يجري رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان زيارة مهمة إلى القاهرة، هي الزيارة الثانية له منذ اندلاع الحرب في السودان في ١٥ أبريل ٢٠٢٣؛ إذ جرت الزيارة الأولى في أغسطس ٢٠٢٣ بعد أسابيع من استضافة القاهرة مؤتمر دول جوار السودان.
تأتي هذه الزيارة لاستمرار المشاورات الهادفة إلى حل الأزمة والبناء على مخرجات المفاوضات الإقليمية، خاصة مع تفاقم الأزمة في ديسمبر الماضي مع محاولات الدعم السريع السيطرة على مدينة ود مدني لعزل العاصمة الخرطوم، ومع تعقد الوضع العسكري في البلاد.
يأتي استقبال الرئيس السيسي لرئيس مجلس السيادة السوداني في القاهرة عقب عدد من الزيارات الميدانية والاستقبال المصري لعدد من القادة الأفارقة؛ لتوسيع دائرة التعاون الأفريقي، والتأكيد على الرؤية المصرية القائمة على تحقيق مصالح الشعب السوداني وبناء الدولة الوطنية، وإيجاد حل سياسي سوداني – سوداني، مع ضمان تقديم المساعدات الإنسانية لضحايا الحرب في السودان.
الوضع في السودان
اندلعت الحرب في السودان بين الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في 15 أبريل الماضي، على خلفية الاتفاقية الإطارية حول مدد دمج “الدعم السريع” إلى الجيش الوطني، وقيادة الجيش الوطني، في ظل الخطة الموضوعة لاستكمال المرحلة الانتقالية، وعقب الانقسامات السودانية عقب تعديل المسار الانتقالي في أكتوبر 2022، والتي اعتبرته القوى المدنية بقيادة الحرية والتغيير انقلابًا على الوضع الحالي.
وخفت الحديث عن الوضع في السودان مع اشتعال الأوضاع في غزة في 7 أكتوبر الماضي، حتى هجمات قوات الدعم السريع على مدينة ود مدني، وتوسع رقعة الصراع بين الجيش السوداني والدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي” في ديسمبر 2023، والتي امتدت من العاصمة الخرطوم إلى الولايات المجاورة بجانب ولايتي دارفور وولايتي النيل الأزرق وكردفان، وسط حديث أممي عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والقتل على أساس جهوي، أسفر عن انقسام داخل الحركات المسلحة ذاتها.
ومثل ذلك عقبة أمام تنفيذ اتفاقية جوبا لضم الحركات المسلحة عقب انقسامها في ظل التحيز إلى أحد طرفي النزاع، حيث تضم السودان حوالي 92 حركة مسلحة، فيما تم دعوة المدنيين لحمل السلاح للوقوف بجانب القوات المسلحة والحفاظ على المدن من هجمات قوات الدعم السريع فتشكلت قوى المقاومة الشعبية، فيما قام رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” بالعمل على تجميع الأطراف المتحاربة في السودان والوصول إلى حل سياسي، وتنفيذ مخرجات الإيجاد، إلا أن التشكيك في الانحياز إلى أحد الأطراف ومحاولة تنفيذ ما يحقق مصالح القوى الخارجية بعيدًا عن حل جذور الأزمة، كلها عوامل حالت دون التوصل إلى حل تفاوضي حتى الآن.
المفاوضات القائمة
تاتي الزيارة الحالية عقب توقف العديد من المبادرات لوقف الاقتتال الدائر في السودان، والممثلة في مسارات “مفاوضات جدة” برعاية سعودية أمريكية، والتي توصلت إلى اتفاق بوقف إطلاق نار مؤقت لإيصال المساعدات الإنسانية وخروج الرعايا الأجانب برعاية مصرية بالتفاوض مع جانبي الأزمة، إلا أن جولات مفاوضات جدة العديدة لم تسفر عن أي تقدم سياسي تفاوضي بين الجانبين نتيجة اختراق اتفاقيات وقف إطلاق النار.
