زيارة الرئيس محمود عباس إلى مصر: دلالات التوقيت والأهمية
وصل الرئيس الفلسطيني محمود عباس اليوم إلى القاهرة، وذلك لإجراء مباحثات رسمية مع الرئيس عبد الفتاح السيسي حول تطورات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتطورات الخاصة بالقضية الفلسطينية بشكل عام، في ضوء التهديدات الوجودية التي تفرضها الحرب الحالية على القضية الفلسطينية، خصوصاً في ظل المخططات الإسرائيلية الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية وتفريغها من مضمونها، وهي المخططات التي تم ترجمتها عملياً من خلال سياسات التهجير القسري للشعب الفلسطيني، فضلاً عن ما يُعرف بـ “سيناريوهات اليوم التالي”، وقد كانت الدولة المصرية منذ اليوم الأول للتصعيد تتعامل مع الحرب الحالية وفق مقاربة متعددة الأبعاد، انطلقت من ثوابت رئيسية تتمثل في رفض كافة الممارسات والأطروحات الإسرائيلية انطلاقاً من كونها تمثل تصفية للقضية الفلسطينية قبل أن تكون تهديداً للأمن والسيادة في مصر، وفي هذا السياق تحظى زيارة أبومازن لمصر بأهمية كبيرة في ضوء بعدين أساسيين، الأول يرتبط بتوقيتها الملئ بالتطورات على مستوى القضية الفلسطينية، والثاني يرتبط بكونها تأكيداً على حالة التنسيق الكبيرة المصرية الفلسطينية تجاه التطورات الأخيرة، وهو التنسيق المصري الذي شمل كافة القوى الوطنية الفلسطينية.
أولاً- سياق الزيارة وأهمية التوقيت
ترتبط أهمية زيارة الرئيس محمود عباس إلى القاهرة في أحد أبعادها بكونها تأتي في سياق يشهد العديد من التطورات المهمة على مستوى القضية الفلسطينية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- استمرار مخططات التهجير الإسرائيلية: تأتي زيارة الرئيس محمود عباس إلى القاهرة، وما سيتخللها من مباحثات في ظل استمرار مخططات التهجير الإسرائيلية لسكان قطاع غزة، وهي التحركات التي ركزت على التهجير القسري عبر آلية التجويع من خلال تعطيل وصول المساعدات لبعض مناطق القطاع، فضلاً عن استمرار عمليات القصف العنيف على عدد من مناطق قطاع غزة خصوصاً في شمال القطاع وساحل غزة، وكذا الجنوب الذي يشهد تكدساً كبيراً للفلسطينيين، بالإضافة إلى شروع إسرائيل وفقاً لعدد من التقارير التي أوردتها مواقع مثل “أكسيوس” و”تايمز أوف إسرائيل” في مباحثات مع بعض الدول الأفريقية كرواندا والكونغو لتقديم إغراءات مالية للقبول بالتهجير الطوعي للفلسطينيين، وهي التحركات التي اقتضت تنسيقاً مصرياً فلسطينياً كبيراً.
2- جهود مصرية كبيرة لتقديم آلية لوقف الحرب: تأتي هذه الزيارة في إطار تحركات مصرية مكثفة خلال الفترات الماضية لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو ما تجسد في عدد من المؤشرات الرئيسية سواءً ما يتعلق بتقديم الدولة المصرية لمقترح لكافة الفاعلين في المشهد وأطراف الحرب الرئيسية خاص بوقف إطلاق النار، فضلاً عن تأكيد مصر في كافة المباحثات التي استضافتها في الفترة الأخيرة مع مسؤولين دوليين وإقليميين بالإضافة إلى ممثلي القوى الفلسطينية سواءً منظمة التحرير أو حركتي حماس والجهاد الإسلامي، على رؤيتها بخصوص “اليوم التالي” أو مستقبل قطاع غزة في مرحلة ما بعد الحرب، بالإضافة إلى استمرار الجهود المصرية الخاصة بإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وفي هذا السياق ترتبط أهمية الزيارة بمناقشة هذه الجهود المصرية واستمرار حالة التنسيق والتوافق المصري الفلسطيني بخصوص هذه الملفات المهمة.
3- الجولة الشرق أوسطية لوزير الخارجية الأمريكي: تأتي زيارة الرئيس محمود عباس إلى مصر، في ثنايا الجولة الشرق أوسطية لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، والتي بدأت من تركيا وستشمل أيضاً الأردن والقاهرة ورام الله، وهي الجولة التي تأتي بالتزامن مع متغيرات نسبية شهدها الموقف الأمريكي في الفترات الماضية، وهو ما يتجسد في تشديد إدارة الرئيس الأمريكي على ضرورة إنهاء الحرب قبيل نهاية الشهر الجاري، فضلاً عن تشديد الولايات المتحدة على رفض التهجير القسري للفلسطينيين ورفضها إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزة، جنباً إلى جنب مع العديد من الانتقادات التي وجهتها الإدارة الأمريكية لإسرائيل نتيجة جرائمها في قطاع غزة، وفي هذا السياق يوجد حاجة إلى تنسيق المواقف المصرية الفلسطينية وبناء رؤى مشتركة يتم إيصالها للجانب الأمريكي في ثنايا المباحثات التي ستتم معه على هامش زيارة “بلينكن”، كذلك يُرجح أن يتم تقديم رؤية مصرية فلسطينية في هذا الصدد خاصة بوقف إطلاق النار، ومستقبل قطاع غزة في مرحلة ما بعد الحرب.
4- مؤشرات إيجابية بخصوص التوافق الفلسطيني: شهدت الفترات الماضية مؤشرات وتطورات مهمة ونوعية على مستوى بناء حالة من التوافق الوطني الفلسطيني، وهو ما تجسد في تصريحات متبادلة من قبل مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية الذين أشاروا إلى انفتاحهم على بناء حالة توافق وطني فلسطيني، ومسؤولي الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، الذين أشاروا في أكثر من مناسبة إلى ضرورة توحد كافة القوى الفلسطينية، وانفتاحهم على ذلك، وهو ما تجسد في تصريحات أخيرة لإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والتي رحب خلالها ببناء سلطة فلسطينية موحدة.
ثانياً- ثوابت مصرية تجاه القضية الفلسطينية
يتمثل المحور الثاني الذي ترتبط به أهمية زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى مصر، في كون الزيارة تمثل استمراراً لحالة التنسيق المصرية الفلسطينية الكبيرة منذ بداية الحرب الحالية، فضلاً عن تأكيدها على محورية الدور المصري تجاه القضية الفلسطينية، وفي هذا السياق كانت المقاربة المصرية تجاه التطورات في قطاع غزة، مستندة إلى جملة من المحددات الرئيسية، وذلك على النحو التالي:
1- سردية مصرية واضحة في مواجهة إسرائيل: ارتبطت أهمية الموقف والمقاربة المصرية تجاه التصعيد الراهن، في أحد أبعادها بفكرة “السردية”، بمعنى الرواية والقراءة المصرية للأحداث، حيث أكدت الدولة المصرية منذ اليوم الأول للحرب في السابع من أكتوبر 2023، على جملة من الثوابت المهمة في هذا الصدد، أولها أن عمليات السابع من أكتوبر جاءت في إطار رد الفعل على السياسات المتوحشة التي تبنتها سلطة الاحتلال المتطرفة في السنوات والأشهر الأخيرة، خصوصاً ما يتعلق باستمرار الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، والسعي لفرض واقع جديد يحول دون خلق عملية سلام عبر توسيع سياسات الاستيطان، وكذا استهداف المقدسات الفلسطينية، كذلك أكدت الدولة المصرية منذ اليوم الأول للحرب على أن ما يحدث هو حرب إبادة جماعية تتم بحق الشعب الفلسطيني، وقد تبنت مصر هذه السردية وروجت لها في كافة المحافل الدولية، الأمر الذي ساهم بدوره في بناء وتغيير مواقف الرأي العام الدولي تجاه التطورات في فلسطين.
2- رفض مصري لمخططات تصفية القضية الفلسطينية: “التهجير بالنسبة لنا خط أحمر ولن نقبله أو نسمح به، سواءً تجاه مصر أو الأردن، ولن نقبل بمنهج العقاب الجماعي وارتكاب المجازر كوسيلة لفرض واقع على الأرض بما يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهجير الشعب الفلسطيني والاستيلاء على الأرض”، كانت هذه هي الكلمات التي أكد عليها الرئيس عبد الفتاح السيسي في فعالية دعم فلسطين باستاد القاهرة الدولي في 23 نوفمبر 2023، وقد عبرت هذه الكلمات عن فلسفة الموقف المصري الرافض لمخططات تصفية القضية الفلسطينية، حيث جاء الموقف المصري منطلقاً بشكل رئيسي من رفض مخططات التهجير انطلاقاً من كونها تمثل تصفية للقضية الفلسطينية، كذلك أكدت رسائل “السيسي” على أن الموقف المصري الرافض للتهجير يرفض هذا الطرح إجمالاً من حيث المبدأ، بمعنى أنه لا يقتصر على رفض تهجير الفلسطينيين إلى مصر فقط، وإنما هو رفض لتهجير الفلسطينيين إلى أي دولة سواءً بشكل قسري أو طوعي، على اعتبار أن ذلك يمثل تصفية للقضية الفلسطينية، وتفريغاً لها من مضمونها، كذلك أكدت تصريحات “السيسي” ومواقف مصر المعلنة منذ اليوم الأول للتصعيد، على إدراك مصر لكون هذا التصعيد الوحشي الغير مسبوق تجاه قطاع غزة يستهدف في أحد أبعاده مسألة التهجير بشكل رئيسي، بما يتجاوز حتى حدود الرد على عمليات السابع من أكتوبر.
وينصرف الموقف المصري الرافض لمخططات التهجير للشعب الفلسطيني كذلك إلى مسألة “اليوم التالي”، إذ أكدت مصر عبر مؤسسة الرئاسة والمؤسسة الدبلوماسية المصرية وأجهزتها المعنية، على رفض الأطروحات الإسرائيلية الخاصة باليوم التالي، وأكدت على أن مستقبل قطاع غزة والقضية الفلسطينية بشكل عام هو بيد الفلسطينيين فقط، ويقوم الموقف المصري في هذا الصدد على ركائز أساسية أولها هو رفض أي أطروحات إسرائيلية بهذا الخصوص ورفض أي تواجد عسكري أو سياسي لإسرائيل في غزة بعد الحرب، وثانيها وأهمها هو ضرورة توحيد الأراضي الفلسطينية في القدس والضفة وقطاع غزة ووضعها تحت سلطة فلسطينية موحدة تنتج عن توافق وطني فلسطيني.
3- سياسة الإغاثة الإنسانية للأشقاء: ركزت المقاربة المصرية تجاه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب على البعد الإنساني باعتباره أحد الأبعاد الرئيسية التي تركز عليها الدولة المصرية، وقد جاء هذا التركيز المصري على الملف الإنساني في ضوء مركزية الدور المصري تجاه القضية الفلسطينية، وسياسات الإسناد والتضامن التي تبنتها الدولة المصرية تاريخياً تجاه الأشقاء في فلسطين، وفي هذا السياق يستمر دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة وفي يوم أمس 6 يناير 2024 تم إدخال 125 شاحنة مساعدات إلى قطاع غزة، فضلاً عن 4 شاحنات وقود، بالإضافة إلى إقامة 300 خيمة بمنطقة جنوب خان يونس في قطاع غزة، ليصبح الإجمالي حتى الآن 600 خيمة لنجدة النازحين، جنباً إلى جنب مع استمرار استقبال العالقين والمصابين من الجانب الفلسطيني.
وفي الحتام يمكن القول إن زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى مصر ومباحثاته مع الرئيس عبد الفتاح السيسي تأتي في إطار المشاورات والمباحثات المكثفة المصرية الفلسطينية منذ اليوم الأول للحرب الجارية، فضلاً عن كونها تمثل تأكيداً على محورية الدور المصري في هذا الصدد، جنباً إلى جنب مع تزامنها مع جملة من التطورات المهمة التي تشهدها القضية الفلسطينية، الأمر الذي عزز الحاجة إلى وجود رؤى مشتركة تجاه هذه التطورات.