البرلمان المصري بين المهام الرقابية والرقابة الذاتية
أحداث متعددة شهدتها جلسات مجلس النواب المصري على مدار الأسبوع الحالي انتهت بإحاطة وزير التموين في الجلسة العامة للبرلمان تنفيذًا لنحو ٩٨ أداة رقابية، وكذلك رفع الحصانة عن النائب مجدي الوليلي في واقعة “شيكات بدون رصيد”، وإحالة النائبة نشوى رائف إلى لجنة القيم في واقعة “غش في امتحان بكلية الحقوق بجامعة جنوب الوادي”. وذلك مع بدء دور الانعقاد الرابع من الفصل التشريعي الثاني منذ أكتوبر الماضي؛ ليلقي الضوء أمامنا على عنصرين أقرهما الدستور واللائحة الداخلية لمجلس النواب متمثلين في الاختصاصات الرقابية للبرلمان عبر رقابة أداء الحكومة وسؤالها واستجوابها، وفي الوقت ذاته الرقابة الذاتية من خلال تحقيق التوازن بين الحق في الحصانة لقيام النائب بواجبه وبين الفصل في توقيت رفع الحصانة البرلمانية من خلال لجنة القيم وبإذن المجلس لضمان نزاهة الحياة النيابية، فكيف تحقق ذلك؟
١. الرقابة البرلمانية:
منذ إقرار الحياة النيابية وإنشاء البرلمان في عهد الخديوي إسماعيل بإنشاء مجلس شورى النواب تطورت اختصاصات البرلمان، بدءًا من إعطاء اختصاصات مالية لتحديد الموازنة الحكومية على غرار البرلمانات الأوروبية، وتوسعت الاختصاصات عقب الثورة العرابية ١٨٨١ بإعطاء سلطات رقابية لمراقبة أداء الحكومة واستجواب الوزراء، وشهدت الثورات المختلفة للدولة المصرية تطويرًا نيابيًا ملحوظًا، وصولًا لدستور ٢٠١٤ بعد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ وتعديلاته عام ٢٠١٩، ليشهد برلمان ٢٠١٦ أول برلمان باختصاصاته الجديدة ويصبح اسمه “مجلس النواب” بدلًا من “مجلس الشعب”.
أدوات الرقابة البرلمانية: حدد الباب السابع من اللائحة الداخلية لمجلس النواب أدوات الرقابة البرلمانية والتي تتخذ اشكالًا كما يلي:
المناقشة العامة: لاستيضاح سياسات الحكومة في أمر ما، من خلال طلب موقع عليه ٢٠ عضوًا.
طلبات الإحاطة والأسئلة: لكل الأعضاء الحق في توجيه أسئلة حول أمر يرغبون في توضيحه أو متابعة أمر وصل لعلمهم او التحقيق في واقعة او أمر تعتزم الحكومة القيام به، والرد يكون شفاهةً من الوزير المختص أو مجلس الوزراء ويتم إدراجه في الجلسات العامة للمجلس، إذا لم يكن طلب الرد كتابيًا، اما عن طلب الإحاطة فيجوز التحفظ عليه من المجلس أو إدراجه في جدول الأعمال ويكون الرد عليه قبل الأسئلة.
الاستجواب وسحب الثقة: فيجوز تقديمه لأحد أعضاء الحكومة لمحاسبتهم في أي شأن يدخل في اختصاصهم، وقد يصل الأمر إلى حد سحب الثقة من الحكومة أو أحد اعضائها من خلال طلب مقدم من عُشر أعضاء المجلس على الأقل، على أن يتم إجراء سحب الثقة عقب جلسة الاستجواب وبموافقة أغلبية الأعضاء.
لجان تقصي الحقائق والاستطلاع: يحق للمجلس تشكيل لجان تقصٍ للحقائق، على أن تلتزم كافة الجهات بالرد على أسئلتها وتوفير كافة المعلومات والوثائق التي تطلبها، على أن يتم مناقشة تقرير تلك اللجنة في أول جلسة عامة عقب رفع التقرير. وتوجد كذلك لجان الاستطلاع والمواجهة والتي تشكل بطلب من رئيس المجلس أو بطلب من ٢٠ عضوًا، لدراسة أمر ما أو دراسة القوانين أو مشروعات القوانين من المتخصصين في هذا الشأن وتتكون من ٣ أعضاء ولا تزيد على ١٠ أعضاء.
اتهام الحكومة بالخيانة العظمى: للمجلس الحق في اتهام مجلس الوزراء أو أحد أعضاء الحكومة بتهمة الخيانة العظمى بطلب مدفوع بالأسانيد موقع عليه أغلبية أعضاء المجلس، حتى تتم إحالته للنائب العام ثم رفع التقرير للجنة التشريعية والدستورية بالمجلس، ومناقشة تقريرها واتخاذ القرار النهائي بموافقة ثلثي أعضاء المجلس ثم رفع الأمر لرئيس الجمهورية.
وتعد جلسة إحاطة وإجابة وزير التموين الدكتور علي مصيلحي أمام مجلس النواب أحد اشكال الأدوات الرقابية، لمناقشة أداء الوزارة في ظل ارتفاع أسعار السلع وخاصة السلع الاستراتيجية، بجانب قضايا الفساد التي تم كشف النقاب عنها على مدار الأيام الماضية. وطالب بعض النواب بضرورة سحب الثقة من الحكومة الحالية في ظل عدم نجاح الحقائب الوزارية في وضع سياسات اقتصادية واجتماعية للتخفيف عن معاناة الشعب المصري.
هذا فيما لم يشهد البرلمان المصري إجراءات لسحب الثقة خلال العقد الماضي، منذ إجراءات مجلس شعب الإخوان عام ٢٠١٢، الذي حاول سحب الثقة من حكومة تسيير الأعمال عقب ثورة يناير فيما كانت تعيش مصر فترة انتقالية قبل إجراء الانتخابات الرئاسية، بجانب الطعن في دستورية مجلس الشعب آنذاك حيث اعقب تلك الفترة حل مجلس الشعب في يونيو ٢٠١٢ قبل يومين من تاريخ الإعادة للانتخابات الرئاسية بقرار من المحكمة الدستورية العليا لعدم دستورية قانون انتخاب مجلس الشعب في ذلك الوقت، وتم تأييد القرار من المحكمة الإدارية في سبتمبر ٢٠١٢.
٢. الحصانة البرلمانية والرقابة الذاتية
تكمن فلسفة الحصانة البرلمانية سواء الموضوعية أو الإجرائية في حماية الأعضاء عند التطرق لكافة الموضوعات الشائكة وممارسة كل أدواتهم الرقابية بعيدًا عن أي عمليات انتقام لتشويه سمعتهم أو منعهم من أداء عملهم. ولكن في المقابل حدد المجلس عددًا من الأدوات لضمان عدم استغلال النائب لسلطاته والخروج عن النص باستخدام الحصانة البرلمانية لتسهيل بعض الأعمال التي تتنافي وطبيعة عضويته، في ضوء الرقابة الذاتية للمجلس وكذلك بالتعاون مع أجهزة الدولة الرقابية والتنفيذية الأخرى، مع الحفاظ على مبدأ الفصل بين السلطات، وذلك وفقا للفصل الحادي عشر من اللائحة الداخلية، وذلك كما يلي:
أحوال عدم الجمع: فحددت عدم جواز الجمع بين عضوية مجلس النواب والشيوخ او الحكومة او الأجهزة الرقابية أو مناصب رؤساء المحافظات ووظائف العمد والمشايخ، أو عضوية اللجان أو الجمع بينهما، لتحقيق مبدأ الفصل بين السلطات وعدم تعارض المهام الوظيفية.
الحصانة الموضوعية: عدم سؤال عضو المجلس عن أي آراء تتعلق بأعماله.
الحصانة الإجرائية: فلا يجوز غير في حالة التلبس اتخاذ أي إجراءات جنائية إلا بإذن سابق للمجلس، ويجوز التقدم برفع الحصانة عن العضو سواء من الهيئات القضائية أو النائب العام أو المدعي العام العسكري أو ممن يريد تقديم دعوى مباشرة ضد العضو مصحوبة بطلب الواقعة أو القضية المقيدة ضد العضو، مع إحالة الطلب لمكتب المجلس لدراسة طلب رفع الحصانة، ويجوز للعضو التقدم بناء على طلبه لسماع أقواله حتى قبل تقديم طلب ضده، وتكون دراسة الطلب للبت في عدم كيدية الأمر لمنع العضو من استكمال أعماله البرلمانية.
الجزاءات البرلمانية: وتأتي في حال إخلال العضو بمسؤولياته أو ارتكب أحد الأفعال المحظورة عليه، وذلك من خلال عدة ادوات تتمثل في “اللوم أو الحرمان من المشاركة في وفود المجلس طوال فترة الانعقاد، والحرمان من الاشتراك في أعمال المجلس لجلستين ولا تزيد على ١٠ جلسات، وذلك بموافقة أغلبية أعضاء المجلس، وتطبق في حالة ارتكاب العضو أحد أفعال إهانة رئيس الجمهورية أو إهانة المجلس أو أحد أجهزته أو استخدام العنف داخل حرم المجلس، وأخيرًا يمكن للمجلس إسقاط العضوية بموافقة ثلثي أعضاء المجلس.”
ولا يجوز تحقيق أي هذه الجزاءات إلا بعد سماع أقواله، ويجوز أن يحيله المجلس إلى لجنة القيم أو اللجنة التشريعية والدستورية أو أي لجنة خاصة أخرى. وحددت المادة ١٢ من اللائحة الداخلية أدوات اسقاط العضوية والمتمثلة في المادة ١١٠ في الدستور التي تنص على “لا يجوز إسقاط عضوية أحد الأعضاء إلا إذا فقد الثقة والاعتبار، أو فقد أحد شروط العضوية التي انتخب على أساسها، أو أخل بواجباتها، ويجب أن يصدر قرار إسقاط العضوية من مجلس النواب بأغلبية ثلثي أعضائه.”
وتلك الأدوات هي التي تم استخدامها مؤخرًا في رفع الحصانة البرلمانية عن النائب “مجدي الوليلي” بناءً على طلب من المستشار النائب العام للتحقيق معه في واقعة إصدار “شيك بدون رصيد” في القضية رقم 351 لسنة 2022، إداري باب شرق الإسكندرية. وذلك عقب انتهاء المدة الممنوحة للنائب لتسوية الأمر قبل ٩ يناير، لكنه لم يتمكن من التسوية فجاء رفع الحصانة حتى انتهاء التحقيقات. وينظم القانون عدم أحقية العضو التقدم مرة أخرى بأوراق ترشحه للمجلس في حال صدور حكم قضائي ضده. وهو ما يؤكد أن هذه الحصانة البرلمانية لا تجعل أيًا من النواب فوق المساءلة والمحاسبة، ولا تعد حائلًا بينه وبين العقاب حال الخروج عن النظام العام.
وتوصل مكتب المجلس إلى إحالة النائبة “نشوى رائف” إلى لجنة القيم للتحقيق معها فيما نُسب إليها من وقائع، وفقا لما أُثير حول واقعة غش النائبة أثناء تأديتها امتحانات الفصل الدراسي الأول للفرقة الثالثة بكلية الحقوق (انتساب) – جامعة الوادي الجديد، وإعداد تقرير للعرض على المجلس. هذا وينتظر حزب الوفد نتيجة التحقيقات للنظر في عضوية النائبة، أو إقامة دعوى تعويض عما لحق بها من أضرار مادية ومعنوية في حال ثبوت العكس. ومن المتوقع أن يقدم التقرير للعرض على المجلس للنظر إما في حفظه حال ثبوت عدم صحة الواقعة، أو اتخاذ أي من الاجراءات العقابية بداية من الحرمان من الجلسات أو المشاركة في أعمال المجلس وصولًا لإسقاط العضوية على النحو المذكور سابقًا.
كل هذه الإجراءات تعزز من تطبيق معايير الحوكمة والقضاء على الفساد، سواء من تحقيق الرقابة على أجهزة الدولة التنفيذية، أو تفعيل أدوات الرقابة الذاتية المتوازنة بين الحفاظ على حق النواب من الاتهامات الكيدية أو الترصد لهم، وبين اتخاذ إجراءات عقابية وتأديبية، حتى لا يكون هناك أحد فوق القانون، وأن الجهة التشريعية في مصر تلتزم قولًا واحدًا بالدستور والقانون رافعة شعار “لا احد فوق القانون”، وهو ما يصب في صالح تطبيق معايير مجابهة الفساد بأشكاله المختلفة، وهو الأمر الذي سينعكس على ثقة المواطن المصري في أجهزته الرقابية من ناحية، وضمان عدم إخلال الحكومة وأعضاء مجلس النواب بواجباتهم الدستورية للحفاظ على هيبة الدولة، ويصبح مجلس النواب معبرًا فعليًا عن الشارع المصري.