مصر

المهددات والاستجابة: السياسة المصرية تجاه أمن البحر الأحمر

أظهرت التهديدات الأخيرة التي تتعرض لها حركة الملاحة في البحر الأحمر مدى الارتباط بين الديناميات السياسية في الشرق الأوسط واتجاهات الأحداث في القرن الأفريقي، مما يربط الدول المشاطئة للبحر الأحمر شرقًا وغربًا بمصالح وتهديدات مشتركة؛ تنعكس في تحديد الأولويات الاستراتيجية والأمنية في المنطقة.

وأظهرت الاستجابة الدولية مؤخرًا لتهديدات الحوثي للبحر الأحمر، والاستجابة المصرية حول التحركات الإثيوبية الأخيرة للوصول إلى البحر الأحمر عبر أرض الصومال؛ أولوية أمن البحر الأحمر في أجندة السياسة العالمية وضمن الترتيبات الإقليمية والوطنية للدول المشاطئة وفي القلب منها السياسة المصرية.

مظاهر التهديد

تصاعدت مهددات حرية الملاحة وتدفق التجارة عبر البحر الأحمر، والتي ارتبطت بجزء كبير منها بالحرب في غزة، التي أدت إلى فتح جبهات إقليمية متعددة، منها تلك التي فتحها الحوثيون على نحوٍ مهدد لحركة التجارة بالبحر الأحمر، بالتزامن مع عودة نشاط القرصنة قبالة السواحل الصومالية، علاوة على استمرار التحركات المفاقمة لحدة التنافس والعسكرة في الإقليم.

أولا: تهديد الحوثي

ردًا على الحرب الإسرائيلية على غزة؛ استهدف الحوثيون منذ نوفمبر الماضي السفن التجارية المارة بالبحر الأحمر باتجاه قناة السويس، الذي يمر عبره 12% من التجارة العالمية و30% من شحن الحاويات عالميًا؛ بدعوى أنها تستهدف السفن الإسرائيلية والمتجهة لإسرائيل، إلا إنها استهدفت عددًا متنوعًا من سفن التجارة، مما أثر على حركة التجارة العالمية وسلاسل التوريد، في ضوء حساسية الممر الملاحي لأية تهديد ناشئ أو مفاجئ، مثلما الحال مع أزمة سفينة الحاويات “إيفرجرين” في مارس 2021.

وردًا على ذلك التهديد، اختارت السفن المرور عبر رأس الرجاء الصالح، في ضوء قرارات شركات الشحن العالمية مثل شركتي “ميرسك” و”بريتش بتروليم”؛ مما فاقم من أزمة ارتفاع تكاليف الشحن، التي فاقمتها أزمة الحرب الروسية الأوكرانية وكذلك التغيرات المناخية، التي أثرت على منسوب المياه في قناة بنما، مما أدى إلى انخفاض بنسبة 36% في عبور السفن خلالها مقارنة بالعام الماضي وبنسبة 62% مقارنة بالعامين الماضيين.

وفي أعلى استجابة للأزمة، شنّت الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات مضادة على الأرض وفي مياه البحر الأحمر، كما شكلت إدارة “بايدن” فرق عمل بحرية مكونة من 20 دولة المعلن منهم (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والبحرين وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وسيشيل وإسبانيا) لحماية الطريق البحري الذي تمر عبره سفن التجارة العالمية، في إطار عملية “حارس الازدهار” التي أعلن عنها في 18 ديسمبر الماضي بعد موافقة مجلس الأمن.

ذلك مع ملاحظة غياب عدد من الدول الإقليمية ذات الصلة بما فيها، مصر والسعودية والسودان والصومال وإريتريا وجيبوتي، وغياب الصين كذلك التي لديها قاعدة عسكرية في جيبوتي وتعتبر البحر الأحمر جزءًا مهمًا من مبادرة الحزام والطريق، وكذلك غياب الدول الإقليمية الراغبة في الانخراط في ترتيبات جماعية للبحر الأحمر مثل كينيا وإثيوبيا، التي أرادت الانضمام لعضوية مجلس البحر الأحمر.

وتسلط تلك الأوضاع مخاطر اتساع نطاق الاضطراب في الشرق الأوسط والبحر الأحمر، في ضوء تصريح الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه لن يتردد في توجيه المزيد من الإجراءات لحماية شعبه والتدفق الحر للتجارة.

وفي بيان للخارجية المصرية، دعت القوى الإقليمية والدولية لتسخير كافة الجهود بما يسهم في خفض التصعيد والتوتر في المنطقة، مما فسره البعض بأن الرؤية المصرية التي لا ترى تلك العملية من شأنها إثناء الحوثي عن استعدادهم لتهديد الملاحة في البحر الأحمر. وأكد وزير الخارجية المصرية سامح شكري خلال مؤتمر صحفي له مع نظيره السعودي في القاهرة بأن التوترات في البحر الأحمر هي نتيجة للتصعيد الجاري في غزة الذي يجب أن يتوقف لمنع اتساع رقعة الصراع إقليميا كما هو واقع حاليا.

نشاط القرصنة

مع التهديد الحوثي لحركة الملاحة في البحر الأحمر، عاد نشاط القراصنة قبالة السواحل الصومالية للظهور مرة أخرى؛ إذ سجلت خمس هجمات على السفن التجارية قبالة السواحل الصومالية؛ كان آخرها ما أعلنت عنه البحرية السريلانكية في السابع والعشرين من يناير بالاستيلاء على سفينة صيد “لورينزو بوتا-4” على بعد 840 ميلًا بحيرًا جنوب شرق الصومال.

وفي الخامس من يناير، ردت البحرية الهندية على حادث اختطاف على متن السفينة “MV Lila Norfolk” التي ترفع علم ليبيريا، عبر إرسال سفينة حربية وطائرة هليكوبتر لتحريرها، ليفر القراصنة هاربين قبل وصولهم. وكذلك اشتبك جنود صوماليون مع خاطفين قبالة ساحل ولاية جلمدوج الأسبوع الماضي، بعد أن استولوا على سفينة تجارية مملوكة لرجال أعمال صوماليون.

وفي السادس عشر من ديسمبر الماضي، اختطف قراصنة صوماليون سفينة الشحن “MV Ruen” البلغارية والتي ترفع علم مالطا، حيث تم اقتيادها إلى سواحل ولاية بونتلاند الواقعة على بعد 380 ميلًا بحريًا شرق جزيرة سقطرى اليمنية، كأول عملية اختطاف ناجحة منذ عام 2017.

ولم تقتصر عملية القرصنة على السفن الكبيرة، بل تعرضت ما لا يقل عن خمس سفن صيد إيرانية لهجمات خلال الأسابيع الأخيرة، مما يهدد بتنامى نشاط القرصنة في المنطقة، خاصة بعد انسحاب السفن الحربية الأوروبية وانشغال الأمريكية بالتهديد الحوثي في اليمن.

وفي ضوء تداخل وتعدد التهديدات الأمنية، كانت هناك مناقشات جارية بالاتحاد الأوروبي تدرس توسيع تفويض عملية ” أتلانتا” الأوروبية والمعنية بمكافحة القرصنة قبالة السواحل الصومالية لتشمل ضمن تفويضها الجديد مساعدة العملية التي تشنها الولايات المتحدة ضد الحوثيين. وكانت إسبانيا الدولة الأوروبية الوحيدة الرافضة تداخل الأدوار وانخراط العملية الأوروبية في مواجهة الحوثيين.

وتكشف تلك التهديدات والتدخلات الأخيرة عن تحديات سياسية ستفرض على الدول الإقليمية المعنية بأمن البحر الأحمر، والتي بات مفروضًا عليها ليس فقط التهديد المتنامي والمتعدد الأوجه في المنطقة، ولكن بات مفروضًا عليها أيضًا شكل الترتيبات والمقاربات التي يتعين عليها الانخراط بها لحماية أمنها ومصالحها في المنطقة.  

طموحات الهيمنة

تغذي المنافسة الدولية والإقليمية، التي تمتلك أهداف متعارضة ومتنافسة؛ حالة التوتر في إقليم البحر الأحمر، والتي سلطت عليها الضوء تحركات إثيوبيا الأخيرة مع أرض الصومال وتوقيع الاتفاق المثير للجدل والتوتر؛ الذي يقضي بمنح إثيوبيا حق الوصول للبحر عبر ميناء بربرة مقابل منح الثانية حصة في الخطوط الجوية الإثيوبية؛ بما يفاقم من المنافسة الجيوسياسية في البحر الأحمر.

ورغم تحديات الهيمنة في تلك المنطقة التي تشهد تصاعد المنافسة الإقليمية والدولية، بما يقلل من فرص تحقيق دولة بمفردها حالة الهيمنة على توجيه سياسات ومسارات التعاون والصراع؛ إلا إن التنافس يفاقم من التوترات، نظرًا لحالة اصطدام مصالح وسياسات العديد من اللاعبين في المنطقة.

وتشهد منطقة البحر الأحمر حالة من الاضطرابات السياسية وتصاعد التنافس الذي يفاقم بدوره من الأوضاع الأمنية. فالاضطرابات في السودان والصومال وكذلك اليمن، تزيد من التهديدات الأمنية الإقليمية، في الوقت الذي يشهد فيه الساحل الغربي للبحر الأحمر سباق القواعد العسكرية على المستويين الإقليمي والدولي.

فتمتلك السعودية والإمارات منشآت عسكرية لإدارة الحرب على الحوثيين، منها تلك الواقعة في سواحل إريتريا، فضلًا عن امتلاك تركيا قاعدة في الصومال التي أصبحت في عهد الرئيس السابق محمد عبد الله فرماجو ساحة للاستقطاب الإقليمي بين الدول الخليجية والإقليمية، خاصة بعد الأزمة الخليجية مع قطر. ومؤخرًا تسعى إيران للعودة إلى السودان مرة أخرى.

ناهيك عن التنافس الدولي، إذ أقامت الصين عام 2017 أول قاعدة عسكرية لها بالخارج بجوار القاعدة الأمريكية في جيبوتي، التي تستضيف عددًا من القواعد العسكرية لفرنسا واليابان وإسبانيا وإيطاليا؛ مما يؤثر على حالة الاستقرار في البحر الأحمر الذي تمر عبره معظم التجارة بين أسيا وأوروبا، وهو ما يجعل البحر الأحمر يحظى بأولوية في أجندة صنع السياسات الأوروبية والأمريكية.

التأهب والاستجابة

يحتل الممر البحري المؤدي إلى قناة السويس أولوية خاصة ضمن أولويات الأمن القومي المصري، والتي تؤثر بالتبعية على مستويات الاستجابة وآلياتها وأبعادها؛ إذ تحافظ السياسة المصرية على المشاركة الأمنية متعددة المستويات في المنطقة:

الترتيبات الأمنية

دشنت مصر قيادة الأسطول الجنوبي وافتتحت قاعدة برنيس العسكرية عام 2017، في ضوء الأهمية الاستراتيجية لتأمين الجزء الجنوبي، وكجزء من إجراءات وترتيبات أمنية أوسع، شملت التنسيق والتحالف العسكري مع الدول الشريكة ومواصلة برامج الاحتراف العسكري والتدريب، وكذلك إجراء المناورات والتدريبات البحرية في المنطقة.

وعملت مصر على توقيع اتفاقيات تعاون عسكري مع أغلب دول المنطقة، فخلال زيارته إلى جيبوتي في مايو 2021، كأول رئيس مصري يزور جيبوتي منذ الاستقلال، كان الاتفاق على التعاون الفني والعسكري حاضرًا ضمن أجندة التعاون بين البلدين. وأتفق حينها على تعزيز التعاون في مجالات مكافحة الإرهاب وجميع أشكال الجريمة المنظمة، وكذلك أمن البحر الأحمر وخليج عدن، من خلال التنسيق في إطار مجلس الدول المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن.

وعلى النحو نفسه، هناك اتفاقيات أبرمتها مصر للتعاون العسكري مع دول حوض النيل مثل كينيا وأوغندا وبوروندي والسودان؛ إذ وقّعت مع الأخيرة اتفاقية للتعاون العسكري في مارس 2021. وأجرت كل من مصر والسودان مناورات عسكرية شملت “نسور النيل 1” و”نسور النيل 2″، في نوفمبر 2020 ومارس 2021 على التوالي، ومناورة “حماة النيل” في مايو 2021.

وفي مسرح عمليات الأسطول البحري الجنوبي المصري، تنفذ البحرية المصرية مناورات بحرية مشتركة مع عدد من الدول الشريكة بما في ذلك السعودية وفرنسا والولايات المتحدة، بهدف الارتقاء بمستوى التدريب ونقل وتبادل الخبرات.

الترتيبات الجماعية

يعد غياب البنية اللازمة لإدارة الأولويات الأمنية المشتركة، أحد التحديات القائمة في إقليم البحر الأحمر. ولعل أبرز ترتيب جماعي مؤسسي انخرطت فيه مصر كان تدشين مجلس الدول المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن عام 2020 والذي تستضيف مقره السعودية، ويضم في عضويته: مصر، السعودية، الأردن، اليمن، الصومال، السودان، جيبوتي، إريتريا.

وجاء تدشين هذا المجلس، في ضوء سلسلة من الجهود المتصلة منذ خمسينيات القرن الماضي للدول العربية والمشاطئة للبحر الأحمر لوضع ترتيب إقليمي جماعي، يتم من خلاله تعريف المصالح والتهديدات الجماعية، بما يضمن أفضل استجابة للتهديدات وأعظم استفادة من الفرص.

ودعمًا للآليات المشتركة لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي ومجابهة التحديات، تولت مصر قيادة قوة المهام المشتركة 153، التي تتمثل مهامها في مكافحة أعمال التهريب والتصدي للأنشطة غير المشروعة في باب المندب وخليج عدن والبحر الأحمر، كجزء من المشاركة المصرية الفاعلة في القوة البحرية المشتركة .(CMF)

لكن ما تشير إليه الوقائع، أن أغلب تلك الدول تعاني من تحديات بنيوية تحدّ من قدرتها على تمثيل قيمة مضافة لأي ترتيب جماعي، وهو الأمر الذي يجعل من أزمة الدولة الوطنية تحديًا يضاف إلى جملة التحديات الأمنية الإقليمية، ويفتح الباب في الوقت ذاته أمام المقاربات والتدخلات الدولية، مثلما هو الحال مع مبادرة “حارس الازدهار” الأخيرة التي لم تشارك فيها إقليميًا سوى البحرين، وفي الوقت ذاته تتبنى الدول الأوروبية مسؤولية مواجهة تهديد القرصنة في البحر الأحمر، فضلًا عن تنامي انخراط القوى الإقليمية والدولية عبر سباق القواعد العسكرية.

التحالفات الثنائية

يعد القيام بدور نشط في المنطقة واحدًا من محددات رفع قدرة الدولة على التأثير في الترتيبات الإقليمية، مثلما تفعل الدول المتنافسة في الإقليم من خلال بناء شراكات ثنائية والانخراط في تحالفات استراتيجية والاضطلاع بدور ٍفي معالجة حالة الهشاشة والأزمات التي تمر بها دول المنطقة؛ مما يضمن تأثيرهم على الترتيبات الإقليمية.

من هذا المنطلق، تسعى السياسة المصرية إلى إعادة الانخراط إقليميًا من خلال مداخل متعددة، بما فيها دعم الدول الشريكة في مواجهة جوانب التهديد على المستوى الوطني وبالتبعية على المستوى الإقليمي، نظرًا لتزايد التدخل الإقليمي والدولي في صراعات وفي التحولات السياسية التي تشهدها دول المنطقة، على نحوٍ يوجه مسارات الصراع في اتجاه حسابات موازين القوى الإقليمية والدولية؛ بما يغفل مصالح الدول الوطنية، ويهدد مصالح القوى الإقليمية بما فيها المصالح المصرية.

وتعمل مصر من خلال الأداة الدبلوماسية على إدارة التدخل الداعم للاستقرار والتعاون الجماعي وفق ثوابت السياسة الخارجية المصرية، التي تدعم تماسك مؤسسات الدولة الوطنية وتعلي من قيمة التعاون الإقليمي على كافة مستوياته السياسية والاقتصادية.

ومن هذا المنطلق، تتبنى مصر سياسة نشطة إزاء دول القرن الأفريقي، من خلال الانخراط في اتفاقيات تعاون اقتصادي وعسكري، فضلًا عن الانخراط في الأزمات السياسية التي تشهدها تلك الدول، بما في ذلك الانخراط النشط في مسارات الانتقال السياسي المتعثر الذي يمر به السودان منذ عام 2019، وكذلك إعادة توثيق الصلات مع كلٍ من الصومال وجيبوتي وإريتريا، والذي تجلت صوره مؤخرًا في الانحياز المصري الصريح للصومال في أية تهديد إقليمي قد يتعرض له، على خلفية أزمة أرض الصومال.

في الأخير، تضيف الأزمات الأمنية الأخيرة مبررًا قويًا لتصاعد التنافس الدولي والعسكرة في المنطقة، التي تشهد بالفعل تنافس المصالح والتدخلات الإقليمية والدولية، وسعي أغلب القوى الإقليمية والدولية لإقامة القواعد العسكرية التي تسهم في حماية مصالحها وفرض نفوذها في المنطقة، مما يفرض على الدول المعنية الاختيار بين بدائل وترتيبات أمنية شديدة التعقيد.

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى