أفريقياالقضية الفلسطينيةإسرائيل

بتهمة الإبادة .. قراءة في دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية

خلال 100 يوم من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فشلت أغلب المحاولات الرامية لوقف الحرب على قطاع غزة، لذلك كان البحث عن حل على الساحة الدولية لوقف الهجمات الإسرائيلية أمرًا ضروريًا، وكان من أبرز هذه التحركات هي التوجه للمحكمة الجنائية الدولية حيث قدمت العديد من الدول والمنظمات غير الحكومية إلى هذه المحكمة أدلة تدين إسرائيل، ولم تكن الجنائية الدولية منطلقا معقولا للتوصل إلى حل لعدد من الأسباب، منها هيكلها المترهّل، وعدم قدرتها على اتخاذ تدابير مؤقتة، واختصاص المحكمة المقتصر على الأشخاص فقط، وأخيرًا أن كريم خان المدعي العام للمحكمة الجنائية قد تجاهل تلك الطلبات المدينة لإسرائيل.

ومن هنا اتجه العالم نحو محكمة العدل الدولية، الهيئة القضائية للأمم المتحدة، والتي من الممكن أن يؤدي تقديم طلب بها إلى إيجاد حلول أسرع وأكثر فعالية، قد تفضي في النهاية إلى إصدار حكم بإدانة إسرائيل بجرائم إبادة جماعية ومحاولة وقف الحرب على قطاع غزة.

تفاصيل الدعوة التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية

في 29 ديسمبر الماضي قدمت دولة جنوب أفريقيا بصفتها عضو في محكمة العدل الدولية طلبًا لبدء إجراءات ضد إسرائيل، بوصفها إبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، واستكمل الطلب بأن إسرائيل ترتكب الجرائم بالقصد المحدد المطلوب لتدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من القومية الفلسطينية الأوسع والمجموعة العرقية والاثنية. كما تشير الدعوى إلى أن السلوك الإسرائيلي من خلال أجهزة الدولة ووكلائها وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها، يشكل انتهاكًا لالتزاماتها تجاه الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.

وذكرت الدعوى أيضا أن إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 على وجه الخصوص فشلت في منع الإبادة الجماعية وفشلت في مقاضاة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية. كما أشارت إلى أن إسرائيل تورطت، وتتورط، وتخاطر بالتورط في المزيد من أعمال الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة. وطلبت جنوب أفريقيا من المحكمة الإشارة إلى تدابير مؤقتة من أجل حماية الفلسطينيين في غزة من أي ضرر جسيم إضافي وغير قابل للإصلاح بموجب الاتفاقية، ولضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعدم المشاركة في الإبادة الجماعية، ومنعها والمعاقبة عليها.

فيما انتقدت إسرائيل الطلب المقدم للمحكمة من قبل جنوب أفريقيا والتي تعد من الدول البارزة في دعم القضية الفلسطينية، والتي وجهت مرارًا انتقادات شديدة إلى القصف الإسرائيلي المدمر في قطاع غزة منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة في أكتوبر الماضي.

عقد أولى جلسات الاستماع في محكمة العدل الدولية

أعلنت محكمة العدل الدولية، أنها ستعقد أولى جلسات الاستماع في الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا على إسرائيل يومي 11 و12 يناير الجاري، وتعتبر هذه هي المرة الأولى التي تقام فيها دعوى قضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية. ومع اقتراب جلسات المحاكمة، أكدت هيئة البث الإسرائيلية، أن إسرائيل تخشى صدور أمر من محكمة العدل الدولية بوقف الحرب في قطاع غزة بعد الدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا.

وما مثل مفاجأة هو موافقة الحكومة الإسرائيلية على المثول أمام محكمة العدل الدولية إذ خرج إيلون ليفي، المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية، ليؤكد أن إسرائيل ستمثل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي لدحض اتهامات جنوب أفريقيا بارتكاب إبادة جماعية في الحرب مع حركة حماس في قطاع غزة.

ويمكن تحليل الأسباب التي دفعت إسرائيل إلى الموافقة ولأول مرة في تاريخها على المثول أمام محكمة العدل الدولية، حيث تنظر المحكمة في الدعاوى المقامة ضد الدول وليس ضد الأفراد كما هو الحال في المحكمة الجنائية الدولية، وهو الأمر الذي يعني أن إسرائيل كدولة هي التي ستحاكم وليس وزيرًا أو مسؤولًا، وبالتالي إذا صدر حكم ضدها سيكون وصمة أخرى، كما أن الأمر سيشكل لها حرجًا كبيرًا على المستوى الدولي، وحرجًا كبيرًا لأمريكا ولبعض الدول الأوروبية التي تقف إلى جانب إسرائيل في عدوانها على الشعب الفلسطيني.

كما أن هذه المحكمة لا يوجد بها (فيتو) كما في مجلس الأمن الدولي، إذ يوجد في مجلس الأمن (أمريكا، بريطانيا، فرنسا)، وهذه الدول يمكن أن تشكل غطاء لإسرائيل في مجلس الأمن الدولي، أما في محكمة العدل الدولية فلا يوجد لها أي تأثير على القضاة هناك، الأمر الذي يعني أنها مجبرة على الدفاع عن ذاتها. إضافة إلى أن الدعوى المقامة من جنوب أفريقيا تستند إلى تصريحات أدلى بها مسؤولون من الحكومة الإسرائيلية مدنيين وعسكريين، وأيضًا بعض البرلمانيين والحزبيين الإسرائيليين، سواء التصريحات المتعلقة بعملية تهجير الفلسطينيين من غزة إلى خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو تلك المتعلقة بإلقاء قنبلة نووية، أو تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يولاف غالانت، الذي قال فيها إنه لا ماء لا كهرباء لا وقود لا طعام ستدخل غزة.

تفاعل إسرائيل مع رفع الدعوى في محكمة العدل الدولية

يستشعر الداخل الإسرائيلي أن الدعوى القضائية خطرًا جسيمًا على علاقات تل أبيب الدبلوماسية، إذ بدأت تحركات فورية لكيفية الحصول على دعم دولي، وأصدرت وزارة الخارجية الإسرائيلية تعليمات لسفاراتها بالضغط على الدبلوماسيين والسياسيين في البلدان المضيفة لهم، لإصدار بيانات ضد قضية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية التي تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة.

وقد تسربت برقية مرسلة للسفارات الإسرائيلية تكشف خطة العمل الدبلوماسية الإسرائيلية قبل جلسة محكمة العدل الدولية، تتضمن ممارسة ضغط دولي على المحكمة لعدم إصدار أمر قضائي يأمر إسرائيل بتعليق حملتها العسكرية في غزة. وذكرت البرقية أن الهدف الاستراتيجي لإسرائيل هو أن ترفض المحكمة طلب إصدار أمر قضائي، والامتناع عن تحديد أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، والاعتراف بأن الجيش الإسرائيلي يعمل في القطاع وفقًا للقانون الدولي. وورد في البرقية التي نشرت، قد يكون لحكم المحكمة آثار محتملة كبيرة ليس فقط في العالم القانوني، بل لها تداعيات عملية ثنائية ومتعددة الأطراف واقتصادية وأمنية.

بالتزامن مع التحركات الدبلوماسية، صدرت تعليمات للسفارات الإسرائيلية بأن تطلب من الدبلوماسيين والسياسيين على أعلى المستويات الاعتراف علنًا بأن إسرائيل تعمل جنبًا إلى جنب مع الجهات الفاعلة الدولية على زيادة المساعدات الإنسانية لغزة، فضلًا عن تقليل الأضرار التي تلحق بالمدنيين.

ما جاء في جلسة الاستماع الأولى من قضية إسرائيل في محكمة العدل الدولية

بدأت أولى جلسات محكمة العدل الدولية اليوم الخميس 11 يناير في مقر المحكمة في لاهاي، بحضور 17 قاضي، منهم 15 قاضي أساسي في المحكمة، وقاضي من كل طرف (جنوب أفريقيا – إسرائيل). ومن المفترض أن تقوم إسرائيل في الجلسة الأولى بالاستماع لجنوب أفريقيا، وفي الجلسة الثانية التي تعقد غدًا الجمعة سيكون لإسرائيل حق الرد، ومن المرجح أن تستغرق القضية الكاملة – سنوات. ومع ذلك، يمكن إصدار إجراء مؤقت في غضون أسابيع.

وفيما يتعلق بأبرز ما جاء في جلسة الاستماع الأولى، فقد أكدت عديلة حاسيم عضو فريق الدفاع بجنوب أفريقيا في كلمتها على أن إسرائيل هاجمت وقتلت الفلسطينيين في غزة برًا وجوًا وبحرًا وارتكبت معظم صور الجرائم في اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية. وأكدت أن هذه الخروقات مفصلة في الطلب الذي تقدمت به جنوب أفريقيا بأن ما تقوم به إسرائيل يشكل خرقًا للفقرة أ من الميثاق بحسب ما صرح به الأمين العام للأمم المتحدة.  وذكرت أن الفلسطينيين في غزة يُقصفون أينما ذهبوا وأينما لجأوا وحتى في محاولة فرارهم، كما تعرضوا للنزوح والتهجير القسري.

وشددت على أن غزة تحولت إلى مقبرة للأطفال على حد وصف الأمم المتحدة، وفُرضت أوامر الإخلاء والتهجير من الشمال إلى الجنوب بدون تقديم أي مساعدة إنسانية مع قطع متطلبات الحياة عن قصد، بهدف تهجير الفلسطينيين وتدميرهم.

وقد أشارت إلى أن إسرائيل انكرت مسؤوليتها عن الأزمة الإنسانية التي خلقتها والتهديد بحدوث مجاعة في قطاع غزة، وكما أوضح الأمين العام للأمم المتحدة أن المشكلة الحقيقية أن إسرائيل تقوم بعملياتها التي تعرقل إيصال المساعدات الإنسانية. وفي النهاية أكدت على أنه في حال لم تتخذ المحكمة إجراءات، سيكون هذا تجاهل كامل للعدالة التي بنتها، حيث إن كل مخاطر التدمير اليوم الذي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة يوميًا، تشير إلى ضرورة اتخاذ إجراءات.

ووفقًا لسفير جنوب إفريقيا في هولندا إن بلاده تضع أعمال الإبادة الجماعية الإسرائيلية وسوء التصرف في سياق أوسع من الفصل العنصري الإسرائيلي الذي دام 25 عامًا، والاحتلال الذي دام 76 عامًا، والحصار الذي دام 16 عامًا على قطاع غزة.

وخلال الجلسة اعترفت جنوب إفريقيا بالنكبة المستمرة للشعب الفلسطيني من خلال الاستعمار الإسرائيلي منذ عام 1948، الذي أدى بشكل منهجي وقسري إلى تجريد الشعب الفلسطيني من ممتلكاته وتشريده وتجزئته، وحرمانه عمدًا من حقه المعترف به دوليًا وغير القابل للتصرف في تقرير المصير، وحقه المعترف به دوليًا بعودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم فيما يعرف الآن بدولة إسرائيل.

مدى إلزامية الإحكام الصادرة عن محكمة العدل الدولية

فيما يتعلق بمدى إلزامية الأحكام الصادرة عن محكمة العدل الدولية، فتجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد أي إلزام على الدول لتنفيذها، لكن في حال لجأت الدول المتنازعة إلى الامتثال لقراراتها بهدف حل الخلافات فيما بينها تصبح إلزامية. ولا يمكن لأي طرف كان إجبار أي دولة على اللجوء إلى محكمة العدل الدولية والالتزام بقراراتها ما لم ترغب تلك الدولة بذلك. وتختص محكمة العدل الدولية بالقضايا المرتبطة بالدول الأعضاء التي يبلغ عددها 191 دولة، أو المنظمات الدولية، بينما تختص المحكمة الجنائية الدولية بالقضايا المتعلقة بالأشخاص أو الجماعات.

وفي حال قررت محكمة العدل الدولية أن إسرائيل انتهكت اتفاقية الإبادة الجماعية، فيمكنها أن تقرر إنهاء الاحتلال في غزة، والاعتراف بالإبادة الجماعية، وتعويض سكان غزة عن خسائرهم.

ولكن تجدر الإشارة إلى أن دوافع إسرائيل للمشاركة في جلسات الاستماع هو أن تدافع عن صورتها أمام المجتمع الدولي، ومحاولة الإثبات أن جنوب أفريقيا والدول المؤيدة لدعوتها مثل تركيا وبوليفيا والأردن وماليزيا يقدمون اتهامات لا أساس لها من الصحة. كما أن إسرائيل هل أحد الدول الموقعة على المعاهدة المرتبطة بالإبادة الجماعية، وبالتالي فإذا أدانت المحكمة إسرائيل وأثبتت أنها انتهكت المعاهدة الدولية المرتبطة بالإبادة الجماعية، سوف يتم إصدار حكم ضد إسرائيل للمرة الأولى في تاريخها من قبل محكمة العدل الدولية، وسيكون هناك ضغوط دولية لتنفيذها، وهو ما لا تريده إسرائيل.

وعلى غرار المحكمة الجنائية الدولية التي تقاضي أشخاص فقط، والتي لم تحظى باهتمام إسرائيلي كبير نظرًا لأنها لا تمس دولة إسرائيل وإنما أشخاص معنيين بأفعال الإبادة فقط، فإن محكمة العدل الدولية تقاضي دول بأكملها وهو ما سيؤثر على صورة إسرائيل دوليًا، وسيُمارس عليها ضغوط بسبب أي حكم صادر عن المحكمة الدولية ضدها.

وحول إمكانية إيقاف الحرب على قطاع غزة في حال صدر قرار من محكمة العدل الدولية، يمكن التأكيد على أن فكرة إدانة دولة الاحتلال إسرائيل في محكمة العدل الدولية هو مؤشر إيجابي في جميع الأحوال، حيث يمكن اعتبار أن الأحكام الصادرة عن محكمة العدل الدولية هو تحرك فعال من أجل وقف الحرب على قطاع غزة.

وفي هذا السياق يمكن القول بأنه من الناحيةالإجرائية، فإن إصدار حكم ضد إسرائيل قد يؤثر على وقف الحرب على قطاع غزة إذا ثبٌت تورط إسرائيل بجرائم إبادة جماعية وفقًا لقضاة المحكمة، ووفقًا لأدلة التي قدمتها جنوب أفريقيا في جلسة الاستماع، والتي هي عبارة عن فيديوهات لجيش الاحتلال يرتكب جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية، والتي نشرها جيش الاحتلال بنفسه، ولذلك فإنه من الناحية القانونية فإن تلك الأدلة تدين إسرائيل وتوجب على المحكمة فرض عقوبة عليها.

لكن من الناحية السياسية، فمن المتوقع أن إسرائيل سوف تعمل على استمالة الأطراف المختلفة من أجل رفض أي حكم صادر عن المحكمة يدينها والتشكيك فيه وفي صحته. كما أن المحكمة ليس لها أي سلطة أو آلية تنفيذية حقيقية، وفي حال لم تنفذ إسرائيل قرارات المحكمة وفقًا لما هو متوقع، فيمكن لجنوب أفريقيا أن تتوجه إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتنفيذ القرار.

وفي مجلس الامن تتمتع الولايات المتحدة، الداعم الأول لإسرائيل، بحق النقض (الفيتو) كعضو دائم. ويمكن لواشنطن أن تحمي إسرائيل من العقاب، كما فعلت عدة مرات في هذه الحرب. ومنذ عام 1945، حيث استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد 34 من أصل 36 مشروع قرار لمجلس الأمن المتعلقة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

مريم صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى