نظرة قانونية حول مرافعة مصر ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية
شاركت مصر اليوم 21 فبراير ٢٠٢٤ في الرأي الاستشاري الذي طلبته الجمعية العامة من محكمة العدل الدولية حول الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، وذلك بعد أن تقدمت مصر بمذكرتين مكتوبتين إلى محكمة العدل الدولية في يوليو وأكتوبر الماضيين.
وتمحورت كلمة المستشارة القانونية بمكتب وزير الخارجية وممثلة مصر أمام محكمة العدل الدولية ياسمين موسى حول: ولاية اختصاص المحكمة الدولية، والإطار القانوني لمعالجة الاحتلال الإسرائيلي الممتد، والانتقاص من حقوق الشعب الفلسطيني في هذا الاحتلال، إضافة إلى استخدام مفهوم الدفاع عن النفس كمبرر وسبب للاستمرار في العدوان.
الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية من الناحية الإجرائية
وفقًا للنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية وخاصة الفصل الرابع المتعلق بالآراء الاستشارية؛ يجوز للمحكمة أن تصدر فتوى أو رأيًا استشاريًا بشأن أي مسألة قانونية بناء على طلب من الجمعية العامة وفقا لميثاق الأمم المتحدة (المادة 65)، حيث تشير (المادة 96) من ميثاق الأمم المتحدة بشأن محكمة العدل الدولية بأن “لأي من الجمعية العامة أو مجلس الأمن أن يطلب إلى المحكمة إفتاءهُ في أية مسألة قانونية”.
وبالعودة إلى النظام الأساسي للمحكمة؛ يجب إخطار جميع الدول التي يحق لها المثول أمام المحكمة على الفور بطلب الرأي الاستشاري (المادة 66). ويضيف في مادته (67) بان المحكمة تصدر رأيها الاستشاري في جلسة علنية، بعد أن يتم إعلام الأمين العام وممثلي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة والدول الأخرى والمنظمات الدولية المعنية.
وتجدر الإشارة إلى ان الرأي الاستشاري يختلف عن الحكم، فالرأي الاستشاري ليس ملزمًا، وانما يتم تقديمه بدافع المشورة لكي يسهم في اتخاذ الجمعية العامة أو مجلس الأمن لقرارها، على عكس الحكم الذي يكون ملزمًا ويجب تنفيذه.
لكن عدم إلزامية هذا الرأي الاستشاري لا تعني أن ليس له جدوى أو فائدة، ذلك لأن المحكمة هي أعلى محكمة دولية وباتالي فإن رأيها وأن لم يكن له نتائج قانونية قوية، فإنه قد يسهم في اتخاذ هيئات أخرى تابعة للأمم المتحدة قرارها بشأن الممارسات التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي، مما يثبت أركان الحق الفلسطيني.
وتأتي الجلسات التي تعقدها المحكمة في الأيام الأخيرة حتى 26 فبراير 2024 بناء على طلب الأمم المتحدة في وقت سابق من عام 2022 رأيًا استشاريًا من محكمة العدل الدولية حول الاحتلال الإسرائيلي خاصة فيما يتعلق بانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية والحركات الاستيطانية وآثار الاحتلال العسكري والوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبناءً على ذلك فإن الرأي الاستشاري الذي تسعى المحكمة لتقديمه للجمعية العامة منفصل تمامًا عن الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بسبب الحرب على قطاع غزة.
ويعد الرأي الاستشاري الذي تستعد المحكمة لتقديمه هو الثاني في تاريخها ضد الاحتلال الإسرائيلي؛ ففي يوليو 2004، أصدرت المحكمة رأيًا استشاريًا بشأن الجدار الفاصل في الضفة الغربية بناء على طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة في 8 ديسمبر 2003، وقررت المحكمة بأغلبية 14 صوتًا مقابل صوت معارض أن الجدار مخالف للقانون الدولي، وطالبت المحكمة إسرائيل بإزالته من كل الأراضي الفلسطينية بما في ذلك القدس الشرقية وضواحيها، مع تعويض المتضررين من بناء الجدار.
وطالبت المحكمة دول العالم بعدم الاعتراف بالوضع غير القانوني الناجم عن بناء الجدار، ودعت المحكمة الجمعية العامة ومجلس الأمن إلى النظر في أية إجراءات أخرى لإنهاء الوضع غير القانوني للجدار. ومع ذلك حتى اليوم لايزال الجدار موجودًا.
أبرز ما جاء في كلمة مصر أمام محكمة العدل الدولية
تضمنت مرافعة مصر اليوم مجموعة من الأسانيد القانونية التي تخص الانتهاكات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، ويمكن تسليط الضوء على أبرز الانتهاكات التي سلطت مصر الضوء عليها في الاتي:
- تعرضت فلسطين لأطول احتلال في التاريخ الحديث للبشرية، حيث بدأت إسرائيل بزراعة المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية وفرض الحقائق على الأرض وتفتيت الأراضي الفلسطينية في انتهاك واضح للقانون الدولي. بجانب أن استمرار قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي انسحبت عام 2005، من غزة في السيطرة على القطاع من خلال الحصار المفروض على الجو والبحر والحدود، يجعل الشعب الفلسطيني محاصرًا من كافة الاتجاهات.
- تستمر المذبحة التي ترتكبها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية وتحديدًا في غزة، حيث استشهد حوالي 29 ألف فلسطيني حتى الآن وشرد أكثر من مليوني فلسطيني، بالإضافة إلى أن دولة الاحتلال تعمل على خلق ظروف حياتية مستحيلة في قطاع غزة؛ إذ إنها تفرض الحصار وسياسة التجويع وتمنع وصول المساعدات الإنسانية، وتخطط الآن لاقتحام رفح التي يوجد بها أكثر من مليون و300 ألف فلسطيني.
- فيما يتعلق بالضفة الغربية؛ تستمر دولة الاحتلال في فرض القيود الحركية، والقيام بأعمال اقتحامات وهدم منازل الفلسطينيين، والسماح للمستوطنين بممارسة العنف ضدهم، والعمل على زيادة بناء المستوطنات بشكل كبير، حيث عملت على نقل المستوطنين ليعيشوا في الأراضي الفلسطينية المحتلة ليصل عددهم الى 750 ألف مستوطن، مغيرين بذلك الطبيعة الديموغرافية والجغرافية للأراضي الفلسطينية.
- تمنع إسرائيل وصول المسلمين والمسيحيين إلى المسجد الأقصى والكنائس في مدينة القدس، بالإضافة إلى حرمان الشعب الفلسطيني من كافة الحقوق الطبيعية عن طريق منع الحركة داخل الأراضي الفلسطينية خاصة في الضفة الغربية وقطاع غزة، مما أدى إلى شل الحالة الاقتصادية الفلسطينية.
- الضفة الغربية وغزة هما جزءان لا يتجزآن من الأراضي الفلسطينية، وأن الضفة الغربية والقدس الشرقية أراضٍ محتلة.
وقد أشارت ممثلة الفريق القانوني المصري في المحكمة كذلك إلى تعارض الممارسات الإسرائيلية مع القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن، وإلى أهمية دور المحكمة في إصدار الرأي الاستشاري، وذلك على النحو التالي:
- إسرائيل تحاول تبرير سياساتها وممارستها تجاه الفلسطينيين باستخدام مبدأ “الحق في الدفاع عن النفس”.
- صنفت المحكمة الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة أمرًا محظورًا، وأكدت على أن مبدأ تقرير المصير هو واحد من معايير القانون الدولي الواضح والقاطع والذي لا يمكن انتهاكه تحت أي ظرف، وعلى حظر الفصل العنصري ولمحاولة اخضاع شعب آخر لسيادة دولة أخرى.
- في ظل تطلع منطقة الشرق الأوسط إلى الاستقرار والسلام الدائم لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس المبادئ الدولية والتي بمقتضاها يتم قيام الدولة الفلسطينية على حدود ما قبل 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، سيكون الرأي الاستشاري للمحكمة مرشدًا للأمم المتحدة من أجل تحقيق هذا الغرض.
- أكدت كافة القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة على عدم شرعية وقانونية المستوطنات الإسرائيلية، وعملية الضم والإجراءات التي تقوم بها إسرائيل لتغيير شخصية ووضع مدينة القدس الشريفة، بيد أن القرارات الأخيرة لمجلس الأمن قد فشلت في وقف إطلاق النار على قطاع غزة.
- بشأن التبعات القانونية الناشئة عن سياسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، فإن المادة الـ 49 باتفاقية جنيف الرابعة لا تمنع فقط ترحيل السكان بل تؤكد أن أية إجراءات تقوم بها الدولة القائمة بالاحتلال من أجل أن تنظم أو تشجع ترحيل جزء أو كل من السكان إلى الأرض التي تحتلها يعد أمرًا مرفوضًا.
- أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 298 والذي وضح أن كل الإجراءات الإدارية والقانونية التي تتخذها إسرائيل لتغيير وضع القدس الشريف، بما في ذلك مصادرة الأراضي والممتلكات ونقل السكان أو ترحيل السكان، هي غير قانونية ولا يمكن أن تكون سارية.
جدوى مرافعة مصر أمام محكمة العدل الدولية
تجدر الإشارة إلى أن مصر تلعب دورًا محوريًا دائمًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية على مر التاريخ، خاصة على مستوى الدفاع والدعم الذي تقدمه للشعب الفلسطيني وليس فقط على مستويات سياسية ودبلوماسية.
وتعد تلك الخطوة هي الثالثة التي قامت بها مصر أمام محكمة العدل الدولية؛ إذ قدمت في وقت سابق مذكرة في يوليو 2023 ضد انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي، ومذكرة أخرى في أكتوبر 2023 بالتزامن مع الحرب على غزة، وأخيرًا ترافعت شفهيًا اليوم.
وتأتي أهمية التحرك المصري الأخير امام المحكمة من منطلق إصرار مصر على استمرار تحركاتها الداعمة للقضية على كافة المستويات السياسية والقانونية، وتعد بمثابة تحرك تاريخي له تأثير على الرأي العام العربي والعالمي، خاصة في ظل المطالب العالمية والضغوطات الشعبية من أجل التحرك بشكل ملموس لمناصرة ودعم القضية الفلسطينية ووقف الحرب على قطاع غزة. وعلى الرغم من عدم إلزامية الرأي الاستشاري الصادر عن المحكمة، فإنه في حالة صدوره سيكون له قيمة معنوية كبيرة خاصة في إطار التصعيد الراهن.
وتأتي أهمية مشاركة مصر في جلسات المحكمة في هذا التوقيت المهم في ظل جملة من الاعتبارات على رأسها كون مشاركة دولة بحجم مصر في المنطقة في الترافع ضد إسرائيل، يزيد من الزخم والقوة للقرار الاستشاري الذي طلبته الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن الممارسات الإسرائيلية منذ 75 عامًا، وحضور مصر ومرافعتها يمثل ضغطًا لاستصدار رأي استشاري إيجابي في ظل اعتراف مصر رسميًا بأن الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية غير شرعي ويتنافى مع القانون الدولي، وترقي تلك الممارسات الإسرائيلية لجرائم الفصل العنصري.
وعلى الرغم من أن الجلسات منفصلة عن قضية جنوب أفريقيا، لكن صدور حكم لصالح الفلسطينيين سيكون له تأثير سياسي رغم كونه قرارًا استشارياً غير ملزم؛ إذ يزيد من تدهور صورة إسرائيل دوليًا، وقد يضع حدًا لدعم العالم لإسرائيل، ويأتي الدور المصري بدافع وقف دعم المجتمع الدولي بأي إجراءات أحادية اتخذتها إسرائيل.
التأثيرات السياسية على قرارات محكمة العدل الدولية وجدوى آرائها
إن إصدار رأي استشاري من قبل محكمة العدل الدولية من المفترض من الناحية القانونية والإجرائية أن يمثل ضغطًا على كل من مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل اصدار قرارات فورية لوقف انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني سواء كان في الضفة الغربية أو في قطاع غزة، وذلك وفقًا لانتهاك دولة الاحتلال كافة القوانين الدولية، بما في ذلك القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف الأربعة خاصة قوانين الاحتلال، وميثاق الأمم المتحدة، واتفاقية الإبادة الجماعية.
ولليوم الثالث على التوالي منذ بدء جلسات استماع المحكمة، قدمت مجموعة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أسانيد عديدة موثقة بوقائع تعبر عن الانتهاك الصارخ لكافة حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني، وبالتالي فإنه من الناحية القانونية من المفترض أن يتم إصدار رأي استشاري ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي.
لكن من الناحية السياسية والعملية، لا تزال جدوى الآراء الاستشارية التي تصدر عن المحكمة محدودة؛ ففي وقت سابق فيما يتعلق بالجدار الفاصل الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية قرب الخط الأخضر والتي علّلته آنذاك بمنع دخول سكان الضفة الغربية الفلسطينيين إلى الأراضي المحتلة أو المستوطنات الإسرائيلية القريبة من الخط، أصدرت المحكمة رأيًا استشاريًا في 2004 يقضي بضرورة هدم الجدار ويعترف بعدم شرعيته ومنافاته للقانون الدولي، إلا أنه حتى اليوم لم يتم تنفيذه.
ومن ناحية الأحكام التي تصدرها المحكمة أيضًا فهي غير ملزمة، حيث على الرغم من الخطوة التاريخية التي اتخذتها المحكمة فيما يتعلق بإصدار تدابير مؤقتة ضد إسرائيل، إلا أن الوضع الإنساني في قطاع غزة يزداد سوءًا، خاصة فيما يتعلق باستمرار العمليات العسكرية ضد المدنيين في القطاع، وعرقلة وصول المساعدات الإنسانية والتسبب في تعرض 1.4 مليون فلسطيني للمجاعة، وهي ممارسات قامت بها دولة الاحتلال الإسرائيلي بعد إصدار التدابير المؤقتة.
ويرجع ذلك إلى أن غياب آلية تنفيذ قوية للمحكمة يجعل من أحكامها وآرائها الاستشارية محدودة التأثير. بالإضافة إلى ما سبق، هناك دور محوري أيضًا لبعض الدول كالولايات المتحدة الامريكية في عرقلة تنفيذ الأحكام والتدابير والآراء الصادرة عن محكمة العدل الدولية، ففي حال أصدرت المحكمة رأيًا يدين الممارسات الإسرائيلية، تظل الضغوطات السياسية الأمريكية معرقلًا أساسيًا أمام تنفيذه.
وهذا كما هو الحال في مجلس الأمن الدولي باستخدام حق الفيتو مثلما حدث يوم ٢٠ فبراير باستخدام واشنطن حق الفيتو للمرة الثالثة ضد مشروع قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار. ومنذ عام 1945، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد 37 من أصل 39 مشروع قرار لمجلس الأمن المتعلقة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني.