ما هي دلالات اعتماد واشنطن على سياسة “الضربات المحدودة” ضد الحوثيين؟
شنت الولايات المتحدة وبريطانيا هجوماً عنيفاً نسبياً على أهداف تابعة للحوثيين في اليمن في الساعات الأولى من يوم 12 يناير، وفي صباح اليوم التالي أشارت تقارير أمريكية إلى شن هجمات جديدة ضد التنظيم، فضلاً عن ضربات أخرى في 14 يناير استهدفت موقعاً للحوثيين في مديرية اللحية شمالي الحديدة المطلة على البحر الأحمر غربي البلاد، وقد ارتبطت أهمية وخصوصية هذه العمليات باعتبارين رئيسيين الأول يتمثل في كونها الرد العملياتي والهجومي الأول من الولايات المتحدة تجاه الحوثيين منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما تلاها من تداعيات على مستوى تنفيذ الحوثيين لمجموعة واسعة من العمليات التي استهدفت إسرائيل وكذا الملاحة البحرية في البحر الأحمر، أما الاعتبار الثاني فيتمثل في كون العمليات الأخيرة هي الأولى من نوعها منذ تشكيل تحالف “حارس الازدهار” في البحر الأحمر في 19 ديسمبر 2023، وقد طرحت هذه العمليات الأمريكية – البريطانية تساؤلاً رئيسياً حول تداعياتها المحتملة وما إن كانت ستدفع باتجاه اتساع رقعة الصراع في الشرق الأوسط، أم أنها قد تساهم في ردع الحوثيين.
أولاً- عمليات نوعية أمريكية – بريطانية
أشار بيان للقيادة المركزية الأمريكية “سنتكوم” إلى أن الولايات المتحدة وبريطانيا بدعم من أستراليا والبحرين وكندا وهولندا، نفذت ضربات مشتركة ضد أهداف للحوثيين، وهي الأهداف التي شملت مواقع عسكرية في العاصمة صنعاء، ومحافظات الحديدة وتعز وحجة وصعدة، ويوجد جملة من الملاحظات العملياتية الرئيسية الخاصة بالهجوم الأمريكي البريطاني، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
– ركزت العمليات على استهداف مراكز تصنيع مسيرات ومخازن أسلحة، بالإضافة لأنظمة الرادار وأنظمة الدفاع الجوي ومواقع التخزين والإطلاق للهجوم أحادي الاتجاه على الأنظمة الجوية بدون طيار وصواريخ كروز والصواريخ الباليستية، ما يعني أن العمليات ركزت فعلياً على استهداف القدرات العسكرية للحوثيين، والتي تدعم تنفيذ أهدافهم العملياتية العابرة للحدود سواءً جهة البحر الأحمر، أو جهة الجنوب الإسرائيلي.
– اتسمت العمليات الأمريكية البريطانية تجاه الحوثيين بالكثافة النسبية، إذ أشارت بعض التقديرات العسكرية إلى أن العمليات استهدفت نحو 28 موقعاً للحوثيين بإجمالي نحو 73 هدف من المواقع السالف ذكرها، وقد تم إطلاق صواريخ توماهوك التابعة للبحرية الأمريكية من سفن في البحر الأحمر، وغواصة واحدة على الأقل، كما شاركت أربع طائرات من طراز تايفون تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني في الضربات، باستهداف هدفين للحوثيين، حيث حلقت من قاعدة أكروتيري في قبرص، كما تم استخدام مدمرات مزودة بصواريخ موجهة تابعة للبحرية الأمريكية، لكن وعلى الرغم من هذه الكثافة النسبية للعمليات إلا أن تكلفتها والضرر الناتج عنها بالنسبة للحوثيين لا يزال محدوداً وفقاً للمعطيات المتاحة، إذ أنها أسفرت عن مقتل 5 أشخاص وإصابة 6 آخرين، بالإضافة لخسائر محدودة في القدرات القتالية للحوثيين.
– يعكس حجم الخسائر الضعيف نسبياً بالنسبة للقدرات القتالية للحوثيين، احتمالين رئيسيين، الأول هو وضع الحوثيين لهذه الجمات في اعتبارهم كسيناريو محتمل، ومن ثم قاموا بنقل بعض الأسلحة والمعدات المهمة، ومن بينها الصواريخ الباليستية قي مخابئ في مدينة صنعاء ذات الكثافة السكانية العالية، وهي المناطق التي ستتجنب الولايات المتحدة استهدافها، أما الاحتمال الثاني فيتمثل فيرتبط بما ذكرته بعض التقارير الأمريكية من توجيه الولايات المتحدة تنبيهاً للحوثيين بأنها ستقوم باستهداف بعض المواقع لهم، في مسعى لتقليل الأضرار وعدم استنفار رد فعل يفاقم التصعيد في البحر الأحمر.
– على الرغم من الإدانة الإيرانية للعمليات الأمريكية البريطانية الأخيرة تجاه الحوثيين واعتبارها أنها “مخالفة للقانون الدولي وانتهاكاً للسيادة اليمنية”، إلا أن بعض المؤشرات قد عكست أن العمليات الأخيرة ربما جاءت بالتنسيق مع إيران، أول هذه المؤشرات أن إيران سارعت إلى سحب سفينة “بهشاد” الاستخباراتية من البحر الأحمر في اليوم نفسه الذي بدأت فيه الضربات، وهى السفينة التي أشارت تقارير عديدة إلى أنها كانت تمد مليشيا “أنصار الله” بالمعلومات الخاصة بهوية ووجهة السفن التي تمر عبر مضيق باب المندب. كما أن الإعلام الإيراني حرص، بالتوازي مع الجولة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في المنطقة قبيل الهجمات، على الإشارة إلى أن رسائل أمريكية عديدة وصلت إلى طهران. وقد أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن ذلك فعلاً، في 13 يناير الجاري، عندما قال أن “الولايات المتحدة سلمت رسالة بشكل خاص إلى إيران بشأن جماعة الحوثي”، وهو افتراض يعكس حرص إيران على ضبط انخراط وكلائها في المنطقة في الحرب الجارية، ارتباطاً بمسعاها لعدم توسيع نطاق الحرب أو الانخراط فيه بشكل مباشر.
ثانياً- دلالات مهمة
حملت العمليات الأمريكية البريطانية تجاه الحوثيين في ضوء الحيثيات المتاحة عنها، وردود الفعل تجاهها، العديد من الدلالات المهمة، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- سعي أمريكي “للردع” وليس “الحرب”: يبدو أن الولايات المتحدة وبريطانيا استهدفا بشكل رئيسي من العمليات الأخيرة تحقيق عملية الردع المفقودة تجاه الحوثيين، وليس توسيع نطاق الحرب، وهو السيناريو الذي تتجنبه الولايات المتحدة منذ السابع من أكتوبر 2023، وقد عبر عن هذا المسعى الأمريكي جملة من الاعتبارات المهمة، أولها التصريحات السياسية للرئيس جو بايدن في أعقاب العملية والتي أكد فيها على أن “مثل هذه العمليات سوف تستمر إذ واصل الحوثيين استهدافهم للملاحة البحرية”، أما الاعتبار الثاني فيتمثل في الانتقادات الواسعة التي وجهها نواب من الحزب الديمقراطي للعملية الأخيرة ما يعني عملياً تكبيل خيارات الرئيس “بايدن” فيما يتعلق بتوسيع نطاق التصعيد مع الحوثيين، والثالث يتمثل فيما ذكره المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي عن أن واشنطن تدرس إعادة الحوثيين إلى قائمة “التنظيمات الإرهابية الأجنبية” فيما يبدو أنه محاولة للضغط على الحوثيين عبر مسارين أحدهما سياسي والآخر عسكري متمثل في الهجمات الأخيرة، والرابع هو ما أكده بيان القيادة المركزية الأمريكية والذي أشار إلى أنه “لا علاقة لهذه الضربات بعملية حارس الازدهار” في مؤشر على عدم رغبة الولايات المتحدة في توسيع حدة ونطاق المواجهات.
2- تجاوز الحوثيين للخطوط الحمراء: كان الانتقاد الرئيسي الذي يُوجه إلى الولايات المتحدة منذ بداية تبني الحوثيين للتصعيد العملياتي ضد إسرائيل والبحر الأحمر في أعقاب 7 أكتوبر 2023، يتمثل في أن رد الفعل الأمريكي على هذه الهجمات الحوثية لا يرقي إلى مستوى تحقيق الردع لهذه لجماعة أنصار الله “الحوثيين”، وأن النهج الأمريكي هو الذي دفع الحوثيين إلى الإمعان في تصعيدهم، ومن هنا انتقلت الولايات المتحدة من مرحلة صد هجمات الحوثيين سواء بواسطة الطائرات من دون طيار أو بواسطة الصواريخ الباليستية إلى مرحلة توجيه ضربات استباقية تجاه البنية التحتية القتالية للحوثيين، في مسعى لتحقيق هدفين رئيسيين الأول هو ردع الحوثيين عن استهداف الملاحة في البحر الأحمر بإظهار التكلفة الكبيرة التي سيتحملها التنظيم نتيجة هذه الهجمات، والثاني يتمثل في تدمير البنى التحتية للميليشيا الحوثية بما يحول دون قدرتها على تنفيذ هذه الهجمات في البحر الأحمر، وحتى وإن لم يتحقق هذا الهدف عملياً إلا أن الولايات المتحدة أرادت إيصال رسائل بقدرتها على تحقيقه.
كذلك يبدو أن توجيه هذه الضربات للحوثيين يعكس في أحد أبعاده تجاوز الحوثيين للخطوط الحمراء التي رسمتها الولايات المتحدة فيما يتعلق بالتعامل مع هذا التهديد، بمعنى أن هجمات الحوثيين بدأت بالفعل في التأثير على حركة التجارة على المستوى الدولي، في ظل الأهمية الاستراتيجية التي تحظى بها هذه المنطقة، وما يفرضه ذلك من تداعيات سلبية سواءً على مستوى التأثير على أسعار نقل السلع وتكاليف الشحن والتأمين، وربما يكون له تأثير على أسعار النفط، الجدير بالذكر أنه وفي أعقاب هذه الهجمات ارتفعت أسعار النفط أكثر من 2%، فيما يبدو أنه ارتفاع جاء على خلفية تركز الثروات النفطية في المنطقة، وارتفاع احتمالات التوتر وتفاقم التصعيد.
3- تحركات مهدت للعملية الأخيرة: جاءت الهجمات الأمريكية البريطانية تجاه الحوثيين بعد أيام من تبني مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة لقرار لتأييد 11 عضواً وامتناع 4 عن التصويت، يدين الهجمات التي شنها الحوثيون على السفن التجارية وسفن النقل في البحر الأحمر ويطالب بالوقف الفوري لجميع هذه الهجمات، ويبدو أن هذا القرار مثل القاعدة الشرعية الدولية التي استندت إليها الولايات المتحدة في تنفيذ عملياتها الأخيرة، كذلك فقد جاءت الهجمات في أعقاب هجوم نفذه الحوثيين في البحر الأحمر في 9 يناير الجاري، وصفته بريطانيا بأنه “الأكبر” منذ بدء حرب غزة، وقالت القيادة المركزية الأمريكية في هذا الصدد أن قوات تابعة للولايات المتحدة وبريطانيا أسقطت 18 طائرة مسيرة وصاروخاً أطلقها حركة الحوثي اليمنية على جنوب البحر الأحمر باتجاه الممرات البحرية الدولية، ما تسبب في أضرار مادية وبشرية.
4- استعداد حوثي لهذه العمليات: بعيداً عن التقارير الأمريكية التي أفدات بإبلاغ الولايات المتحدة مسبقاً للحوثيين بهذه الهجمات، إلا أن هناك جملة من الاعتبارات التي حالت دون وقوع تكلفة عسكرية كبيرة بالنسبة للحوثيين نتيجة العمليات الأخيرة، ومنها أن الحوثيين في نهاية المطاف مجموعة مسلحة تعتمد في عملياتها على منصات إطلاق صواريخ يمكن تحريكها ونقلها بسهولة، بالإضافة لاستخدام أسلحة رخيصة لديهم القدرات التقنية والمالية لتصنيعها داخل اليمن، كذلك فإن الحوثيين عملوا في الفترات الأخيرة على توزيع مخابئ الأسلحة والقدرات العسكرية الخاصة بهم على كافة المناطق الخاضعة لسيطرتهم، خصوصاً في المناطق السكنية في صنعاء، وذلك بغية تحقيق هدفين رئيسيين الأول هو ردع الأطراف المناوئة داخلياً، والثاني هو كون هذا التحرك جاء كاستعداد لمثل هذه الهجمات بما يقلل من الخسائر الحوثية، أيضاً وفي ذات السياق فإن قيادات الصف الأول في الحوثيين تتحصن في بنى تحتية موجودة تحت الأرض ما يزيد من صعوبة استهدافهم.
في الختام يمكن القول إن العمليات الأمريكية البريطانية تجاه الحوثيين لم تستهدف بشكل رئيسي توسيع نطاق الحرب والمواجهة مع التنظيم، بقدر ما استهدفت إيصال بعض الرسائل السياسية المهمة وعلى رأسها استعادة الردع الاستراتيجي تجاه الحوثيين، والتأكيد على الحضور الأمني للولايات المتحدة في البحر الأحمر، وتغيير قواعد الاشتباك في البحر الأحمر ولفت انتباه الحوثيين إلى أن كل هجوم في البحر الأحمر سوف يتبعه رد أمريكي، لكن مدى قدرة هذه العمليات على ردع الحوثيين وإيقاف هجماتهم يظل أمراً محل شك وذلك في ضوء الارتباط الكبير بين هذه الهجمات وبين معركة الظل التي تديرها إيران مع الولايات المتحدة، فضلاً عن المكاسب السياسية التي تتحقق للحوثيين جراء هذا التصعيد خصوصاً على مستوى إعادة بناء قواعدهم الشعبية، وفي ضوء هذه الاعتبارات يبدو أن الحوثيين سوف يتجهون للحفاظ على وتيرة عملياتهم في البحر الأحمر خصوصاً استهداف البوارج والسفن الحربية الأمريكية والبريطانية، ويظل السيناريو الأخطر متمثلاً في توجه الحوثيين نحو توسيع نطاق هذا التصعيد عبر استهداف الحضور الأمريكي والبريطاني في بعض دول الجوار الخليجي.