستهدفها مرة أخرى في الأول من مارس لتغرق السفينة في خليج عدن بفعل سوء الأحوال الجوية أيضًا، منذرة بكارثة بيئية تبدو أكبر من أن يتم استيعابها، خاصة في ظل عجز الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا ونظرًا لضعف الإمكانات المادية والفنية من سحب السفينة قبل غرقها خاصة أنها استقرت في تلك المنطقة لمدة أسبوعين تقريبًا قبل أن تغرق بشكل كامل.
إلا أن بعض التصريحات الصادرة عن الحكومة اليمنية أشارت إلى ان سحب السفينة إلى الأراضي الضحلة في السواحل اليمنية لن يمنع الكارثة بل سيفاقمها؛ نتيجة تسرب الزيوت المدمرة للبيئة البحرية ووصول التلوث إلى مصادر غذاء الأسماك في الشعاب المرجانية؛ الأمر الذي يهدد “الأمن الغذائي” لفقراء اليمن المعتمدين على الاصطياد التقليدي.
علاوة على ذلك، أكدت التقارير الحكومية أن هجمات الحوثيين تهدد بكوارث بيئية واقتصادية كبيرة تتمثل في التلوث البحري وتدمير الثروة البحرية، وستكون لها انعكاسات خطيرة على الاقتصاد اليمني ونشاط الموانئ اليمنية، من جراء توقف سلاسل إمداد النفط والغذاء وبقية السلع، وكذا ارتفاع أجور النقل البحري ورسوم التأمين بصورة مضاعفة، بما ينعكس سلبًا على حياة المجتمع والاقتصاد برمته.
وقد أثارت الحادثة اهتمامات متجددة بعدد من النقاط، من أبرزها أن السفينة “روبيمار” دخلت حيز العمل منذ حوالي 27 عامًا أي أنها تجاوزت المتوسط الأصغر للعمر الافتراضي لسفن الشحن والتي تتراوح مدة عملها بين 25 و30 عامًا على شرط أن تجرى لها الصيانات الدورية، والنقطة الأخرى هي الآثار المدمرة للحروب على البيئة.
وتؤثر الحروب على البيئة بطرق متعددة، وتتراوح آثارها من الآثار الفورية إلى الآثار الطويلة الأمد. ومن أهم هذه الآثار تلوث المياه التي تعد من أهم الموارد الطبيعية التي تتأثر بشدة جراء الحروب. فخلال النزاعات العسكرية، يتم تدمير محطات تنقية المياه وأنابيب الصرف الصحي، مما يؤدي إلى تسرب المواد الكيميائية والملوثات إلى المياه العذبة والمحيطات فضلًا عن غرق الناقلات والسفن نتيجة استهدافها. وهذا يعني تلوث المياه وفقدانها لقدرتها على الاستخدام الآمن والمستدام.
الأضرار البيئية الناجمة عن الكارثة
تبدو الأضرار الناجمة عن غرق سفينة بحمولة 41 ألف طن من المواد الكيماوية المعروفة وغير المعروفة صعبة الحصر، خاصة أن الحادثة كانت نتيجة هجمات عسكرية في منطقة البحر الأحمر التي تعد من أكثر المناطق توترًا في الوقت الحالي.
ومع تنامي الأضرار الاقتصادية والأمنية لهذه الكارثة طالما غابت الجهود الدولية لاحتوائها، إلا أن الأضرار البيئية الناجمة أكثر تأثيرًا لأن انعكاساتها السلبية تمتد إلى فترات زمنية أطول.
وفي هذا السياق تتضمن المخاطر البيئية الناتجة عن غرق روبيمار ما يلي:
-أضرار جسيمة على البيئة البحرية؛ إذ إن هناك أكثر من 500 نوع من أنوع الأسماك مهددة، إضافة إلى الآثار التدميرية على الشعب المرجانية. وعلى الصعيد الاجتماعي، فإن هناك مئات الآلاف من اليمنيين الذين يعتمدون على الصيد البحري وخاصة الطرق التقليدية في الصيد مما يعني غياب مصدر الرزق لهم.
-تهديد السياحة في دول أخرى مطلة على البحر الأحمر نتيجة لأن الرياح ستقوم بتحريك الملوثات إلى سواحل الدول الأخرى. فيؤثر غرق السفينة على نوعية المياه ووصولها للشواطئ والسواحل، وبالتالي من المتوقع أيضًا أن تؤثر على حركة السياحة في الدول المطلة على البحر الأحمر.
-الأضرار المباشرة على صحة الإنسان؛ إذ إن المواد التي تحملها السفينة من أسمدة فوسفات الأمونيا ستذوب في مياه البحر وتلوثه، وستؤدي إلى انخفاض نسبة الأوكسجين الذائب في الماء مما سيؤدي إلى موت الكائنات البحرية، في حين أن بعضها -مثل الرخويات والأسماك- ستحمل هذه السموم وستنتقل عبر الصيد إلى السلسلة الغذائية العليا، وسيؤثر في المجتمعات الساحلية وحتى المناطق الداخلية باليمن، وربما يؤدي إلى انتشار أمراض سرطانية.
-التأثير سلبًا على الدول التي تلجأ إلى تحلية مياه البحر للحصول على مياه شرب ووصول هذه الأضرار إلى المستهلكين وتسببها في أمراض خبيثة. فضلًا عن أن أثر التلوث البيئي جراء غرق السفينة سيمتد أيضًا إلى آبار المياه سواء السطحية أو القريبة جدًا من مواقع التلوث، وكذلك تلوث محطات التحلية التي تعتمد على مياه البحار سواء في الجزر أو المناطق المتاخمة التي تعتمد على مياه البحر في التحلية واستخدامها مصدرًا أساسيًا للحصول على مياه الشرب.
-احتمالات وجود تسرب نفطي وتكوين بقعة زيتية يزيد من المخاطر والأضرار التي سوف تؤثر على التنوع البيولوجي على المستوى المتوسط والمدى الطويل.
-حطام “روبيمار” يعد مشكلة ضخمة، فهناك حطام سفينة تاريخية غارقة منذ الحرب العالمية الثانية ما زال يحمل تأثيرات على الأحياء الدقيقة في قاع بحر الشمال. إذ أشارت الدراسة التي نشرت في دورية “فرونتيرز إن مارين ساينس” إلى أن الحطام ما زال يسرب ملوثات خطيرة -مثل المتفجرات والمعادن الثقيلة- في قاع البحر وقد عثر الفريق البحثي على درجات متفاوتة من تركيزات الملوثات السامة وذلك حسب المسافة من حطام السفينة. وعلى وجه التحديد، فقد رصد الفريق وجود معادن ثقيلة كالنيكل والنحاس، ومواد كيميائية توجد طبيعيًا في الفحم والنفط الخام والبنزين (تنتمي إلى الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات)، والزرنيخ ومواد متفجرة. وقد عُثِر على التركيزات الأعلى للمعادن في العينات الأقرب من مخزن فحم السفينة.
– ويضاف إلى ذلك انتشار حطام السفينة يسبب أضرار كبيرة للسفن العابرة في الممر لأن هناك مخاطر من الاصطدام بها مما يعيق حركة الملاحة.
سيناريوهات التدخل الدولي لاحتواء الأزمة
من الأهمية أن تبدأ الجهود الدولية بشكل فوري لاحتواء الآثار السلبية للكارثة والابتعاد عن التعامل مع منطقة البحر الأحمر باعتبارها منطقة تصفية حسابات بين القوى الكبرى وإيران، وهو ما يتطلب سرعة تقييم الآثار الناجمة عن طريق الأقمار الصناعية وتحديد نوعية الأسمدة التي كانت على متن السفينة من خلال تشكيل فرق بحثية تحت أشراف الأمم المتحدة.
ولكن في نفس الوقت فإنه من المهم أن يتم اتخاذ التدابير الوقائية قبل تحديد شحنة السفينة بالتفصيل من خلال عدد من الإجراءات مثل حماية السواحل بسواتر عوامة كإجراء وقائي، يضاف له إجراءات وقائية أخرى مثل الطريقة الهرمية وهي عبارة عن هيكل هرمي مكون من حديد مساحته من القاعدة (١٠٠×١٠٠قدم) ووزنه حوالي ٣٥٠ طنًا ويوضع عند الشقوق التي تسرب البترول في قـاع البحـار، فيتجمع به ما يتصاعد من الغاز والبترول، ثم يدفع بالغاز الـذي يتجمـع فـي الهرم عبر أنابيب ممتدة من الهرم إلى اليابسة، أمـا البتـرول فيتـراكم فـي مستودعه حتى تأتي الناقلات بين حين وآخر فتحمله وتنقله إلى الشاطئ.
وهناك كذلك ما يعرف بالسفينة الكابسة وهي تعمل كالمكابس الكهربائية، وهي ذات طاقـة كبيـرة قـدرها 40 م٣ من الزيت في الساعة وأنبوب الشفط فيها لا يقل قطره عن ٦ بوصـات لضمان الطاقة الكبيرة المرغوبة وهذه الطاقة الكبيرة للشفط تساعد على تنظيف ماء البحر من الزيت، والسفينة مجهزة بما يشبه الأجنحة وهي تعمل على دفع الزيت تجاه الأنبوب الشافط، وقامت الشركات الإنجليزية بتطوير هذه الـسفن ومعداتها في أوائل الثمانينات وهناك وسائل أخرى فنية معروفة ومجربة على مستوى العالم.
وإلى جانب الجهود الفنية، يتطلب الأمر تشكيل خلية لمتابعة كل ما يخص غرق السفينة تحت إشراف الأمم المتحدة تسهم في متابعة تطبيق الاتفاقات الدولية في هذا الإطار؛ إذ تلزم الاتفاقية الدولية لعام ١٩٦٩ المتعلقة بالتعويض عن أضرار التلويـث بالزيت بالتعاون في المجـال التكنولوجي لمكافحـة الزيـت لأن عمليات المكافحة تحتاج إلى خبرة وإمكانيات لا تتوافر لكثير من الـدول.
وكذلك مراعاة تطبيق اتفاقية جدة حول حماية البيئـة البحريـة للبحـر الأحمـر وخلـيج عدن بتاريخ 1982 وتسرى أحكام هذه الاتفاقية المبرمة بين الدول المطلة على البحر الأحمـر وخليج عدن على البيئة البحرية بقطاعاتها المختلفة عدا بيئة المياه الداخلية في مفهوم قانون البحار كما تسرى على السفن والطائرات المسجلة في تلك الدول ، عدا السفن والطائرات الحربية وغيرها من السفن الحكومية التي تستخدم في أغراض غير تجارية. وفى المواد من 4-8 منها قررت الاتفاقية على الدول الأطراف أن تتخـذ كافة التدابير والإجراءات الملائمة لمنع التلوث البحري وخفضه ومراقبته أيـًا كان مصدره وانضمت مصر للاتفاق عام 1989.
أخيرًا، يشير ما حدث إلى حالة من التخاذل الدولي ليس فقط في محاولات سحب السفينة واللحاق بالكارثة قبل أن تقع ولكن حتى في دعم الحكومة اليمينة المعترف بها دوليًا وتأهيلها للتعامل مع مثل هذه الأوضاع. وربما يرجع هذا التخاذل إلى رغبة في الإبقاء على منطقة البحر الأحمر كمنطقة نزاع، وتحويل هذه المنطقة شديدة الأهمية إلى ساحة تصفية حسابات بين القوى الكبرى والصين من جهة وبين القوى الكبرى وإيران من جهة أخرى. ولكن الواقع أن العالم كله يتضرر من هجمات الحوثي في منطقة البحر الأحمر؛ إذ تتضرر تجارة الصين وكذلك حلفاء الولايات المتحدة مثل الهند. فضلًا عن أن الهجمات أدت إلى رفع أسعار الشحن وبالتالي رفع أسعار السلع النهائية.