أما مخرجات قمم الإيجاد والاتحاد الأفريقي فقد توصلت إلى نتائج قبل اندلاع الأزمة الاخيرة قد تؤدي لنزع السلطات السودانية من أيدي أبنائها، ووجود قوات مشتركة لرعاية العملية الانتقالية، وصولًا إلى اتفاق قمة جيبوتي في 11 ديسمبر 2023 بضرورة عقد لقاء بين البرهان وحميدتي، فيما أعلنت الخارجية السودانية عن تعذر اللقاء لأسباب فنية كما أبلغتها جيبوتي في 27 ديسمبر الذي يليه.
وبدأ الحديث عن لقاء الطرفين في أوغندا على هامش القمة الطارئة بشأن الأوضاع في القرن الأفريقي في 18 يناير من العام الحالي، وهو الأمر الذي اعتبره السودان تدخلًا في شؤونه، فجمد عضويته في الهيئة الحكومية للتنمية “الإيجاد” بشكل كامل، وأعلن مجلس السيادة السوداني عدم التزامه بمخرجات القمة المنعقدة في العاصمة الأوغندية “كامبالا” وذلك عقب الزيارات المكوكية التي عقدها رئيس الدعم السريع محمد حمدان دقلو، فاعتبرته الحكومة السودانية تحيزًا من جهة، وتدخلًا ضد سيادة السودان من جهة أخرى عقب الحديث عن نشر قوات من شرق أفريقيا في السودان مع إعطاء سلطات للشرطة المدنية لحماية المؤسسات، دون الحديث عن جيش وطني موحد.
كيف كان الدور المصري؟
بدأ الدور المصري من خلال التنسيق الدولي والإقليمي على المستوى السياسي والإنساني لحماية الشعب السوداني والحفاظ على مقدرات الدولة السودانية وحماية مفهوم الدولة الوطنية برعاية مصالح أبنائها، وهو ما يمكن رصده في التالي:
– على المستوى الإنساني: أدى النزاع القائم في 15 أبريل الماضي، وتوسع رقعته في ديسمبر الماضي، إلى مقتل ما يصل إلى 13.900 سوداني، وإصابة حوالي 27.700 شخص من 15 أبريل 2023 حتى يناير 2024، وفقًا للبيانات الأممية، ونزوح أكثر من 8 ملايين من 9 ولايات، ما بين نزوح داخلي وخارجي ومنهم 1,8 مليون خارج السودان.
هذا بجانب حالة انعدام الأمن الغذائي التي يعاني منها نحو 18 مليون سوداني ومتوقع أن تصل إلى نحو 24 مليون مع نهاية عام 2024، مع وجود ما يصل إلى نحو 4.5 ملايين نازح داخلي. وبحسب التقديرات الأولية للمفوضية الأممية لشءون اللاجئين فإنهم سيحتاجون إلى نحو 445 مليون دولار مع توقع زيادتها.
ويمثل الوضع الإنساني أزمات لدول الجوار ليس لاستقبالها النازحين السودانيين من الصراع، ولكن لوجود لاجئين من تلك الدول إلى السودان، والذي وصل عددهم نحو 1,13 مليون لاجئ من دول إريتريا وجنوب السودان وكذلك سوريا.
واستقبلت مصر العدد الأكبر من النازحين من خلال فتح معبر قسطل الحدودي مع السودان، فوصل في الأيام الأولى نحو 250 ألف لاجئ سوداني، وأوضحت المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين وجود ما يقرب من 317 ألف لاجئ على مدار الشهور الأولى حتى نوفمبر الماضي، وتسجيل نحو 100 ألف شخص آخرين بمكاتب المفوضية بالقاهرة والإسكندرية.
وشهدت الأيام الأولى من الحرب التواصل المصري مع الأطراف المتنازعة من أجل توفير ممرات آمنة وضمان إيصال المساعدات الإنسانية، لخروج الرعايا الأجانب عبر الحدود المصرية، وسط إشادة دولية بالدور المصري وكذلك استقبال النازحين السودانيين عبر تلك الحدود، وبالفعل بدأ التعايش للشعب السوداني داخل المجتمع المصري الذي لم يعمد إلى إنشاء المخيمات لاستقبال اللاجئين كما يحدث في دول العالم، لينضموا إلى نحو 5 ملايين سوداني داخل الدولة المصرية.
– على المستوى السياسي: التواصل الدائم والمستمر للدولة المصرية على مستوى القيادة السياسية ووزير الخارجية المصري، والمشاركة في جلسات مجلس الأمن، أو عبر التواصل واللقاءات الثنائية مع دول العالم للوصول لحل سياسي للأزمة وإعلان وقف إطلاق نار دائم وشامل للأزمة السودانية، والعمل على حل جذور الأزمة مع الحفاظ على وحدة الجيش السوداني والدولة السودانية، والوصول إلى انتخابات لتحقيق الانتقال الديمقراطي.
ولعل القمة الأهم والأكثر شمولية والتي وضعت حلولًا مستدامة وشاملة للأزمة السودانية كانت قمة “دول جوار السودان” المنعقدة في يوليو الماضي، لتضم الدول الأكثر انخراطًا وتفاعلًا مع الأزمة، ولعل أبرز مخرجاتها هو مطالبة المجتمع السوداني بالإيفاء بتعهداته لتنفيذ المساعدات الإنسانية وإنفاذها إلى الشعب السوداني وفقاً للمؤتمر الإغاثي المنعقد في 19 يونيو من نفس العام برئاسة مصرية ودعم أممي ووصل لتعهدات بقيمة 1,5 مليار دولار، ووقف دائم ونهائي لإطلاق النار وتنفيذ مخرجات مفاوضات جدة، بجانب تشكيل أدآلية وزارية تنفيذية من وزراء خارجية الدول المشاركة في القمة للتواصل مع أطراف الأزمة والتنسيق بين المبادرات الدولية والإقليمية القائمة.
وقام الوزير سامح شكري بعقد أول اجتماع للآلية التنفيذية التي وضعتها القمة في دولة تشاد في أغسطس من الشهر التالي له، واستقبلت القاهرة عددًا من أعضاء قوى الحرية والتغيير للبناء على مخرجات القمة بعمل تسوية سياسية شاملة لحل جذور الأزمة بشكل مستدام.
ومع توسع رقعة الصراع في السودان منذ ديسمبر الماضي، وتوقف مفاوضات جدة نتيجة تعنت الأطراف، انعقدت مفاوضات العاصمة البحرينية المنامة برعاية مصرية إماراتية أمريكية، توصلت إلى 22 بندًا أعلنت عنها بعض الوسائل الإعلامية، في ظل غموض شاب هذه المفاوضات من قبل قوات الجيش السوداني أو الدعم السريع، حتى أعلن عنها السفير الأمريكي لدى السودان جون جوديفري، بأن الولايات المتحدة تعمل على تسوية النزاع.
وذلك عقب فشل الإيجاد في التوصل للإتفاق بين الأطراف وتعليق مفاوضات جدة. وقامت واشنطن بتعيين مبعوث خاص لها لدى السودان، توم بيرييلو، وفقًا لإعلان وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن، وهذا مع تغيير المبعوث الأممي لدى السودان واختيار رمطان العمامرة، وهو ما يوضح الانخراط الدولي في الأزمة السودانية، والذي يتطلب التنسيق الجيد للوصول إلى حل يخدم مصالح الدولة والشعب السوداني.
دلالات توقيت الزيارة:
– التواجد الدولي وانسحاب بعثة اليونتاميس: تتزامن زيارة “البرهان” الحالية مع الإعلان الدولي بتعيين مبعوثين لهم كما سبق الذكر، مع اكتمال انسحاب بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال في السودان “يونيتامس” في 29 فبراير الحالي، تنفيذًا لقرار مجلس الأمن بالتصويت في ديسمبر الماضي على الانسحاب النهائي مع انتفاء سبب وجودها وبناءً على طلب من الحكومة السودانية، فيما طالبت قوى الحرية والتغيير باستكمال أعمالها.
فيما أعلنت الأمم المتحدة عدم انسحابها من السودان للعمل منذ 1 مارس على تسهيل استكمال سحب القوات، وضمان تقديم المساعدات الإنسانية.٠ وبالتالي فإن الزيارة الحالية لرئيس مجلس السيادة السوداني هي انفتاح على استكمال مسار السلام من خلال التعاون مع القيادة المصرية نتيجة التواصل والفعالية مع كافة الأطراف الفاعلة في السودان، في ظل أنها الأجدر سياسيًا وتنظيميًا على تحقيق هذا الدور.
– جولات البرهان للشمال الأفريقي: تأتي القاهرة ضمن محطات الخرطوم إلى دول أفريقيا، وبالتزامن مع زيارات نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار إلى كل من أوغندا ورواندا، ومن منطلق عدم إعادة تجربة تفتت المؤسسات الليبية، ونتيجة التخوف من تشابه الأوضاع السودانية والأوضاع الليبية وتعدد الجهات المسيطرة على الأراضي الليبية.
أجرى “البرهان” قبل وصوله مصر زيارة إلى ليبيا التقى خلالها رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية الليبي عبد الحميد الدبيبة، وسط حديث عن إطلاق مبادرة للسلام، ولكن تكمن أهميتها في الاشتباك الحدودي بين السودان وليبيا، والحديث حول وجود قوات سودانية في الجنوب السوداني وفي حالة تفكيك المرتزقة في ليبيا والتخوف من انضمامهم للصراع في السودن وخاصةً في الجانب الغربي وفي إقليم دارفور،د.
ذلك في ظل تصاعد الاشتباكات الأخيرة في دارفور، للحد الذي اتهمت فيه الولايات المتحدة الأطراف بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وفي ظل محاولة الجيش السوداني السيطرة على الحدود مع رفض دخول مساعدات من تشاد وسط تخوف من تهريب الأسلحة عبر الحدود، وبالتالي محاولة إيجاد اتفاق مع ليبيا في الوقت الحالي هي مزيد من التنسيق الأمني أكثر من كونه تنسيقًت لإيجاد حل تفاوضي مع الدعم السريع.
وتكمن أهمية الزيارة التي تليها إلى القاهرة باعتبار القاهرة هي راعي الاتفاقات في ليبيا وتنسيق تنفيذ مخرجات برلين واللجنة العسكرية 5+5 المتعلقة بالقضاء على جذور تمويل الجماعات المسلحة وتفكيك الميلشيات، وبالتالي تأتي زيارة “البرهان” إلى القاهرة للوصول إلى حل واقعي وشامل للأزمة بكل أبعادها.
اللقاءات المصرية والقادة الأفارقة: تُعد الزيارة الحالية “للبرهان” إلى القاهرة نتاج لقاءات تحضيرية مع قادة الدول الأفريقية للعمل على استعادة الاستقرار في دول الشرق الأفريقي، مع تزايد الصراعات في الدول المطلة على البحر الأحمر، والذي زادت معاناته مع اندلاع الحرب ضد غزة، فجرى التنسيق مع رئيس جمهورية الصومال حسن شيخ محمود، للعمل على حل أزمته الداخلية والاتفاق غير القانوني بين إثيوبيا وأرض الصومال، مما يزيد من معاناة الدول المطلة على البحر الأحمر وتصاعد وتيرة عدم الاستقرار.
وكذلك لقاء الرئيس السيسي والرئيس الإريتري أسياس أفورقي، للعمل على إيجاد حل شامل للأزمات في المنطقة، وإيجاد حل توافقي للأوضاع المتوترة في المنطقة، وعلى رأسها الأوضاع في السودان، للخروج بحل شامل توافقي تجمع عليه دول الجوار بعيدًا عن المصالح الذاتية، وبالتالي البناء على تلك المخرجات خلال زيارة رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان إلى القاهرة.
ومن هذا المنطلق، فتأتي الزيارة الحالية في إطار التنسيق والعمل على استكمال الدور المصري في حل المشكلات المتشابكة والأكثر تعقيدًا في المنطقة، من خلال إيجاد حل شامل ومستدام بالتنسيق مع كافة القوى السودانية، والبناء على مخرجات المفاوضات السابقة التي تضمن الحفاظ على حقوق الشعب السوداني ومقدرات الدولة الوطنية ومؤسساتها المختلفة، بعيدًا عن الحل العسكري للأزمة الذي لن ينتهي إلا نحو مزيد من التقسيم داخل السودان، في ظل تفتت الأوضاع داخليًا، وهو ما يعد انفتاحًا سودانيًا على التواصل مع دول الإقليم للوصول إلى الحل الأكثر شمولية واستدامة من خلال القاهرة.