أوقات عصيبة تشهدها منطقة الشرق الأوسط، على وقع التداعيات المتفاقمة للعمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، والتي امتدت تأثيراتها شمالًا وشرقًا وجنوبًا، بشكل يضع المنطقة بكاملها أمام احتمالات متزايدة للتصعيد وتكثيف التوتر. بالتزامن مع هذه الأجواء، تأتي زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للقاهرة، وهي زيارة تتسم في حد ذاتها -بجانب دلالات توقيتها- بأهمية خاصة بالنظر لتاريخ العلاقات بين البلدين، ودخول هذه العلاقات في مسار من التحسن والتطور الإيجابي، بعد فترة من القطيعة والتوتر.
حقيقة الأمر أنه يمكن اعتبار زيارة الرئيس أردوغان إلى مصر، بمثابة نهاية لحقبة التوتر التي شابت علاقات البلدين، وهي الحقبة التي كانت بدايتها العملية -للمفارقة- آخر زيارة قام بها أردوغان إلى القاهرة، في نوفمبر 2012، ومن ثم تدهورت العلاقات بعد ذلك بين أنقرة والقاهرة عقب ثورة 30 يونيو، ودخلت في طور من أطوار عدم الاستقرار والتقلب، على خلفية عدة ملفات إقليمية رئيسية، على رأسها الملف الليبي وملف شرق المتوسط.
بشكل عام، يتسم أي تواصل دبلوماسي أو سياسي بين كل من القاهرة وأنقرة بأهمية خاصة بالنظر إلى أهمية البلدين على المستوى الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط، وحالة “المد والجزر” التي شابت العلاقات بينهما خلال العقود الماضية، والتي كانت سمة أساسية من السمات التي حددت شكل هذه العلاقات خلال “الحقبة الحديثة” من العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، والتي كانت بدايتها عام 1925، عبر تبادل الممثلين الدبلوماسيين على مستوى “القائم بالأعمال”، ثم تحول العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى مستوى أعلى عام 1948، بحيث أصبح لكلا البلدين ممثليات دبلوماسية كاملة لدى الطرف الأخر.
المفارقة التاريخية في مسار العلاقات بين القاهرة وأنقرة كانت تتعلق دومًا بمحاولات الأخيرة التدخل بشكل أو بآخر في الخيارات الشعبية والوطنية الخاصة بالأولى، وهذا حدث خلال عدة استحقاقات تاريخية في الوجدان المصري، على رأسها ثورة الثالث والعشرين من يوليو التي هاجمتها الدولة التركية بشكل مستمر وشديد الوطأة، على لسان سفيرها في القاهرة فؤاد طوغان، ما تسبب في توتر العلاقات بينها وبين مصر، إلى الدرجة التي دفعت القاهرة في يناير 1954 إلى إعلان السفير التركي شخصًا غير مرغوب فيه.
وقد ظلت حالة التوتر بين البلدين مستمرة طيلة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، من زاوية أساسية حاولت فيها أنقرة محاصرة الخطوات المصرية على المستوى الإقليمي والشرق أوسطي، خاصة في ظل دعم القاهرة لتيارات التحرر العربي، وعملها على عدة مشاريع للوحدة مع دول أخرى، كان أبرزها الوحدة مع سوريا عام 1958، لكن شهدت العلاقات بين القاهرة وأنقرة بعض التحسن خلال فترة حكم الرئيس المصري الراحل أنور السادات؛ نتيجة لدور مصر البناء في عدة ملفات كان لأنقرة اهتمام أساسي بها، مثل القضايا الخلافية بينها وبين سوريا، وكذلك ملف الأنشطة الكردية في جنوب تركيا.
مع وصول الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك إلى الحكم عام 1981، بدأت العلاقات بين البلدين تأخذ مسارًا “شبه طبيعي” على صعيد التعاون السياسي، وظلت على هذا المنوال إلى أن بدأ الجانبان منذ عام 2005 في توسيع علاقاتهما الاقتصادية، بتوقيعهما اتفاقية للتجارة الحرة كانت لها آثار أساسية في زيادة حجم التبادل التجاري بينهما خلال الأعوام اللاحقة بشكل ملحوظ، ليلامس حاجز الـ ثلاثة مليارات دولار عام 2010.
بعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 في مصر، تحركت أنقرة نحو مصر بخطوات حثيثة؛ بهدف توسيع هامش نفوذها في الأوساط الداخلية المصرية، استغلالًا لحالة السيولة السياسية التي شابت الساحة المصرية خلال هذه المرحلة، وهو ما ظهر بشكل أكبر لاحقًا خلال فترة تولي تنظيم الإخوان الإرهابي السلطة في مصر، حيث عقدت تركيا مع مصر خلال هذه الفترة نحو سبعة وعشرين اتفاقية اقتصادية.
الملفات الخلافية “المعاصرة” بين القاهرة وأنقرة
كانت التدخلات التركية في الشأن المصري، خاصة في مرحلة ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، من أهم بواعث عدم الاستقرار الذي شاب العلاقات بين الجانبين خلال المراحل السابقة، حيث تعرض الرهان التركي على نظام الإخوان لضربة إجهاضيه بعد اندلاع ثورة الثلاثين من يونيو، التي اعتبرتها أوساط تركية عديدة “شهادة وفاة” لمشروع تمكين جماعات الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، وهو المشروع الذي دعمته الدولة التركية من منطلقات جيو-سياسية وإيديولوجية واقتصادية مختلفة.
لهذا لم يكن مستغربًا أن تتموضع تركيا في ذلك التوقيت -وحتى وقت قريب- في موقع مناوئ للدولة المصرية في مرحلة ما بعد الثلاثين من يونيو 2013، سواء عبر استضافة أعضاء الجماعة الفارين إليها، أو توفير منصات إعلامية وصحفية لهذه الجماعة، ناهيك عن مداومة كبار المسئولين الأتراك على إطلاق التصريحات المهاجمة للدولة والحكومة المصرية، ما حدا بالأخيرة في نوفمبر 2013 إلى إعلان السفير التركي شخصًا غير مرغوب فيه، وهو ما ردت تركيا عليه بالمثل.
أيضًا كانت الأنشطة العسكرية والديموغرافية لتركيا في عدة دول عربية -وتحديدًا في نطاق كل من ليبيا وسوريا والعراق- مثار خلاف كبير بين القاهرة وأنقرة، خاصة في ظل قناعة مصر المعلنة بخطورة هذه الأنشطة على وحدة وسلامة الأراضي العربية، وضرورة إنهاء هذه التدخلات بشكل كامل.
ربما كانت تأثيرات هذه التدخلات في سوريا أكثر وضوحًا، حيث تسيطر أنقرة وحلفاؤها حاليًا على ما يناهز 16 ألف كيلو متر مربع في النطاق الشمالي والشمالي الشرقي السوري، تنقسم بين ثلاث مناطق أساسية، منها منطقتان تتصلان جغرافيًا ببعضهما البعض في الجانب الغربي من الحدود المشتركة، وتضمان مناطق تتبع إداريًا محافظتي إدلب وحلب، في حين توجد المنطقة الثالثة في قطاع منفصل في القسم الأوسط من الحدود المشتركة، وتضم مناطق تتبع إداريًا لمحافظتي الرقة والحسكة.
السيطرة على المناطق الثلاث كانت حصيلة عدة عمليات عسكرية نفذها الجيش التركي منذ عام 2016، بهدف رئيس وهو التأسيس التدريجي لـ “حزام أمني” على الجانب السوري من الحدود المشتركة، بعمق 30 كيلو مترًا. وعلى الرغم من العنوان العريض الذي وضعته أنقرة لهذه العمليات العسكرية المتتالية -“مكافحة الإرهاب وإبعاد أنشطة حزب العمال الكردستاني عن الأراضي التركية”- فإن النتائج التي ترتبت على هذه العمليات كانت ذات تأثير مباشر على وحدة الأراضي السورية وسيادتها، سواء عبر انتشار عشرات النقاط العسكرية التركية في كافة أنحاء هذا النطاق السالف ذكره، أو عمليات التغيير الديموغرافي و”التتريك” التي طالت المؤسسات الحكومية المختلفة في مناطق الشمال السوري.
وهو ما يمكن -بشكل أو بآخر- وضعه في نفس السياق الذي اتبعته أنقرة في تعاملها مع المناطق الواقعة في كردستان العراق، التي طالتها أيضًا عمليات عسكرية تركية متتالية، وحملات مستمرة من القصف الجوي، شكلت تحديًا مباشرًا لسيادة العراق على أراضيه، ناهيك عن انتشار قواعد عديدة للجيش التركي في كردستان العراق، خاصة في محافظات دهوك والسليمانية ونينوى.
يعد الملف الليبي من أهم الملفات التي ساهمت في تشكيل حالة التوتر والخلاف التي كانت قائمة سابقًا بين البلدين، حيث شرعت أنقرة منذ أواخر عام 2015، في مقاربة خاصة بها في الملف الليبي، حاولت من خلالها استجلاب مكاسب اقتصادية عن طريق توثيق علاقاتها مع حكومة الوفاق الوطني السابقة برئاسة فايز السراج، أملًا في إعادة تفعيل العقود الاستثمارية التي كانت في طور التنفيذ إبان فترة حكم العقيد الراحل معمر القذافي.
وقد جاء توثيق العلاقات هذا على حساب تعاطيها مع باقي المكونات السياسية في ليبيا، ما أسهم في تعميق حالة الانقسام الداخلي في ليبيا، خاصة أن أنقرة لجأت خلال المراحل التالية إلى زيادة انخراطها في الأزمة الليبية ميدانيًا، سواء عبر إرسال مجموعات من المرتزقة السوريين، وشحنات كبيرة من الأسلحة المتنوعة إلى غرب ليبيا، أو حتى التمركز بشكل ميداني دائم في قاعدة “الوطية” الجوية الليبية، وقاعدة “الخمس” البحرية، وهو ما شكل إضافة أخرى لحالة السيولة الأمنية والعسكرية التي تعاني منها ليبيا منذ عام 2011.
لذا كانت المطالبات المصرية الدائمة تقطع بضرورة خروج كافة القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية، مع عدم التعاطي مع أي وجود عسكري على الأراضي الليبية؛ نظرًا لعدم وجود سلطة ليبية موحدة تقر هذا الوجود أو تسمح به، بجانب إيمان القاهرة بضرورة تفادي عقد أية اتفاقات متعلقة بالتنقيب عن الغاز أو التعاون العسكري بين ليبيا وأي دولة، طالما ظلت حالة الازدواج الحكومية مستمرة في ليبيا.
ملف شرق المتوسط كان كذلك من الملفات الخلافية الأساسية بين مصر وتركيا، حيث حاولت أنقرة مرارًا تعطيل أو إبطاء الجهود المصرية لتنفيذ خطة تنمية وتحديث قطاع البترول والغاز، والتي بدأت عام 2016، عبر سلسلة من الخطوات الإقليمية، بداية من ترسيم الحدود البحرية مع الدول المقابلة لمصر في البحر المتوسط وفقا لمحددات القانون الدولي كما حدث مع اليونان وقبرص، ووقعت مصر في سبتمبر 2018، عقدًا مع الحكومة القبرصية، لإقامة خط أنابيب بحري مباشر، من أجل نقل الغاز الطبيعي من حقل “أفروديت” القبرصي إلى محطات الإسالة والتصدير المصرية، وصولًا إلى تأسيس القاهرة في يناير 2019 “منتدى غاز شرق المتوسط”، مع ست دول أخرى، ليكون بمثابة سوق إقليمية تعمل على استغلال الثروات الغازية، وتأمين احتياجات الدول الأعضاء، وتفعيل التعاون بينهم في كافة المجالات.
هذه الخطوات رأت فيها تركيا “استبعادا” لها من معادلة الطاقة في شرق المتوسط، وفي نفس الوقت وجدت أنها تسهم في ابتعاد تركيا حثيثًا عن هدفها للتحول إلى “مركز إقليمي للطاقة”، لهذا حاولت فرض وجود لها في هذا الملف، سواء عبر اتفاقية تحديد الحدود البحرية التي وقعتها مع حكومة الوفاق الوطني الليبية السابقة عام 2019، أو اتفاقية التنقيب عن الطاقة التي وقعتها في أكتوبر 2022 مع حكومة الوحدة الوطنية الليبية -منتهية الولاية- وهي ردود فعل أعلنت القاهرة بوضوح أنها لن تعترف بها.
ذلك علمًا أن القاهرة كانت في هذا الملف ملتزمة بـ “النزاهة الدبلوماسية”، حين حرصت على أن يكون ترسيم الحدود البحرية بينها وبين اليونان، شاملًا فقط جزيرتي “كريت” و”رودس”، دون التطرق إلى حالة الحدود البحرية فيما يتعلق بجزيرة “كاستيلوريزو”، وبالتالي لم يتماس الترسيم الحدودي البحري بين مصر واليونان مع الجرف القاري المعلن من جانب تركيا، وهي لفتة قرأتها تركيا بشكل إيجابي.
مخاض تدريجي لتحسن العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وأنقرة
رغم حالة التوتر التي شابت العلاقات السياسية بين الجانبين فإن العلاقات الاقتصادية بينهما شهدت تطورًا كبيرًا خلال السنوات الماضية، حيث تضاعف إجمالي حجم التجارة بين البلدين ما يقرب من ثلاثة أضعاف بين عامي 2007 و2020، من 4.42 مليارات دولار إلى نحو 11.14 مليار دولار.
على المستوى السياسي، حدثت سابقًا عدة محاولات لتطبيع العلاقات بين البلدين، منها محاولة تمت عام 2015 بمبادرة من المملكة العربية السعودية، وأخرى منتصف عام 2016، باقتراح من رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، لكن لم تسفر هذه المحاولات عن نتائج ملموسة.
لم تبدأ العلاقات السياسية بين الجانبين في التحسن إلا مطلع عام 2021، حين بدأت المستويات السياسية العليا في تركيا، خاصة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ووزير الدفاع خلوصي آكار، ووزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، والمتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، في إصدار تصريحات إيجابية حول مصر ودورها الإقليمي.
من ثم بدأت سلسلة من الاتصالات السياسية بين الجانبين، تم الإعلان عنها من جانب تركيا في مارس 2021، وتم تتويجها في أبريل من نفس العام بمحادثة هاتفية بين وزيري خارجية كلا البلدين، ثم انعقاد الجولة الأولى من المباحثات الاستكشافية بين الجانبين في شهر مايو من نفس العام بالعاصمة المصرية، وهي الجولة التي حقق فيها كلا الطرفين تقدمًا كبيرًا في بحث آفاق توسيع وتحسين العلاقات بينهما. من ثم انعقدت الجولة الثانية من المباحثات بعد ذلك بثلاثة أشهر في العاصمة التركية، لكن لم تحرز هذه الجولة نفس النجاحات التي حققتها الجولة السابقة.
مسار تطبيع العلاقات هذا تعرض لبعض التباطؤ خلال عام 2022، حين أوقفت مصر المباحثات الاستكشافية بينها وبين تركيا؛ نظرًا لقناعتها بعدم عدم وجود تغيير واضح في الممارسات الإقليمية لتركيا، خاصة فيما يتعلق بالملف الليبي، لكن أصدر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في شهر أغسطس من نفس العام، تصريحات صحفية دعا فيه إلى تحسين العلاقات مع مصر، وشدد على أنه يعتبر الشعب المصري “إخوة” يجب أن تتصالح معهم تركيا، وهو ما مهد عمليًا للقاء الأول منذ عام 2013 بينه وبين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في نوفمبر 2022 بالعاصمة القطرية الدوحة. وعلى الرغم من أهمية هذا اللقاء، إلا أن حديث مصر عن عدم تغير توجهات تركيا في ليبيا، حمل في طياته قناعة مصرية باستمرار وجود خلافات جذرية عميقة مع تركيا.
الجمود الذي طال هذا المسار، تمت حلحلته بشكل أو بآخر، عبر زيارة غير مسبوقة قام بها وزير الخارجية المصري سامح شكري، إلى مدينة “أضنة” التركية، في فبراير 2023، عقب الزلزال المدمر الذي ضرب الأراضي التركية، والتقى حينها بنظيره التركي. وبدا من هذه الزيارة أن حالة الجمود السالف الإشارة إليها لم تمنع مصر من الانفتاح بشكل كبير على تركيا من الزاوية الإنسانية، حيث تدفقت المساعدات المصرية -جوًا وبحرًا- على تركيا وسوريا؛ بهدف إظهار التضامن مع الحكومة والشعب في كلا الدولتين، وهو ما أظهر أن كلا الجانبين يريان في اللحظة المعاشة والمبادرة المصرية الإنسانية فرصة يمكن البناء عليها لكسر الجمود الذي شاب مسار تطبيع العلاقات بينهما.
وهو ما مهد للزيارة التي قام بها الوزير التركي للقاهرة في الشهر التالي، والتي تمت قراءتها ضمن جهود استعادة مسار رفع مستوى العلاقات بين بلاده ومصر إلى المستويات المأمولة، خاصة أنها كانت الزيارة الأولى لوزير خارجية تركي إلى القاهرة منذ أكثر من عقد من الزمن. هذه الزيارة -بالتبعية- أسهمت في الوصول إلى محطة مهمة في مسار رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين، عبر إعلان كلا البلدين في يوليو 2023، إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى مستوى السفراء، ثم زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، للعاصمة التركية في سبتمبر من نفس العام.
ملفات زيارة أردوغان للقاهرة
نقلة نوعية جديدة في مسار العلاقات الثنائية: بالعودة إلى زيارة الرئيس التركي للقاهرة، يمكن النظر لهذه الزيارة من عدة زوايا، ترتبط بشكل أساسي بالملفات المشتركة بين الجانبين من جهة، وبالتطورات الأمنية والعسكرية والسياسية الحالية في منطقة الشرق الأوسط. فعلى مستوى العلاقات الثنائية، بالقطع تعتبر زيارة “أردوغان” نقلة نوعية في مستوى هذه العلاقات، بعد أكثر من عشر سنوات من زيارته السابقة للقاهرة، وبالتالي يمكن اعتبار هذه الزيارة نقطة بداية جديدة للعلاقات بين الجانبين، والتي شهدت -كما سبق توضيحه- سنوات من التوتر وعدم الاستقرار.
تعاون عسكري مرتقب: بالإضافة إلى بحث العلاقات الثنائية على المستوى السياسي والاقتصادي، يتوقع أن تشهد هذه الزيارة مباحثات حول التعاون العسكري بين البلدين، الذي بدأ يشهد تناميًا خلال الأشهر الأخيرة، خاصة بعد مشاركة غير مسبوقة، لأكثر من 20 شركة تركية متخصصة في مجال الأمن والدفاع، بالنسخة الثالثة من فعاليات المعرض المصري الدولي للصناعات الدفاعية والعسكرية “إيديكس 2023″، الذي أقيم في ديسمبر الماضي، وعلى رأسها شركة “بايكار” للطائرات المسيرة والأنظمة غير المأهولة التي عرضت في جناحها بالمعرض نموذجين مصغرين لطائرتي “بيرقدار” و”أكينسي” المسيرتين، يحملان العلم المصري، علمًا أن هاكان فيدان، وزير الخارجية التركي، قد صرح مؤخرًا أن بلاده وافقت على تزويد مصر بطائرات مسيرة وتقنيات أخرى.
ملف غزة: على المستوى الإقليمي، تتصدر التطورات الحالية في قطاع غزة -بطبيعة الحال- الملفات الإقليمية التي سيبحثها أردوغان في القاهرة، حيث دعمت أنقره بشكل واضح الموقف المصري حيال محاولات إسرائيل تنفيذ “سيناريو التهجير” في قطاع غزة، وكذلك نوهت بالدور المصري الحالي فيما يتعلق بالوساطة بين إسرائيل وفصائل المقاومة، وكذا إدارتها لملف إدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة.
وعلى الرغم من أن الصوت التركي ربما أصبح أقل “حدة” تجاه ما يحدث في قطاع غزة، مقارنة بما كان الحال عليه خلال المراحل الأولى للعمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع، إلا أن تركيا تحتفظ مثلها مثل مصر بعلاقات أساسية من كافة القوى الفلسطينية، وموقفها هو نفس موقف القاهرة والعرب من دعم حقوق الشعب الفلسطيني في حقوقه العادلة في دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 4 يونيو 1967، ورفض كل السياسات الإٍسرائيلية التي من شأنها تصفية القضية الفلسطينية.
تطورات الملف الليبي: رغم طغيان الملف الفلسطيني في الوقت الحالي على اهتمامات كلا البلدين فإن الملف الليبي يبقى من الملفات الأساسية المتوقع بحثها خلال هذه الزيارة، حيث تتوفر في الوقت الحالي فرص كبيرة لتنسيق جهود البلدين من أجل إنهاء حالة الازدواج الحكومي، والتي باتت العقبة الأكبر في الوقت الحالي، أمام الليبيين للوصول إلى الانتخابات الرئاسية والعامة، وإطلاق حياة سياسية وتشريعية جديدة ومكتملة الأركان.
خلاصة القول، إن زيارة الرئيس التركي إلى القاهرة، تعتبر من حيث الشكل تدشينًا لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين، وهي كذلك من حيث المضمون تبشر بإمكانية تعاون كلا البلدين على المستوى السياسي والدبلوماسي -خاصة فيما يتعلق بملف قطاع غزة- وهو تعاون تبدو التحديات الحالية على المستوى الإقليمي، دافعًا مهمًا وأساسيًا من دوافع حتمية تحققه بشكل سريع وفعال، لأن تنامي العلاقات بين القاهرة وأنقرة، وتحركها على مسار إيجابي وتنفيذي، سيكون له تأثير عملي وهام على الملفات الأساسية في الشرق الأوسط.