تركيامصر

مصر وتركيا: الاستفادة من الإرث الثقافي والتاريخي

شهدت العلاقات المصرية التركية على مدار العقد الماضي حالة من الفتور والتوتر، استطاعت أن تستعيد قوتها على المستوى الرسمي منذ لقاء الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي والتركي رجب طيب أردوغان على هامش بطولة كأس العالم كأس العالم بقطر في نوفمبر 2022، حتى استعادة التمثيل الدبلوماسي الرسمي بعد إعادة انتخاب الرئيس التركي في مايو ٢٠٢٣، وإعادة تبادل السفراء بين البلدين في يوليو من نفس العام. وللاستفادة من عودة العلاقات وترقيتها إلى المستوى الاستراتيجي، ينبغي التطرق إلى ترابط العلاقات الثقافية والتاريخية، لتفعيل سُبل ربط الشعبين؛ لتعزيز سبل التعاون وتوسيعها، وهو ما سينعكس على التحالفات الإقليمية في المنطقة ونجاح عملية التقارب الرسمي. 

العلاقات الجيو- تاريخية

تشكلت العلاقات بين البلدين نتيجة التاريخ والجغرافيا المشتركين لهما، فتشترك مصر وتركيا في الشراكة الأورومتوسطية التي تضم ٤٤ دولة من بينهما مصر وتركيا والتي بدأت منذ عملية برشلونة أو “اليوروميد” عام ١٩٩٥، لتحسين سُبل الحكم وتعزيز الاستقرار وبناء العلاقات الثقافية بين الشعوب الأورومتوسطية، كما تقترب الحدود التركية من دول ذات علاقة وثيقة بالدولة المصرية، مثل قبرص واليونان، وكذلك سوريا وهي حدودًا شكلت التاريخ بين البلدين في مواقف تاريخية عدة. 

شهدت العلاقات التاريخية والثقافية بين مصر وتركيا تطورات على مر العصور، بين الشد والتعاون والتبادل الثقافي، ويمكننا البدء من فترة الشراكة التاريخية خلال فترة الحكم العثماني في الفترة من (١٥١٧ – ١٩١٤) وشهدت مصر تولي الولاة حتى وصول محمد علي لحكم مصر عام 1805، والذي بدأ بعمل اصلاحات بعيدة عن هدف القسطنطينية، وأدت طموحاته التوسعية والتعاون مع الدول الأوروبية في إثارة حفيظة الأناضول، ومع الحرب العالمية الأولى وتحالف تركيا مع قوى المركز أو دول المحور ضد الحلفاء والتي تضم بريطانيا العظمي، كانت مصر تخضع للاحتلال البريطاني الذي سعى لإخراج مصر من ولاية الدولة العثمانية، فيما انفصلت تركيا عن الولاية العثمانية وفقًا لاتفاقية “هدنة مودروس” التي قسمت الإمبراطورية العثمانية واحتلتها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا حتى أصبحت جمهورية عام ١٩٢٣، واستمر التعاون المصري التركي على المستوى الثقافي والتاريخي والدبلوماسي حتى ثورة يوليو ١٩٥٢، ونتيجة الاختلافات الأيديولوجية والانتماءات القومية، توترت العلاقات مرة أخرى نتيجة طرد السفير التركي من القاهرة عام ١٩٥٤، بسبب نشاطه ضد النظام المصري والذي تم إرجاعه لكون زوجته هي إحدى أقارب الملك فاروق واستدعاء السفير المصري من تركيا، وازداد التوتر مع انضمام تركيا لحلف بغداد بالتعاون مع الغرب، في ظل محاولات ضم سوريا له ضد المد السوفيتي الذي أدعت أنقرة تحالف دمشق معهم وبدأت التوترات الحدودية بين البلدين، فيما انتهج الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لفكرة القومية العربية وصولًا للجمهورية العربية  المتحدة والتحالف مع سوريا وهو ما حاولت تركيا الحول دون إتمامه.

واستمرت العلاقات المصرية التركية طوال السبعينيات والثمانينيات تعتمد على التعاون الاقتصادي بشكل يفوق التعاون السياسي، حتى الدور المصري في التسعينيات في تهدئة النزاع التركي السوري حول الحدود والمياه لتصل إلى ذروتها في أعقاب ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وترفيع العلاقات عام ٢٠١٢ مع نظام جماعة الإخوان المسلمين، حتى جاءت ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، لتتوتر العلاقات وتصل لمستوى القطيعة وطرد السفير التركي من القاهرة واستدعاء السفير المصري من تركيا، في ضوء توتر العلاقات بين البلدين وتصاعد التصريحات ضد الدولة المصرية. ويذكر أن أول سفير تركي عمله في مصر منذ عام ١٩٢٥ على مستوى قائم بالأعمال حتى عام ١٩٨٤، ثم بدأت مصر وتركيا في تبادل السفراء حتى نوفمبر عام ٢٠١٣.

وفي عام 2021 بدأ الحديث عن عودة العلاقات، وصولًا إلى زيارة وزير الخارجية سامح شكري إلى تركيا؛ لإعلان التضامن المصري وتقديم الدعم والمساعدات الإنسانية بعد أن ضربتها سلسلة من الزلازل المدمرة والهزات الارتدادية التي أودت بحياة عشرات الآلاف في فبراير ٢٠٢٣، وأعقبها في مارس زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى القاهرة، للاتفاق حول سُبل عودة العلاقات، وصولًا إلى ترفيع مستوى التمثيل الدبلوماسي وترسيم السفراء للبلدين في يوليو ٢٠٢٣. 

العلاقات الشعبية

كونت العلاقات التاريخية بين البلدين والتي تعود إلى قرون ماضية، إرثَا ثقافيًا وحضاريًا وتراثيًا بين الشعبين، تجلى في عدم تأثر العلاقات الشعبية بين مصر وتركيا بالتوترات السياسية بين البلدين على مدار العقود الماضية، فعلى الرغم من حدة التوترات الأيديولوجية والسياسية والإعلامية، إلا أنه لم تتأثر علاقات الشعوب على عدة مستويات، حيث شهدت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين ازدهارًا على مدار السنوات الماضية، مع توقع زيادة الاستثمارات التركية إلى ١٥ مليار دولار، وارتفاع حجم التبادل التجاري إلى ٢٠ مليار دولار سنويًا، نتيجة توقيع اتفاقية التجارة الحرة منذ عام ٢٠٠٥، والتي لم تتأثر بالجمود السياسي بين البلدين، بل أدت إلى تضاعف حجم التجارة بعد دخولها حيز التنفيذ في عام ٢٠٠٧، فتضاعف إجمالي حجم التجارة بين عامي ٢٠٠٧ و٢٠٢٠ من ٤.٤٢ مليار دولار إلى ١١.١٤ مليار دولار. وهو ما ظهر في استمرار تعاون رجال الأعمال بين البلدين، وقيام وفد أعمال تركي بزيارة إلى القاهرة واجتمع مع قادة الأعمال المصريين لمناقشة كيفية تعزيز العلاقات الاقتصادية.

ووفقًا لبيانات الخارجية التركية فلا يزال حوالي 3500 مواطن يقيمون في مصر نتيجة الحفاظ على الروابط العميقة الاجتماعية والاقتصادية بين البلدين. 

وعلى الجانب الثقافي، يواصل معهد يونس إمرة الثقافي أنشطته منذ افتتاحه في القاهرة عام 2010 على أساس اتفاق بين البلدين، وفي المقابل يوجد مكتب ثقافي في تركيا تابع لقطاع الشؤون الثقافية والبعثات بوزارة التعليم العالي، وتراوح عدد الطلاب الوافدين للدراسة في تركيا نحو ٢٤٠٠ طالب بالجامعات التركية، وفقًا لتصريح المتحدث باسم وزارة التعليم العالي في فبراير عام ٢٠٢٣. 

وعلى المستوى الديني، يمثل الإسلام نسبة ٩٩.٨% من تعداد الشعب التركي البالغ نحو ٨٥.٤ مليون نسمة، ولما كان الأزهر الشريف منارة الإسلام المعتدل، المكافح للتطرف في العالم الإسلامي، فكان  الاتفاق الذي أقره رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان عام ٢٠١١ آنذاك، بالاعتراف بالشهادة الأزهرية  للطلاب الأتراك، عند زيارته للقاهرة من نفس العام تأكيدًا على هذا الدور، فكان يوجد ما يقرب من ٦٥٠ طالبًا تركيًا يدرسون في الأزهر الشريف حينها، كما تم التأكيد على دور الأزهر الشريف على مدار التاريخ في نشر مفاهيم الدين الإسلامي الحقيقية، وحاولت تركيا إنشاء جامعة إسلامية دولية على غرار الأزهر الشريف بدأ الحديث عنها عام ٢٠١٤، ولكن لم تكتمل الفكرة، فيما من المتوقع أن يزداد التعاون مع ارتقاء العلاقات بين البلدين. 

