تأتي الزيارة التي يقوم بها رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق عبد الفتاح البرهان، الخميس 29 فبراير، للقاهرة واستقبال الرئيس السيسي له، ضمن جولاته الخارجية، التي ترمي إلى حشد الدعم الدبلوماسي وتوضيح مستجدات الموقف على الساحة السودانية، في زيارة هي الثانية له بعد أن اتخذ من القاهرة أولى وجهات جولاته الخارجية، في 29 أغسطس 2023.
وتأتي هذه الزيارة ضمن سياق من استمرار تمسك طرفي الصراع بخطاب الحسم العسكري، ومساعي كافة الأطراف للبحث عن حلّ دبلوماسي وتسوية سلمية للصراع؛ في ضوء من تفاقم المعاناة الإنسانية وغياب أيّ أفق للحسم العسكري؛ مما يطرح تساؤلات متعلقة بالدوافع وراء جولات الحشد الدبلوماسي التي يجريها طرفا الصراع، وكذلك موقف القاهرة من الأزمة السودانية.
سياق حاكم
تأتي زيارة ” البرهان” الثانية للقاهرة ضمن جولاته الخارجية التي يسعى من ورائها لحشد الدعم السياسي لموقف الجيش السوداني في الحرب الجارية لأكثر من عشرة أشهر؛ إذ يمكن النظر في هذا السياق على النحو التالي:
أولًا: حشد دبلوماسي:
تجري كافة القوى السودانية العسكرية والمدنية لقاءات وجولات مكوكية، الغرض منها شرح ما يجري في البلاد، بهدف حشد الدعم المؤيد لوجهات النظر المختلفة حول سبل التسوية المستقبلية للصراع الجاري، وأبرز هذه الجولات كالتالي:
- جولات مالك عقار والبرهان
في سياقٍ موازي، يجري مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة جولات إقليمية مماثلة، إذ زار أوغندا في 21 فبراير الماضي، شرح خلالها مستجدات المواقف، أعقبها زيارة إلى رواندا في 27 فبراير. وقد أجرى زيارة إلى جنوب السودان في 12 فبراير بصحبة وزير المالية جبريل إبراهيم، شرحا خلالها الموقف من دعم الجيش السوداني وسبل إنهاء الحرب. ومنذ توليه منصبه في 19 مايو 2023، أجلى عدد من الجولات الإقليمية، إذ زار جنوب السودان عقب توليه منصبه بثلاثة أيام في 22 مايو، وفي 26 مايو زار كينيا حيث التقى بعدد من الدبلوماسيين الإقليميين والدوليين لبحث الأوضاع الإنسانية في السودان، ضمن جولة إقليمية شملت أوغندا وإثيوبيا التي زارها في 8 يونيو 2023، ثم القاهرة في 15 يونيو واتجه إلى روسيا في أواخر يونيو، في محاولة لبناء موقف دبلوماسي موازي لموقف الدعم السريع الذي أجرى جولات إقليمية مناظرة.
على الجانب الآخر، يجري البرهان زيارته الثانية إلى القاهرة، بعد آخر زيارة له أجراها إلى ليبيا 26 فبراير2024، استقبله رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي، الذي وجه دعوة إلى طرفي الصراع في محاولة ليبية للدخول على خط الوساطة. وهذه هي الجولة الثانية له، بعد أول مرة خرج فيها من مقر القيادة العامة في أغسطس من العام الماضي، إذ توجه حينها إلى مصر في 29 أغسطس كأول محطة في جولاته الخارجية. وأعقبها بالتوجه إلى جنوب السودان 4 سبتمبر ثم إلى قطر في 7 سبتمر، ليتجه بعدها إلى إريتريا في 11 سبتمبر 2023 ثم تركيا في 13 سبتمبر، واختتمها بالتوجه إلى أوغندا حيث التقى بالرئيس يوري موسيفيني، والتقى بالرئيس الإيراني إبراهيم رئيس بالرياض على هامش القمة العربية الإسلامية في 11 نوفمبر 2023.
- جولات يوسف عزت وحميدتي
استبق الدعم السريع مساعي حشد التأييد الخارجي وفتح الاتصال في وقتٍ مبكر بالمحيط الإقليمي، إذ قام مستشار قائد الدعم السريع يوسف عزت بجولات خارجية بدأها في الشهر التالي على الصراع، زار خلالها كلًا من السعودية ومصر وجنوب السودان وأوغندا وعدد من دول المغرب العربي وغرب إفريقيا ودول الجوار الإفريقي، لشرح تطورات الأوضاع الميدانية في السودان. وجاءت تلك الجولة في سياق حشد الدعم من جانب دول الجوار للحلول السودانية للأزمة السودانية؛ مما بدا معه أن الدعم السريع متقدم خطوة في سياق الدعاية الخارجية.
على الجانب الآخر، أجرى حميدتي في أول ظهور له منذ بدء الصراع، جولة إقليمية في آواخر ديسمبر الماضي، تزامنًا مع اللقاء الذي كان مقررًا عقده مع البرهان بواسطة الإيجاد قبل أن يتم تأجيله لأجلٍ غير مسمى لأسبابٍ فنية وفق ما قدمته جيبوتي من مبررات؛ إذ زار بدءًا من 27 ديسمبر 2023 اتجه إلى أوغندا، مرورًا بإثيوبيا 28 أغسطس، ثم جيبوتي 31 ديسمبر، وكينيا في 3 يناير 2024 وجنوب أفريقيا في 5 يناير، ورواندا في 6 يناير.
- جولات القوى المدنية
في سياق موازي، تحاول القوى المدنية البحث عن دورٍ لها في الأزمة، من خلال السعي لتجميع قواها مرة أخرى، بعد أن ساهم الاستقطاب والانقسام داخل القوى المدنية في رسم بعضٍ من ملامح المشهد المأزوم الآن بمزيد من الاستقطاب على مستوى النخب العسكرية، وذلك منذ أن انقسمت القوى المدنية بين الحرية والتغيير والكتلة الديمقراطية، وعمّق الاتفاق الإطاري الذي تمّ توقعيه في 5 ديسمبر 2022 الأزمة.
وبعد عديد من الجولات الإقليمية التي أجرتها القوى المدنية، حددت مارس المقبل موعدًا لمؤتمرها التأسيسي الذي تسعى من خلاله لإعادة انتاج قوى الحرية والتغيير تحت مسمى ” تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية” المعروفة اختصارًا باسم ” تقدم”، والتي وقّعت في مطلع يناير من العام الجاري ” إعلان أديس أبابا” مع قائد الدعم السريع ” حميدتي” كخطوة أولى تسعى من ورائها لفرض رؤيتها، إذ أرسلت دعوة للقاء رئيس مجلس السيادة لا تزال قيد الانتظار.
ثانيًا: مواقف متناقضة:
تشهد الأزمة الراهنة تباعدًا في الرؤى والمواقف بين كافة الأطراف مما يعقد المشهد، إذ إن الجولات الخارجية لا تأتي مصحوبة بأية بوادر للانفراجة في الأزمة أو حلحلة في المواقف، من خلال أدوارًا أو ضغوطًا تمارسها القوى الإقليمية والدولية على طرفي الصراع، فبعيدًا عن مبادرات الوساطة المطروحة رسميًا والمتعثرة، فإن الحراك الدبلوماسي المتتابع لكافة الأطراف السودانية لا يكشف حتى اللحظة الراهنة على احتمالية اللجوء للحلّ الدبلوماسي.
وبعد قمة الإيجاد التي عقدت في 9 ديسمبر 2023، أعلن البرهان أمام مجموعة من الضباط في قاعدة عسكرية على البحر الأحمر في 21 ديسمبر أنه موافق على الذهاب للقاء حمديتي في إحدى الدول الإقليمية غير المحددة حينها، بالتزامن مع تسليم وزير الخارجية علي الصادق خطابًا لسفير جيبوتي على هامش المنتدى العربي الذي عقد بالمغرب، تضمن موافقة البرهان على لقاء حميدتي.
وبعد تأجيل الإيجاد للقاء الذي كان مقررًا في 28 ديسمبر، ولقاء حميدتي بالقوى المدنية، واشتراطه حضور قادة الإيجاد اللقاء بينه وبين البرهان، عاد البرهان مجددًا ليرفض لقاء حميدتي ويرفض مشاركة السودان في قمة كمبالا التي عقدتها الإيجاد في 18 يناير المنصرم، نظرًا لعدم تنفيذها لمخرجات قمة جيبوتي، مما يفقد القمة جدواها.
ثالثًا: تعثر الوساطة:
شهدت كافة الوساطات والجهود الدبلوماسية تعثرًا ملحوظًا، وفقًا للمواقف المشار إليها سلفًا، إذ أخفقت قمم الإيجاد في عقد اللقاء المباشر بين البرهان وحميدتي، على نحوٍ قد يسهم في حلحلة المواقف، بل على نحوٍ مغاير تزايدت الفجوة بين الحكومة السودانية ودول الإيجاد، على نحوٍ دفع بالسودان لتجميد عضويته في الإيجاد في 20 يناير بعد يومين من عقد قمة كمبالا التي لم يشارك بها الوفد الحكومي السوداني.
وعلى الجانب الآخر، وبالتزامن مع تعثر مبادرة الإيجاد، أبدى طرفا الصراع عدم الممانعة من العودة إلى منبر جدة وكذلك توحيد الوساطات، وذلك رغم إخفاق تنفيذ مخرجات مباحثات جدة المتعلقة بالجانب الإنساني، وتعثر الجولة الأخيرة من مباحثات جدة التي عقدت في 26 أكتوبر الماضي والتي استمرت لأكثر من شهر قبل أن يتم الإعلان عن تعثرها في 3 ديسمبر 2023.
ويتزامن الحديث عن احتمالات عودة مباحثات جدة في مارس المقبل، مع عودة الانخراط الأمريكي في الأزمة بتعيين مبعوث جديد لها للسودان توم بيرييلو، كشفت الإدارة الأمريكية عن تعيينه في 26 فبراير المنصرم، بعد أن قدم السفير الأمريكي لدى السودان جون غودفري استقالته، وبعد اتهامات للإدارة الأمريكية بإغفال الأزمة السودانية لصالح أزمات إقليمية ودولية أخرى؛ مما قد يدفع باحتمالات عودة الالتفات الإقليمي والدولي للأزمة الطاحنة.
رؤية القاهرة
تتخذ القاهرة موقفًا محايد نسبيًا من الصراع السوداني، بحيث أنها تدعم المواقف الرامية إلى وقف إطلاق النار والتسوية السلمية للصراع، لما تتخذه الأزمة من أبعادًا إنسانية واقتصادية مأساوية، وذلك في ضوء ثوابت محددة للسياسة المصرية، ترتكز على عدم التدخل في الشأن الداخلي للدول، وكذلك المواقف الداعم لبقاء الدولة الوطنية وسيادة مؤسساتها. ومن هذا المنطلق، جاء الانخراط المصري في الأزمة على النحو التالي:
الموقف الدبلوماسي
في سياق إخفاق وتعثر مبادرة الإيجاد ومباحثات جدة في أولى جولاتهما؛ إذ علّق الجيش مشاركته في مباحثات جدة في 31 مايو 2023، في ضوء انتهاكات الهدنة التي قامت بها الدعم السريع بما يتعارض مع إعلان المبادئ الإنساني الذي وقع في 11 مايو. وعلى جانب آخر، رفضت الحكومة السودانية مخرجات قمة إيجاد التي عقدت في يونيو الماضي، والتي في ضوئها استضافت أديس أبابا في 10 يوليو 2023 اللجنة الرباعية برئاسة الرئيس الكيني وليام روتو الذي تحفظت السودان على رئاسته وامتناع رؤساء جيبوتي والسودان عن الحضور، مما أجهض مبادرة الإيجاد.
في هذا السياق، تبنت مصر بالتنسيق مع جنوب السودان في سياق البحث عن مخرج للأزمة، رؤية دبلوماسية مدعومة من دول الجوار، باعتبارها الأكثر تضررًا من الأزمة التي تتقاسم تبعاتها مع السودان. وفي 13 يوليو 2023، استضافت القاهرة قمة دول الجوار لبحث الأزمة السودانية، بمشاركة كل من (ليبيا واريتريا وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى واثيوبيا وجنوب السودان). ويبدو من تزامن زيارة البرهان الحالية للقاهرة مع زيارته إلى ليبيا وزيارة الرئيس الإريتري إلى القاهرة في 24 فبراير، أنها تأتي في سياق مساعي مصرية حثيثة للتواصل المستمر مع كافة الأطراف والقوى السودانية بما في ذلك القوى المدنية التي استضافتها القاهرة في 23 و24 يوليو من العام الماضي. وقد سبق هذه القمة، دعوة مصر على مستوى جامعة الدول العربية لعقد اجتماع طارئ على مستوى المندوبين الدائمين في 15 إبريل فور اندلاع الصراع، حيث عقد الاجتماع في 6 مايو 2023، حيث تم بحث اتخاذ موقف عربي موحد من الأزمة السودانية.
الاستجابة الإنسانية
تبدو الاستجابة الإنسانية للأزمة السودانية هي الأبرز، في سياق التبعات التي تحملها الأوضاع الإنسانية المتفاقمة، إذ جاءت أبرز المواقف الداعمة في هذا الصدد متمثلة في الاتفاق المصري القطري على إطلاق مبادرة مشتركة لدعم وإغاثة الشعب السوداني، بهدف تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية، والذي في ضوئها استضافت جنيف مؤتمر الاستجابة الإنسانية لدعم السودان في 19 يونيو 2023.
ويتصل هذا الدعم الدبلوماسي بدعم مصر متواصل على الجانب الإنساني والدبلوماسي، إذ فتحت مصر ممرات آمنة على الحدود الجنوبية لتيسير مرور آمن للفارين من ويلات الصراع عبر معبري أرقين وقسطل، حيث تعد مصر من أكبر دول الجوار المستضيفة للاجئين السودانيين، هذا علاوة على إرسال مئات الأطنان من المساعدات الطبية والإغاثية، في سياق متواصل من الدعم الإغاثي المصري للسودان في الأزمات المتواصلة من فيضانات وجائحة كورونا وأخيرًا الصراع العسكري الدائر بالبلاد.
في الأخير، تأتي الزيارة الحالية لرئيس مجلس السيادة السوداني إلى القاهرة في سياق من تعثر مبادرات الحل المطروحة وتمسك طرفي الصراع بالحسم العسكري، رغم تفاقم المعاناة الإنسانية، مما يدفع القوى الإقليمية والدولية لتكثيف التواصل والضغط على طرفي الصراع للقبول بالتسوية السلمية، والدفع بسيناريو وقف غير مشروط لإطلاق النار.