حدود تأثير التغير في المواقف الأوروبي على احتمالية الدفع لوقف الحرب الاسرائيلية على غزة
وسط المساعي الدولية الرامية إلى إنهاء الحرب في غزة في ظل تصاعد المخاوف من توسع رقعة الصراع، ووسط تنامي ردود الفعل الدولية الرافضة والمنتقدة لموقف رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي الرافض لإقامة دولة فلسطينية؛ يعقد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي اليوم الاثنين 22 يناير اجتماعًا في العاصمة البلجيكية بروكسل يتمحور حول عدة قضايا من بينها الأوضاع في الشرق الأوسط، والأوضاع في قطاع غزة وحل الدولتين، ويشارك كل من وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي، ونظيره الإسرائيلي في هذا الاجتماع.
وكذلك سيلتقي الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمينة للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل وعدد من وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي نظراءهم في كل من مصر والأردن والسعودية وفلسطين، إضافة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية؛ لبحث تطورات الأزمة في غزة، ومستقبل القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى جهود احتواء التصعيد في منطقة الشرق الأوسط. ويأتي هذا الاجتماع، في خضم الجهود المصرية والعربية الرامية إلى وقف الحرب الإسرائيلية على غزة، وإحلال السلام، وتطبيق حل الدولتين، وفق قرارات الشرعية الدولية.
وفي هذا الإطار، تسلط هذا الورقة الضوء على طبيعة التغير في المواقف الأوروبية تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، وامكانية تأثيرها باتجاه الدفع لوقف تلك الحرب والضغط باتجاه إحياء المسار السياسي لإحلال السلام من أجل حل الدولتين، وفقًا للقرارات الدولية الصادرة بهذا الشأن، لاسيما وأن الاتحاد الاوروبي يطرح وثيقة تقترح خارطة طريق للسلام سيتم مناقشتها في اجتماع اليوم.
أولًا: تدهور الوضع الإنساني في غزة نتيجة الحرب الإسرائيلية
بعد مرور 107 أيام على العدوان الاسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، والذي فرضت فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي حصارًا مشددًا على قطاع غزة، ومنعت إمدادات الوقود والكهرباء والغذاء والماء عن القطاع الذي يقطنه نحو 2.3 مليون شخص، مما تسبب في كارثة إنسانية غير مسبوقة، إذ استمر جيش الاحتلال في ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية ضد المدنيين، ملقيًا بنحو 65 ألف طن من المتفجرات، أي ما يعادل 4 قنابل نووية كتلك التي ألقيت على هيروشيما وناجازاكي في اليابان إبان الحرب العالمية الثانية، مدمرًا بها كافة البنى التحتية مستهدفًا المدن والأحياء السكنية، قاصفًا المدارس والمساجد ومراكز الإيواء.
مما أسفر عن وصول أعداد الضحايا ما بين شهيد أو مصاب أو مفقود إلى نحو 100 ألف فلسطيني، ما يمثل نحو 4% من سكان القطاع، هذا إلى جانب تفشي الأمراض المعدية بين نحو 500 ألف فلسطيني دون علاج، ومعاناة نحو 100 ألف مريض سرطان من عدم توفر الأدوية والمتابعة الطبية، فضلًا عن استشهاد نحو 340 من الأطقم الطبية، و115 صحفيًا، هذا إلى جانب تدمير أكثر من 350 ألف منزل ووحدة سكنية، وتدمير نحو 60% من تراث غزة الحضاري الذي يشمل تاريخًا طويلًا شهد على الكثير من الحضارات التي تعود إلى نهايات العصر الحجري.
ولم تقتصر الانتهاكات الاسرائيلية لحقوق الانسان والقانون الدولي في قطاع غزة فقط، إذ تزايد العدوان الإسرائيلي الممنهج في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، وتصاعدت مداهمات جيش الاحتلال وهجمات المستوطنين ضد الفلسطينيين.
ثانيًا: الملامح الأولية للطرح الأوروبي للسلام
وفقًا لما نشرته فرنسا 24، أرسل السلك الدبلوماسي للاتحاد الأوروبي قبل اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي اليوم الاثنين 22 يناير ٢٠٢٤ “ورقة مناقشة” للدول الأعضاء تقترح خارطة طريق للسلام في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتتضمن عقد “مؤتمر تحضيري للسلام” ينظمه الاتحاد الأوروبي ومصر والاردن والسعودية وجامعة الدولة العربية، مع دعوة الولايات المتحدة والأمم المتحدة أيضًا للمشاركة في عقد المؤتمر.
وتشير الوثيقة إلى عقد المؤتمر حتى لو رفض الجانب الإسرائيلي أو الفلسطيني المشاركة، مع التشاور مع الطرفين في كل خطوة من المحادثات؛ بهدف وضع خطة للسلام. وتوضح الوثيقة أن أحد الأهداف الرئيسة لخطة السلام ينبغي أن يكون إقامة دولة فلسطينية مستقلة “تعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل في سلام وأمن”.
وتقترح وثيقة الاتحاد الأوروبي أيضًا على المشاركين في مؤتمر السلام أن يوضحوا “التداعيات” لكلا الجانبين، اعتمادًا على ما إذا كانوا يقبلون أو يرفضون الخطة التي يجري الاتفاق عليها خلال المؤتمر.
وحتى الآن لم يتبين ما إذا كانت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ستتوافق حول موقف موحد إزاء مثل هذا الطرح، لاسيما وأن كلًا من ألمانيا والنمسا والتشيك والمجر من أوثق حلفاء إسرائيل، فيما تنتقد دول مثل إيرلندا وبلجيكا وإسبانيا العمل العسكري الإسرائيلي، وتؤيد كل من فرنسا وهولاندا وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا وإيرلندا دعوات وقف الصراع لأسباب انسانية، وطالب وزراء عدة دول أوروبية بينها إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا الاتحاد الأوروبي ومؤسساته بمنع دخول منتجات المستوطنات الإسرائيلية إلى الأسواق الأوروبية، كواحد من أدوات الضغط لوقف الحرب في غزة.
ثالثًا: مدي التغير في الموقف الأوروبي.. موقف منقسم وتغير لهجة الدعم المطلق
على وقع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وفشل كافة النداءات الإنسانية لفرض هدنة إنسانية مستدامة، ظهرت ازدواجية المعايير لدى المجتمع الدولي، وتزايدت ضغوط الرأي العام الغربي على الحكومات لتغيير المواقف الرسمية الداعمة بشكل مطلق لإسرائيل لارتكاب هذه المجازر في حق الشعب الفلسطيني لتطالبها بالضغط لوقف الحرب وسرعة إدخال المساعدات الإنسانية، والدفع باتجاه الحل السياسي وإحلال السلام الشامل والعادل وفقًا لقرارات الشرعية الدولية، مما أثر على الكثير من المواقف الأوروبية التي شهدت تحولًا تدريجيًا كبيرًا تجاه الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة.
وعلاوة على ذلك، تعالت أصوات داخل البرلمان الأوروبي تطالب بوقف الحرب، وأخرى تطالب بدور فاعل ومؤثر في ملف الشرق الأوسط، وأخرى تعترف بعدم تناسب الرد الإسرائيلي مع طبيعة ما حدث، وهو أمر يدفع بالاعتقاد بأن ثمة ملامح تغيير جوهري ممكن في السياسات الأوروبية تجاه هذه الأزمة.
- على مستوى الاتحاد الأوروبي:
على الرغم من موقف رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين الداعم بشكل مطلق لإسرائيل، والذي أعربت عنه خلال زيارتها لإسرائيل في منتصف أكتوبر الماضي، وانتقده حينها عدد من المسؤولين الأوروبيين لعدم تأكيدها على ضرورة احترام إسرائيل للقانون الدولي وقوانين الحرب، أعلنت فون دير لاين خلال زيارتها لمصر في 18 نوفمبر الماضي، اتفاقها مع الرؤية المصرية الرافضة لأي محاولات للتهجير القسري للفلسطينيين، وشددت على أهمية الحفاظ على الوضع التاريخي والقانوني للقدس، وضرورة تحقيق السلام على أساس حل الدولتين، في تغير واضح لموقفها الداعم بشكل مطلق لإسرائيل.
وفيما يتعلق بموقف جوزيب بوريل –مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي-، فيشدد على رفض أوروبا للتهجير القسري للفلسطينيين من غزة، ورفض إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة، ودعا إسرائيل إلى احترام القانون الدولي الإنساني، مجددًا الدعوة إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وأهمية العمل الدولي للمضي قدمًا تجاه عملية سياسية لحل الدولتين. وخلال افتتاح اجتماع المنتدى الإقليمي الثامن “للاتحاد من أجل المتوسط” في برشلونة، أكد أنه “لن يكون هناك سلام أو أمن لإسرائيل من دون دولة فلسطينية.. مستنكرًا تخصيص إسرائيل لأموال جديدة لبناء المزيد من المستوطنات“.
وندد بوريل كذلك بتصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، بشأن تهجير أهالي غزة وبناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، والتي وصفها بـ”التحريضية وغير المسؤولة”، مشددًا على أن عمليات التهجير القسري محظورة تمامًا في القانون الإنساني الدولي.
ورفض بوريل، تصريحات نتنياهو، المعارضة لقيام دولة فلسطينية؛ حيث أشار إلى أنه ” رغم إصرار إسرائيل على الرفض.. حل الدولتين سيحقق السلام، بضغط من المجتمع الدولي”، ودعا العالم العربي وأوروبا وأمريكا والأمم المتحدة إلى التشجيع على “حل الدولتين”.
وقد ساعدت الجهود التي بذلها جوزيب بوريل، وشارل ميشيل –رئيس المجلس الأوروبي-، وآخرين، في تغيير الموقف الأوروبي قليلًا، والتوصل إلى إجماع الاتحاد الأوروبي على دعوة حكومة الاحتلال الإسرائيلي لاحترام القانون الإنساني الدولي وضرورة دخول المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، ومع ذلك لم يدعُ الاتحاد الأوروبي في موقف موحد إسرائيل لوقف الحرب أو يدين سياسية العقاب الجماعي التي تمارسها في غزة، باعتبارها جريمة حرب.
ومن جانب آخر، بعد إعلان الاتحاد الأوروبي بساعات لتعليق المساعدات للفلسطينيين، تراجع عن قراره يوم 9 أكتوبر مقررًا مراجعة ملف هذه المساعدات بشكل عاجل لضمان عدم وصولها لحركة حماس، وفي 21 نوفمبر منح الاتحاد الأوروبي الضوء الأخضر لمواصلة المساعدات التنموية للفلسطينيين.
- تصويت البرلمان الأوروبي:
صوت البرلمان الأوروبي يوم 18 يناير الجاري على قرار لوقف إطلاق النار في غزة، والإسراع في إيصال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، بأغلبية 321 صوتًا، مقابل رفض 131 صوتًا، وامتناع 72 عضوًا عن التصويت. وأعرب القرار عن القلق من السياسات الإسرائيلية التي تؤدي إلى تهجير السكان قسرًا، ويدعم القرار عمل محكمة العدل الدولية، مؤكدًا أهمية طرح مبادرة أوروبية جديدة تهدف لاستئناف المسار السياسي.
- على مستوى الدول الأوروبية:
الموقف الفرنسي: بدا الموقف الفرنسي في البداية متأرجحًا بين التزامه بعدم التخلي عن إسرائيل ودعم حربها منذ اليوم الأول، داعيًا إلى تشكيل تحالف دولي لدعم إسرائيل، وبين التزامه بالتقاليد الفرنسية الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حل الدولتين، وكذلك الالتزام الفرنسي بمواثيق حقوق الإنسان والقانون الدولي، هذا إلى جانب الضغوط التي يمارسها تيار اليمين المتطرف بدعم إسرائيل، وضغوط تيار اليسار الفرنسي الداعي لتحقيق هدنة إنسانية وإدخال المساعدات واحترام القانون الدولي الانساني خلال المواجهات العسكرية، هذا إلى جانب مخاوف تمدد الصراع لحرب إقليمية تهدد الأمن والسلم الدوليين.
وحدث تغير الموقف الفرنسي الداعم بشكل مطلق لإسرائيل، ليصبح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول زعيم لدولة غربية كبيرة يدعو إسرائيل لوقف إطلاق النار الذي يستهدف المدنيين من النساء والأطفال، ويدعو لإيجاد أفق سياسي لحل الدولتين.
وأدان بشدة بيان للخارجية الفرنسية يوم 29 أكتوبر هجمات المستوطنين التي أدت إلى مقتل العديد من المدنيين الفلسطينيين، ودعت إسرائيل لاتخاذ تدابير فورية لحماية الفلسطينيين، وطالبت وزيرة الخارجية الفرنسية بالتوصل لهدنة “فورية ودائمة”، ودعت لخفض التصعيد على الحدود الإسرائيلية اللبنانية. وفي أعقاب اقتحام جيش الاحتلال الإسرائيلي لمستشفى الشفاء، دعت الخارجية الفرنسية إسرائيل للالتزام بالقانون الدولي الإنساني”.
وتعليقًا على دعوات وزراء إسرائيليين بتهجير أهالي قطاع غزة، حذر الرئيس الفرنسي “ماكرون” إسرائيل من التفكير في التهجير القسري لسكان غزة، وأكد أن “هذه الدعوات غير مقبولة وتتعارض مع حل الدولتين، الذي يشكل الحل الوحيد القابل للتطبيق”. ونددت وزارة الخارجية الفرنسية بالتصريحات الإسرائيلية “الاستفزازية“، الداعية لتهجير الفلسطينيين، وإعادة بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. كما أعلن وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه، أن “للفلسطينيين الحق في السيادة، وفي إنشاء دولة”، ردًا على تصريحات نتنياهو الرافضة لحل الدولتين.
وفي 9 نوفمبر؛ استضافت فرنسا مؤتمر باريس حول الأوضاع الإنسانية في غزة، وحددت ثلاثة أهداف رئيسة للمؤتمر، بالعمل من أجل احترام القانون الدولي وحماية المدنيين والعاملين في المجال الإنساني، وتعزيز الحصول على المساعدات الإنسانية، والدعوة إلى التعبئة من أجل دعم الوكالات والمنظمات الدولية الفاعلة ميدانيًا في غزة. ودعا “ماكرون” إلى ضرورة العمل من أجل وقف إطلاق النار، والحاجة إلى هدنة إنسانية، معلنًا زيادة المساعدات الفرنسية لغزة إلى 100 مليون يورو.
وكذلك أيدت فرنسا التحركات العربية في الأمم المتحدة سواء من خلال التصويت بالموافقة على القرار العربي بالأمم المتحدة في 27 أكتوبر الماضي، وكذلك تأييدها في 12 ديسمبر الماضي لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي طالب بالوقف الإنساني لإطلاق النار والإفراج الفوري عن جميع المحتجزين وضمان وصول المساعدات الإنسانية والذي حظي بأغلبية 153 عضوًا ومعارضة 10 وامتناع 23 عن التصويت.
لذا يتضح؛ أنه على الرغم من التأييد والدعم الفرنسي القوي لإسرائيل في حربها على غزة، إلا أن الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة خففت من حدة دعم فرنسا لإسرائيل، لحماية المدنيين، وتأييد تحقيق هدنة إنسانية لإدخال المساعدات الإنسانية، ورفض تهجير الفلسطينيين، وأهمية الدفع باتجاه وقف إطلاق النار وإيجاد أفق سياسي لحل الدولتين.
دعم ألماني وتغيير طفيف في التصريحات؛ إذ تدعم ألمانيا بشكل مطلق إسرائيل في حربها لرؤيتها أن أمن إسرائيل مصلحة عليا للدولة. وعقب عملية “طوفان الأقصى” أوقفت ألمانيا الأموال المخصصة لمساعدات التنمية للفلسطينيين، وأعلنت أنها ستدخل طرفا ثالثا فى قضية محاكمة إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية، وارتفعت مبيعات الأسلحة الألمانية لإسرائيل بعد عملية “طوفان الأقصى” إلى 10 أضعاف الصادرات في العام نفسه، وبلغت قيمتها بعد الحرب 323 مليون دولار.
ومع ذلك خففت ألمانيا بشكل طفيف من حدة لهجتها المؤيدة بشكل مطلق وغير مشروط لإسرائيل، مع تزايد مظاهرات الرأي العام المؤيدة لفلسطين، وقمعها لهذه المظاهرات، وتنامي تدهور الوضع الإنساني بغزة، حيث أشارت وزيرة الخارجية الألمانية أناليا بيربوك بمجلس الأمن إلى أن ” دفاع إسرائيل عن النفس لابد أن يتم وفقًا للقانون الانساني”، ودعت المجتمع الدولي إلى التركيز على الحد من تداعيات العمليات العسكرية على المدنيين في غزة، بغض النظر عن الطرف الذي يدين له بالولاء.
وحذرت “بيربوك” خلال زيارتها لإسرائيل في 8 يناير الجاري، من دعوات وزيرين إسرائيليين من اليمين المتطرف لعودة المستوطنين لغزة، وتهجير الفلسطينيين، مؤكدة أن غزة تعود إلى الفلسطينيين وهذا لا رجوع عنه، ودعت إسرائيل لضبط النفس وتقليل حدة العمليات العسكرية وحماية المدنيين في غزة. وأعلن المتحدث باسم الخارجية الألمانية سيباستيان فيشر رفض برلين لهذه الدعوات بأشد العبارات، مؤكدًا أنها ليست مفيدة.
ومع ذلك يظل التغير في الموقف الألماني طفيفًا ولا يتعدى التغيير في لهجة التصريحات، ولا يشكل ضغطًا ملموسًا على إسرائيل لوقف الحرب، ويحتاج للمزيد من الجهود للدفع بإقناع ألمانيا، التي ترى مسؤولية تاريخية تجاه اليهود، أن تسعى جاهدة للعمل على إنهاء الاحتلال وإحلال السلام العادل والشامل، والضغط باتجاه حل الدولتين وفقًا لقرارات الشرعية الدولية بهذا الشأن، لضمان العيش الآمن للفلسطينيين والإسرائيليين، في ظل دولتين مستقلتين، وخاصة أنه وفقًا لوزارة الخارجية الألمانية، تشكل الجهود المبذولة من أجل التوصل إلى سلام عادل ودائم في منطقة الشرق الأوسط أحد المحاور الرئيسة في السياسة الألمانية الخارجية، ويعتبر بناء دولة فلسطينية ديمقراطية ومتصلة وقادرة على الحياة أمرًا جوهريًا لإحلال السلام طويل الأمد في منطقة الشرق الأوسط.
وفيما يتعلق بموقف النمسا: تؤكد النمسا موقفها الداعم لإسرائيل بشكل مطلق، وانتقدت الموقف الأوروبي الداعي لهدنة انسانية، باعتبارها خطوة تحد من قدرة إسرائيل عن الدفاع عن نفسها، وتسمح لحماس بتجميع قواها، وكانت النمسا وكذلك التشيك الدولتين الأوربيتين الوحيدتين من بين الدول العشر التي رفضت بشكل واضح وقف إطلاق النار في غزة، وصوتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد هذا المشروع في 12 ديسمبر الماضي، بعد تراجع كل من كرواتيا والمجر عن الوقوف ضد القرار كما فعلتا في السابق.
التحول النسبي في الموقف البريطاني: أقال رئيس الوزراء البريطاني ريتشي سوناك وزيرة الداخلية سويلا برافرمان، إثر وصفها للمسيرات المؤيدة لفلسطين، بأنها مسيرات كراهية، حيث تشهد عطلات نهاية الأسبوع في بريطانيا منذ اندلاع الحرب خروج مسيرات ضخمة في ميادين لندن للتنديد بالحرب وقتل المدنيين، ويطالب المتظاهرون كذلك بوقف تسليح بريطانيا لإسرائيل.
ولعل هذا الأمر الذي أدى لتغير طفيف للدعم البريطاني المطلق لإسرائيل لمطالبة إسرائيل في الآونة الأخيرة، للتصرف وفقًا للقانون الدولي الإنساني وتجنب سقوط ضحايا من المدنيين وفتح ممرات إنسانية لعبور المساعدات، كما أكد رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، خلال كلمته بالقمة الدولية لأمن الغذاء في 20 نوفمبر الماضي بأن الأوضاع في غزة مأساوية وتزداد سوءًا، ودعا لإنهاء معاناة المدنيين والسماح بدخول المساعدات الانسانية وإيصال الغذاء والوقود والدواء”.
وجدير بالذكر؛ أنه على الرغم من امتناع بريطانيا وألمانيا عن التصويت على قرار مجلس الأمن لوقف إطلاق النار في منتصف شهر ديسمبر الماضي، والذي عطله الفيتو الأمريكي، وامتناع كل من بريطانيا وألمانيا عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على مشروع قرار غير ملزم يطالب بوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة، حث كل من وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون ونظيرته الألمانية أنالينا بيربوك، في مقال مشترك لصحيفة صنداي تايمز، “إسرائيل على وقف إطلاق النار، وإنهاء عمليتها العسكرية بشكل سريع ودائم، وأكدا أهمية العمل على تمهيد الطريق لوقف دائم لإطلاق النار يؤدي لسلام دائم”، وعلى الرغم من عدم مطالبتهما بوقف إطلاق النار بشكل عاجل ودائم، إلا أن هذا الأمر يشكل تحولًا في مواقفهما الداعمة بشكل مطلق لإسرائيل.
وقد دعت بريطانيا كذلك وأكثر من 12 دولة أخرى، من بينها أستراليا وكندا وفرنسا، إسرائيل، إلى اتخاذ خطوات فورية وملموسة للتصدي لعنف المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.
وتعليقًا على دعوات التهجير، شدد وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، طارق أحمد على أنه “لا يجوز تهديد أي فلسطيني بالتهجير أو النقل من قطاع غزة”، مؤكدًا أن القطاع سيكون جزءًا من الدولة الفلسطينية المقبلة. واعتبرت بريطانيا، أن معارضة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو إقامة دولة فلسطينية مستقلة “مخيبة للآمال”؛ وقال وزير الدفاع البريطاني، غرانت شابس، “أعتقد أنه من المخيب للآمال في الواقع أن نسمع ذلك من رئيس الوزراء الإسرائيلي، وأكد وزير الدفاع البريطاني أن “بريطانيا تختلف تمامًا مع موقف نتنياهو الرافض لحل الدولتين”.
أما إيرلندا: فيعد موقفها من أقوى الانتقادات الأوروبية الموجهة لإسرائيل، إذ أعلن رئيس وزراء إيرلندا ليو فارادكار في 3 نوفمبر أن تصرفات إسرائيل في غزة أقرب للانتقام وليست مجرد دفاع عن النفس، وذلك على الرغم من تأكيده دعم إسرائيل في الدفاع عن نفسها وملاحقة حماس.
وبالنسبة لإسبانيا، جاء الموقف الاسباني متوازنًا تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، إذ دعا بيدرو سانشيز- رئيس الوزراء الإسباني-، إسرائيل إلى وضع حد لـ”القتل الأعمى للفلسطينيين” في قطاع غزة، في أشد انتقاد يوجهه لإسرائيل منذ اندلاع الحرب مع حماس، وعلى الرغم من دعمه لإسرائيل في ردها على عملية “طوفان الأقصى”، تعهد بعمل حكومته في أوروبا وإسبانيا من الأجل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وخلال زيارته لمعبر رفح المصري في 24 نوفمبر الماضي، أعلن أن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها، لكن القتل العشوائي في قطاع غزة غير مقبول.. ما يحدث في قطاع غزة كارثة إنسانية.
وفي السياق نفسه أدانت أيون بيلارا- وزير الحقوق الاجتماعية الإسبانية، وزعيمة حزب بوديموس اليساري المتطرف-، قادة العالم “لازدواجية المعايير”، بين موقفهم من دعم أوكرانيا، وصمتهم على ضحايا القصف الإسرائيلي، واقترحت بيلارا “أن تقوم حكومة إسبانيا بإحالة نتنياهو إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة”.
أما بلجيكا فأصدرت سلسلة من التصريحات العلنية المتوازنة من مسؤوليها، مثل رئيس الوزراء ألكسندر دي كرو، ونائبة رئيس الوزراء بيترا دي سوتر، ووزيرة الخارجية حجة لحبيب، ووزيرة التنمية والتعاون كارولين غينيز، حيث تدين عملية “طوفان الأقصى” وتدعم إسرائيل، ولكن مع طرح تساؤلات حول قانونية الغارات الجوية الإسرائيلية، وإدانة العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني، فضلًا عن دعوة بيترا دي سوتر -نائبة رئيس الوزراء-، الحكومة البلجيكية بفرض عقوبات على إسرائيل والتحقيق في قصف المستشفيات ومخيمات اللاجئين في قطاع غزة، هذا إلى جانب تقديم البرلمان الاتحادي البلجيكي مسودة قانون لحظر التجارة مع المستوطنات الإسرائيلية.
وخلال زيارة رئيس الوزراء ألكسندر دي كرو لمعبر رفح المصري في 24 نوفمبر الماضي، أعلن أن “سكان غزة يحتاجون إلى المزيد من المساعدات الإنسانية بشكل عاجل”، وأضاف “يجب أن يصبح وقف إطلاق النار المؤقت وقفًا دائمًا”، ودعا رؤساء وزراء إسبانيا وبلجيكا وأيرلندا ومالطا، رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي شارل ميشال، باتخاذ الاتحاد موقفًا واضحًا بشأن الأوضاع في غزة، يتضمن الدعوة بشكل مشترك إلى وقف دائم لإطلاق النار لأسباب إنسانية.
ختامًا: كشفت الحرب الإسرائيلية على غزة، عن انقسامات في الموقف الأوروبي، حالت حتى الآن دون اتخاذ الاتحاد الأوروبي لموقف موحد تجاه هذه الأزمة المتفاقمة، وسط حالة من الارتباك والترقب لما ستؤول إليه الأمور، وتصاعد المخاوف من توسع نطاق الحرب لحرب إقليمية موسعة، ومع ذلك ثمة تغيرات طرأت على المواقف الأوروبية، بسبب طول أمد الحرب وارتفاع أعداد الضحايا من الفلسطينيين، وتدهور الوضع الإنساني والصحي، وتعنت الجانب الاسرائيلي، ورفض رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، تزامنًا مع تزايد ضغوط الرأي العام الأوروبي لاتخاذ مواقف أكثر توازنًا، والدفع بوقف الحرب وإحلال السلام,
مما دفع بالاتحاد الأوروبي باتجاه اقتراح خارطة طريق للسلام، وعقد مؤتمر دولي تحضيري للسلام، للعمل على إيجاد أرضية مشتركة لحل الأزمة الإنسانية ووقف الحرب ووضع خطة للسلام القائم على حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة “تعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل في سلام وأمن”، وعلى الرغم من عدم فاعلية الموقف الأوروبي مقارنة بالموقف الأمريكي من حيث التأثير باتجاه تغيير الموقف الإسرائيلي، إلا أن التغير النسبي في المواقف الاوروبية قد يشكل ضغطًا على إسرائيل، ويعد هذا التغير فرصًة مواتية للدبلوماسية العربية ودول الشرق الأوسط لاستثمارها، وهو ما يحدث الآن لاسيما من جانب الدولة المصرية للدفع باتجاه التوافق الدولي حول رفض ازدواجية المعايير، والضغط الدولي تجاه وقف الحرب، كخطوة تجاه إنفاذ التسوية العادلة والشاملة للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين وليس الاكتفاء بإدارة الصراع كما عكف المجتمع الدولي خلال العقود الماضية.