هل من جديد؟: ما تحمله جولة “بلينكن” الخامسة لمنطقة الشرق الأوسط؟
في زيارته الخامسة للشرق الأوسط منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، يجري وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن جولة شرق أوسطية تشمل: السعودية، ومصر، وقطر، وإسرائيل، والضفة الغربية، خلال الفترة (4- 8 ) فبراير، في خضم مناقشات إقليمية ودولية بشأن التوصل لاتفاق مؤقت لوقف القتال بتوافق إسرائيلي فلسطيني، وفي ظل تصعيد غير مسبوق في منطقة الشرق الأوسط والممر الدولي البحر الأحمر، نتيجة تنفيذ ضربات وضربات مضادة بين الأذرع الإقليمية لإيران في المنطقة، وواشنطن وبريطانيا.
وهو ما يدفع إلى التساؤل حول الجديد الذي سيُقدمه بلينكن في جولته الخامسة للشرق الأوسط من أجل إعادة الاستقرار للمنطقة، وتجنب اتساع نطاق التصعيد وتفاقم حدته، بعدما أخفقت جولاته السابقة في تحقيق اختراقات تُذكر بشأن وقف القتال، أو فيما يتعلق بترتيبات اليوم التالي لغزة، ومنع تفاقم التصعيد في المنطقة.
أولاً: ملفات ملتهبة.. دلالات جولة “بلينكن” الخامسة للشرق الأوسط
في تصريحات حول جولة “بلينكن” الشرق أوسطية، أكد ماثيو ميلر المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية أن جولة “بلينكن” هي جزء من الجهود الأمريكية المستمرة لتأمين إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين، والعمل على هدنة إنسانية من شأنها أن تسمح بوصول المزيد من المساعدات إلى المدنيين في غزة، ناهيك عن العمل على استعادة أمن واستقرار المنطقة من أجل تعايش آمن للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، وهو ما يُعد الشغل الشاغل “لبلينكن” خلال هذه الجولة، في ظل تأكيد أمريكي متكرر بأن واشنطن ستتخذ الخطوات المناسبة للدفاع عن أفرادها والحق في حرية الملاحة بالبحر الأحمر.
ومن ثم، تأتي جولة “بلينكن” للتباحث بشأن ملفين رئيسين يتصدران أجندة إدارة “بايدن” الخارجية، والتي يُعد إحراز أي تقدم يُذكر بشأنهما يعني كسب “بايدن” مزيدًا من الأصوات في سباق الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر 2024، هما الآتي:
- حسم موقف طرفي الحرب من وثيقة باريس لوقف إطلاق النار في غزة وتحرير الرهائن الإسرائيليين
يعول وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في جولته الخامسة على حسم الموقفين الفلسطيني والإسرائيلي بشأن الاتفاق المقترح لوقف إطلاق النار وتحرير المحتجزين المعروف “بوثيقة باريس”، الصادرة عن الاجتماع المنعقد الأسبوع الماضي في العاصمة الفرنسية بمشاركة مسؤولين أمريكيين ومصريين وقطريين وإسرائيليين، والتي تنص على صفقة جزئية بها مرحلتين أخريين؛ المرحلة الأولى تتضمن صفقة تبادل تشمل من تسميهم إسرائيل بالحالات الإنسانية من بين المحتجزين وتتراوح أعدادهم بين 35-40 شخصًا، سيتم استبدالهم مع أسرى فلسطينيين من ذوي المحكوميات العالية وفق 1 مقابل 100 أسير، وقد ترتفع النسبة إلى 1 مقابل 250.
علاوة على ذلك، تنص الصفقة على هدنة مؤقتة لمدة شهر ونصف؛ إذ أنه وفقًا لموعد إبرام الصفقة في فبراير فقد تشمل فترة الهدنة شهر رمضان. وهي تنص كذلك على إعادة انتشار للجيش الإسرائيلي داخل القطاع وانسحابه من بعض المناطق.
ولقد بعثت ردود الفعل الأولية للجانبين الإسرائيلي والفلسطيني على وثيقة باريس بتطمينات للجانب الأمريكي، بإمكانية التوصل لاتفاق مرضٍ للطرفين، وأن جولة “بلينكن” قادرة على حسم هذا الملف، عبر إقناع إسرائيل بتقديم تنازلات إضافية، من بينها إطالة أمد الوقف المؤقت لإطلاق النار، وذلك تلبية لطلبات الوسيطين المصري والقطري لضمان الحصول على موافقة حماس وبقية فصائل المقاومة على إطار الصفقة، وذلك بعدما أعرب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن اجتماع باريس كان بنّاءً، لكن لايزال هناك خلافات بين الأطراف.
فيما تُثار حالة من الغموض حول موقف الفصائل الفلسطينية من وثيقة باريس؛ ففي وقت سابق أعلنت قطر أن حركة حماس أعطت تأكيدًا إيجابيًا أوليًا بشأن مقترح هدنة إنسانية في قطاع غزة. بينما قال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، إن الحركة تسلمت وثيقة باريس وستدرسها للرد عليها، مشيرًا إلى أن أولوية الحركة هي إنهاء الهجوم العسكري الإسرائيلي، والانسحاب الكامل لقوات الاحتلال من غزة، ورفع الحصار عن القطاع وضمان حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
وهو ما يكشف عن تباعد الرؤى بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ووجود مزيد من العراقيل التي تحول دون التوصل إلى اتفاق. لذا، قد يلجأ الجانبان الإسرائيلي والأمريكي إلى البحث عن أوراق مساومة لدفع الفصائل الفلسطينية للقبول بتنازلات تنتهي بتوقيع اتفاق مؤقت لوقف إطلاق النار نظير تحرير المحتجزين، لاسيما المحتجزين الأمريكيين، مثل السماح بعودة الفلسطينيين إلى شمال غزة، مثلما كشف موقع “أكسيوس” الإخباري .
يُضاف إلى ذلك أن أحد التحديات الرئيسة التي يواجهها “بلينكن” في هذا الملف هو الانقسام الإسرائيلي حول صفقة تحرير المحتجزين ووقف القتال مؤقتًا؛ إذ قال “نتنياهو” في أحدث تصريحات له في مستهل جلسة الحكومة الإسرائيلية يوم 4 فبراير: “لن نوافق على أي صفقة. كثير من الأمور تقال في الإعلام وكأننا وافقنا عليها، مثلما يتعلق بالإفراج عن الإرهابيين، ببساطة لن نوافق عليها لن يوافق على أي صفقة “تتعلق بالإفراج عن إرهابيين”- في إشارة إلى الأسرى الفلسطينيين المتهمين في قضايا أمنية- مضيفًا أن “الجهود الرامية إلى تحرير المختطفين تستمر طوال الوقت”، وأن الحرب على قطاع غزة لن تنتهي قبل تحقيق أهدافها الثلاثة المتمثلة في: القضاء على حماس، وعودة جميع المحتجزين، والتأكد من أن غزة لن تشكل بعد الآن تهديدًا لإسرائيل.
وفي محاولة لاستعراض حجم الإنجاز العسكري الذي حققته الحرب في غزة، أضاف “نتنياهو” قائلًا: “المطلوب تقليص عدد كتائب حماس. لقد قمنا حتى الآن بتسوية 17 من أصل 24 كتيبة. وأغلب الكتائب المتبقية موجودة في جنوب قطاع غزة وفي رفح وسنتولى أمرها أيضًا”، مؤكدًا “نتخذ قراراتنا بأنفسنا، حتى في تلك الحالات التي لا يوجد فيها اتفاق مع أصدقائنا الأمريكيين”، وهو ما يُشير إلى وجود خلافات بين “نتنياهو” وإدارة “بايدن”، قد تُلقي بظلالها على مباحثات “نتنياهو” مع “بلينكن”.
وفي موقف داعم “لنتنياهو” بشأن وقف مؤقت للقتال، عبر وزراء الاقتصاد نير بركات، وشؤون الشتات عيمحاي شيكلي، والخارجية يسرائيل كاتس، والزراعة آفي ديختر، والعدل ياريف ليفين، والتعليم يوآف كيش، والمواصلات ميري ريغيف، عن معارضتهم لبنود الصفقة التي تم تسريبها، بما يتعلق بعدد الأسرى الفلسطينيين الذين سيتم الإفراج عنهم، وتنفيذ تبادل الأسرى على مراحل.
على الجانب الآخر، ذكرت القناة “11” العبرية، يوم 4 فبراير أن الجيش الإسرائيلي يؤيد هدنة مؤقتة في قطاع غزة، حتى لو طالت مدتها، في إطار التوصل إلى صفقة مع حركة حماس، بموجب مخرجات اجتماع باريس، في سبيل استعادة الرهائن الإسرائيليين لديها، بعدما تأكد الجيش أنه اخفق في إعادة المحتجزين من خلال العملية العسكرية، بجانب أن الهدنة تُتيح الفرصة للجيش لإعادة تنظيم صفوفه وصيانة المعدات العسكرية، على أن يتم استئناف القتال في نهاية الهدنة.
- اتساع نطاق التصعيد وتصاعد حدته في الشرق الأوسط
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ويتسع نطاق التصعيد في المنطقة وتتفاقم حدته يومًا بعد يوم على عدة جبهات، مما يفرض على واشنطن اتخاذ خطوات ملموسة لتهدئة الأوضاع في المنطقة، حفاظًا على المصالح الأمريكية في المنطقة من جانب، وعلى صورة واشنطن في المجتمع الدولي من جانب آخر.
فلقد اتسعت في الأسابيع الأخيرة دائرة التصعيد في المنطقة لتشمل الساحة الأردنية عقب استهداف القاعدة العسكرية الأمريكية (البرج 22) في شمال شرق الأردن، من قبل فصائل موالية لطهران، مما أسفر عن مقتل 3 جنود أمريكيين، وإصابة نحو 40 آخرين، في تصعيد غير مسبوق كثفت واشنطن وبريطانيا على إثره عمليات القصف على عدد من المواقع التابعة لوكلاء طهران في سوريا والعراق (كساحات تقليدية للتصعيد في المنطقة )، ثم اليمن بعدما انضمت في الأشهر الأخيرة الساحة اليمينة إلى دائرة التصعيد إثر إعلان حركة أنصار الله الحوثيين استهدافهم السفن الإسرائيلية المارة عبر البحر الأحمر، تضامنًا مع قطاع غزة، ردت عليه الولايات المتحدة وبريطانيا بتنفيذ سلسلة من الضربات استهدفت مراكز للقيادة ومخازن أسلحة للحوثي؛ وذلك بهدف تعطيل وإضعاف قدرة الحوثيين على تهديد الملاحة في البحر الأحمر وتقويض حركة التجارة العالمية.
وعلاوة على ذلك، تتفاقم حدة التصعيد في جنوب لبنان وشمال إسرائيل، لاسيما عقب مقتل نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري واثنين من مرافقيه في بيروت في أول غارة جوية على العاصمة اللبنانية منذ نهاية الحرب الإسرائيلية المدمرة على لبنان في عام 2006، والذي تكثفت على إثره الضربات والضربات المضادة من حزب الله وعدد من الفصائل الفلسطينية المسلحة في جنوب لبنان من جانب، والجيش الإسرائيلي من جانب آخر، مما رفع من عدد قتلى حزب الله إلى 171 عنصرًا منذ 8 أكتوبر حتى يناير 2024، بعضهم قُتل في سوريا. وقُتل 20 عنصرًا إضافيًا من الجماعات المسلحة الأخرى في لبنان، وجندي لبناني، بالإضافة إلى 19 مدنيًا، ثلاثة منهم صحفيون، نظير مقتل 6 مدنيين إسرائيليين و9 جنود.
ومن ثم، يُمثل حزب الله معضلة أمنية وفقًا لتقديرات أمنية إسرائيلية إن لم تُعادل معضلة القضاء على حماس، فهي تفوقها، قد تضع تل أبيب أمام حتمية تنفيذ عملية عسكرية ضد حزب الله في جنوب لبنان، وهو ما يُثلج صدر الإدارة الأمريكية؛ حيث تتصاعد حالة القلق لدى إدارة “بايدن” من أن سحب إسرائيل الجزئي لآلاف القوات في غزة وإعادة تمركزهم في شمال إسرائيل، قد يكون لتنفيذ عملية عسكرية ضد حزب الله في جنوب لبنان؛ استنادًا إلى معلومات استخباراتية أمريكية، جاءت متسقة مع ما نقلته القناة 13 الإسرائيلية بشأن تقييمات مسؤولين إسرائيليين كبار تُفيد بأن الحرب مع حزب الله “حتمية”.
بناء على ذلك، يبدو أن أحد الأهداف الرئيسة لجولة “بلينكن” الشرق أوسطية تتمثل في إثناء تل أبيب عن تنفيذ عملية عسكرية محتملة ضد حزب الله في جنوب لبنان، أو على الأقل تأجيلها لحين التوصل لاتفاق بشأن وقف إطلاق النار في غزة وتحرير الرهائن؛ تجنباً لفتح تل أبيب جبهتي قتال في آن واحد، وهو ما عبر عنه “بلينكن” قائلًا: “القلق الحقيقي” بشأن الخط الأزرق بين إسرائيل ولبنان.. نريد أن نفعل كل ما هو ممكن للتأكد من أننا لا نرى تصعيدًا هناك ولتجنب دوامة لا نهاية لها من العنف.
لكن في نفس الوقت، يبدو أن واشنطن عازمة على توجيه مزيد من الضربات لفصائل موالية لطهران في سوريا والعراق واليمن، بالاشتراك مع بريطانيا، وهو ما يُستدل عليه بتنفيذ الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات استهدفت 36 موقعًا تابعًا لحركة الحوثي، تزامنًا مع جولة “بلينكن” الشرق أوسطية، تبعها شن ضربات جوية ضد خمسة صواريخ في اليمن مساء يوم 4 فبراير ، وهو ما يكشف كذلك عن محاولة “بلينكن” فصل جبهات التصعيد في المنطقة، والحد من مستوياتها في جبهة، مقارنة بالأخرى، مع إيصال رسالة مفادها أن واشنطن لا تسعى لإعلان حرب، ولكن تحتفظ بحق الرد على تهديد مصالحها في المنطقة.
نهاية القول، يبدو أن جولة “بلينكن” الشرق أوسطية لن تأتي بجديد للمنطقة، بعدما تزامنت الزيارة مع استمرار الضربات المتبادلة بين تل أبيب وجنوب لبنان من جانب، وكذلك الضربات الأمريكية والبريطانية لمواقع حوثية وأُخرى تابعة لفصائل موالية لطهران في سوريا والعراق، بما يُشير إلى استمرار التصعيد في المنطقة في ساحاته التقليدية سوريا والعراق ثم اليمن، بينما يكمن الرهان الأمريكي في إقناع تل أبيب بالحد من مستوى التصعيد في جنوب لبنان ولو لوقت محدد. أما فيما يتعلق بصفقة تحرير المحتجزين، فيبدو أن انقسام الداخل الإسرائيلي بشأن الصفقة، وتأخر رد حماس والفصائل الفلسطينية بشأن وثيقة باريس، مع تمسكها بوقف نهائي للقتال وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، قد يعيق إحراز “بلينكن” أي تقدم يُذكر بشأن هذا الملف، لاسيما مع اختلاف محدود في الرؤي بين “نتنياهو” و”بايدن”.