وعلى المستوى الأدبي والفني، تأثرت الثقافتان المصرية والتركية ببعضهما البعض، وظهر ذلك في تبادل وترجمة الأدب المصري والتركي، حيث تمت ترجمة أعمال مجموعة من الأدباء المصريين إلى اللغة التركية وعلى رأسهم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، فيما تمت ترجمة أعمال أشهر الكتاب الأتراك إلى اللغة العربية ومنهم الأديب ناظم حكمت، وزادت حركة الترجمة من التركية إلى العربية بعد حصول الأديب التركي الشهير أورهان باموك/ أورخان باموق على جائزة نوبل عام 2006، فانتشرت أعماله بجانب إليف شافاق والتي تتميز بالطابع الصوفي وصاحب رواية “قواعد العشق الأربعون”.

كما شكل التراث والإرث الثقافي المشترك تبادل الموسيقى والفن الشعبي الحركي وخلقت شعبية للأعمال الفنية والدرامية التركية والمصرية، والتي تأثرت بشكل كبير خلال العقد الماضي حتى تمت إعادة فتح دور العرض للفن المصري وأخرها عرض فيلم “بيت الروبي”.

ويمكننا القول أن للسينما المصرية الفضل في تطوير الفن التركي حيث دخل الفيلم المصري للسينما التركية منذ عام ١٩٣٠، وجذب جمهورًا واسعًا من الجمهور التركي، وبدأت السينما التركية تنقل الأعمال المصرية عبر “تتريكها” أي انتاج المحتوى المصري بشكل محلي للسينما التركية منذ الأربعينيات حتى عام ١٩٥٧، مما أدى لتطوير السينما التركية بحسب دراسات تركية، فعلى سبيل المثال كتب عبد الحي أديب السيناريو والحوار للفيلم التركي “مغامرات في إسطنبول” بطولة فريد شوقي عام ١٩٦٥، واستمر التعاون التركي حتى غزو الدراما التركية المدبلجة الفضائيات العربية، والتي خلقت جمهورًا عربيًا متنوعًا منذ مسلسل “نور” الذي تم إنتاجه عام ٢٠٠٥، وحقق شعبية واسعة ساهمت في نقل العديد من الأعمال الدرامية التركية التي لم تتأثر بالأحداث السياسية، بل فتحت الباب للبلدين في زيادة حجم السوق المستقبل للأعمال المصرية والتركية.  

وتجلى التأثر الثقافي والتراثي بين البلدين في اللغة والطعام باعتبارهما الأكثر احتكاكًا ثقافيًا، كما ظهر كذلك في شكل العمارة الإسلامية؛ فوفقًا للكاتب الدكتور “حسن دقيل” أوضح تأثر العمارة في مصر نتيجة الحكم العثماني الذي بدأ عام ١٥١٧، فيوجد في مصر ما لا يقل عن 220 أثرًا مسجلًا بشكل رسمي، ما بين مساجد وزوايا وتكايا وأسبلة ومدارس ووكالات وحمامات وأضرحة، تتميز بأنها تنتمي للطراز العثماني الذي يتميز بوجود المآذن الأسطوانية ذات القمة المخروطية، وانتشار المساجد صغيرة المساحة وذات الثلاثة أروقة الموازية للقبلة، ومن أشهرهم “جامع سليمان باشا بقلعة الجبل بالقاهرة”. 

وعن السفر بين البلدين، انعكس هذا التشابه بين العمارة التركية وبعض المظاهر التاريخية في القاهرة الإسلامية بين البلدين لجذب نفس نوعيات السائحين، إلا أنه قام بجذب مواطني البلدين لمشاهدة الموارد السياحية المتشابهة بينهما والتعرف على الثقافة الشعبية المشتركة والتمتع بالمناخ المختلف، وبالتالي تحول التنافس إلى نوع من التعاون، حيث خففت مصر من إجراءات حصول السائح التركي على تأشيرة الدخول إلى مصر في أبريل ٢٠٢٣، وإلغاء تأشيرة الوصول إلى مطار شرم الشيخ، وهو ما أدى لزيادة عدد السائحين الأتراك إلى شرم الشيخ وحدها عام ٢٠٢٣ بما يزيد عن ٥ أضعاف عام ٢٠٢٢ وفقًا للتصريحات الرسمية من البلدين، كذلك شاركت مصر في معرض EMITT  للسفر والمقام في إسطنبول في دورته الـ ٢٧ بعد توقف للمشاركة المصرية دام سنوات منذ عام ٢٠١٦، فيما أوضح المسؤولون المصريون أن السوق التركي شهد زيادة خلال عام ٢٠٢٣ بنسبة ٢٣٠% عن عام ٢٠٢٢؛  فوصل ما يقرب من ٣٩٠ ألف سائح تركي إلى مصر في العام المالي ٢٠١٨/٢٠١٩، كما بلغ عدد السائحين المصريين الذين زاروا تركيا العام الماضي نحو  ٢٠٠ ألف سائح وفقًا للسفير التركي بالقاهرة، ومن المتوقع أن يصل عدد السائحين من البلدين نحو مليون سائح خلال خمس سنوات. يضعنا التقارب الشعبي والاجتماعي والشراكة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بين مصر وتركيا التي وقفت أمام التوترات السياسية المتباينة بين البلدين، إلى ضرورة التأكيد على أن تعميق تلك العلاقات سيسهم في تطوير وضع البلدين الاقتصادي وقوتهم في الإقليم، من خلال زيادة العمق الاقتصادي والتعاوني بين البلدين، والتي يجب تفعيلها في مجالات السينما والإعلام والسياحة وتبادل الخبرات في مجال التعليم والبعثات الدينية، عبر زيادة خطوط الطيران بين البلدين حيث تعمل شركات (مصر للطيران وبيجاس والخطوط التركية وطيران النيل) في خطوط مباشرة  لربط البلدين للوصول إلى مليون سائح متبادل، في ظل الأزمات العالمية التي أثرت على حركة السفر للبلدين، حيث سافر ما يقرب من ١٠ مليون سائح تركي عام ٢٠١٩، ثم تراجع إلى ٧.٣ مليون عام ٢٠٢٢ نتيجة الأوضاع الإقليمية المضطربة، وكانت العراق وبلغاريا أكبر الدول المستقبلة لهم، كما سيسهم التعاون في مجال الطيران لجذب السائحين من الأسواق البعيدة عبر الرحلات المشتركة والترانزيت، إذ استقبلت تركيا عام ٢٠١٩ نحو ٤٥ مليون سائح، وما يقرب من ٤٤.٦ مليون سائح عام ٢٠٢٢، وعلى مستوى التبادل العلمي استقبلت تركيا ما يزيد عن ٣٠١.٦٩٤ ألف طالبًا أجنبيًا  خلال العام الدراسي ٢٠٢٢/٢٠٢٣، مسجلين في برامج الزمالة أو البكالوريوس أو الماجستير أو الدكتوراه في مؤسسات التعليم العالي في تركيا بتحقيق عائد يصل إلى مليار دولار، ويصل عدد الطلاب الأتراك إلى ما يقرب من سبعة ملايين طالب ببرامج التعليم العالي للعام الدراسي ٢٠٢٢/٢٠٢٣، منهم ما يقرب من ٣.٨ مليون بدأوا الدراسة للحصول على درجة البكالوريوس، كما التحق أكثر من 2.6 مليون طالب بالدراسات المنتسبة، وهو برنامج للتعليم العالي مدته سنتان في تركيا وتقدم دراسات مشتركة مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، فيما استقطبت مصر نحو 34198 طالبًا أجنبيًا في مصر عام 2020، منهم 16390 من شرق آسيا والمحيط الهادئ، تليها منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والدول العربية، هذا بجانب العدد السكاني الكبير للبلدين، وبالتالي فسيسهم التعاون في تلك المجالات في فتح سوق كبير يستطيع أن يدعم اقتصاد البلدين من خلال أدوات القوى الناعمة.

رحمة حسن

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى