بين خلية الموساد في تركيا وانفجار الضاحية الجنوبية ببيروت
يصعب تجاهل حالة التزامن بين ما أعلنت عنه السلطات التركية من القبض على 33 عنصرًا يشكلون خلية للموساد الإسرائيلي في تركيا وبين طبيعة هذه الخلية الوظيفية من حيث مد تل أبيب بمعلومات حول أجانب يقيمون على الأراضي التركية خصوصًا عن الفلسطينيين المقيمين في تركيا وأسرهم، وبين عملية اغتيال القيادي الحمساوي “صالح العاروري” التي نفذتها إسرائيل في الضاحية الجنوبية في بيروت، وهو ما ركزت عليه مختلف وسائل الإعلام، حول حالة التلاحق اللافت في الأحداث حيث وقعت عملية اغتيال العاروري بعد يوم واحد من القبض على الخلية بشكل ” استعراضي” في تركيا وبين طبيعة المعلومات التي كانت هذه الخلية توفرها للموساد الإسرائيلي، وأشارت بعض المؤشرات والتحليلات إلى أن المعلومات التي تم توفيرها عن مبنى الضاحية المستهدف ربما يكون قد تم الحصول عليها من خلية الموساد في تركيا.
ولو كان ذلك صحيحًا فإنها لن تكون المرة الأولى، فخلال يوليو من العام الماضي أرسل الموساد عناصره من ذوي الأصول العربية في إسطنبول، إلى لبنان وسوريا على وجه الخصوص، لجمع المعلومات الاستخبارية وتحديد المواقع التي يمكن أن تضربها المسيرات الإسرائيلية. وبحسب ما نشر، تمكن عملاء الموساد من تحديد الإحداثيات الدقيقة لمبنى تابع لـ “حزب الله” في حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، فضلاً عن هويات شخصيات عسكرية وسياسية رفيعة المستوى في الجماعة تقطن في الطابق الثالث من المبنى، كما تابع العملاء أهدافاً معينة، لمراقبة وتصوير اجتماعات فردية، وهي عملية أشرف عليها إسرائيلي من أصل عربي يدعى سليمان إغباريه.
لذلك تحركت أنقرة بشكل استباقي لتجنب أزمة أكبر مع إسرائيل إذا ما تم تنفيذ عملية اغتيال على أراضيها، وصرح بذلك رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “رونين بار”، في تسجيل بثته هيئة البث العامة الإسرائيلية، في ديسمبر الماضي، بأن إسرائيل ستلاحق قادة حركة حماس في لبنان وتركيا وقطر، حتى لو استغرق الأمر سنوات.
حقبة جديدة في التعامل مع الموساد
مثل التحرك التركي الأخير ضد عملاء الموساد حلقة في سلسلة عمليات سرية التي امتدت على مدار العامين الماضيين، حينما كشف جهاز المخابرات الوطنية التركية عن شبكات التجسس الإسرائيلية العاملة على الأراضي التركية. ووزعت المخابرات وأجهزة الأمن التركية صور العملاء السبعة الموقوفين، في يوليو الماضي، وبحسب المعلومات التي نشرتها وسائل الإعلام التركية نقلاً عن وثائق المخابرات، أنشأت هذه الخلية مواقع وهمية باللغة العربية بهدف جمع معلومات عن السير الذاتية للأشخاص، واستخدمت أرقام هواتف نقالة مزيفة من دول أوروبية وشرق آسيوية، مثل إسبانيا، وإنجلترا، وألمانيا، والسويد، وماليزيا، وإندونيسيا وبلجيكا، ووضعت على واجهة المواقع الوهمية إعلانات للعمل، لجذب الراغبين في التوظيف أو الاستفسارات، ومن ثم جمع معلومات استخبارية عنهم.
وحسب موقع The Cradle، يقول مسؤولون أمنيون أتراك إن تجنيد عملاء الموساد للمواطنين الأتراك يمثل انتهاكًا كبيرًا للأمن القومي التركي. إن الآثار المترتبة على مثل هذا الاختراق بعيدة المدى، حيث تتيح للموساد الوصول إلى معلومات حساسة حول أمن تركيا وقدراتها العسكرية ومكانتها الاقتصادية. كما تفتح هذه الخطوة الباب أمام عمليات سرية محتملة على الأراضي التركية، مما يشكل تهديدًا مباشرًا لسيادة تركيا.
وفي شهر مايو من عام 2023، كشفت استخبارات معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عن تفكيك شبكة الموساد التي كانت تقوم في المقام الأول بجمع المعلومات الاستخبارية عن الإيرانيين والفلسطينيين المقيمين في تركيا.
وتهدف خلايا التجسس هذه إلى جمع معلومات حساسة، مع التركيز في المقام الأول على الطلاب الفلسطينيين الذين من المحتمل أن يعملوا في المجالات المتعلقة بالدفاع في المستقبل، فضلاً عن الشخصيات والشركات الإيرانية المؤثرة.
هل كان العاروري في تركيا؟
أثارت عملية الاغتيال أيضًا حالة من الربط المنطقي بين أنقرة وقادة حماس بالنظر إلى ما نشرته هيئة البث الرسمية الإسرائيلية “كان”، حول أن نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري والذي يعيش في بيروت كان يتردد على تركيا من وقت لآخر. وعاش العاروري خلال السنوات الأخيرة في الضاحية الجنوبية في بيروت، والتي تتواجد بها مراكز قوى حزب الله، ومن هناك كان يعمل على تنسيق التعاون بين التنظيمات ونشاطات فرع حماس في لبنان.
وحسب هيئة البث الرسمية الإسرائيلية، فإن تردد العاروري على تركيا، عكس العلاقة القوية بين أنقرة وحماس، وذلك بشكل أساسي خلال أيام الحرب، وبدا وأن العاروري شعر بالأمان الكافي للبقاء على الأراضي التركية رغم تهديدات إسرائيل بتصفية قادة حماس في الخارج، حيث كانت هناك قمة وصفت بالسرية لقيادة حماس في تركيا، وترأس الاجتماع نائب قائد حماس صالح العاروري والقيادي الحمساوي خالد مشعل، ووصل العاروري الى تركيا من مقر إقامته الدائم في بيروت، في حين جاء خالد مشعل من مقر إقامته من العاصمة القطرية الدوحة. ويشار إلى أن العاروري كان يعيش في تركيا واضطر الى تركها بعد ضغوطات إسرائيلية- أمريكية وهو ما تنفيه السلطات التركية.
وعلى صعيد متصل أفادت وسائل إعلام إسرائيلية، نقلا عن مصادر مطلعة أن عددا من قادة حماس قاموا بمغادرة قطر مؤخرا. وحسب المصادر فان بعضهم غادر برفقة طواقم عملهم إلى الجزائر، بيروت ودول أخرى.
وتضع هذه العملية العديد من التساؤلات حول مستقبل العلاقات الإسرائيلية – التركية بعد عملية القبض هذه والتي نفذتها أنقرة بشكل يمكن وصفه بالمذل للجانب الإسرائيلي، خصوصًا أنها ليست العملية النوعية الأولى من تركيا ضد الموساد، فقد أصبحت هذه العمليات متواترة في السنوات الأخيرة، ومن جانب أخر تطرح العملية تساؤلات حول مستقبل قادة حماس سواء المقيمين في تركيا أو المقيمين في الدوحة ومصير تلك القيادات بعد عملية طوفان الأقصى خصوصًا أن بعض المصادر أشارت إلى أن تركيا على وجه التحديد قامت بترحيل بعض قيادات حماس.
مستقبل قادة حماس في تركيا وقطر
العامل الأساسي الحاكم في هذا السياق هو لأي مدى تستطيع الدول المضيفة تحمل الضغوط الأمنية والسياسية عليها والناجمة عن استضافة قادة حماس، هذا العامل كان يمثل إشكالية قبل عملية طوفان الأقصى ولكنه أصبح الآن يشكل أزمة أكبر للدول المضيفة خصوصًا أن الأمر قد ينجم عنه انتهاك للسيادة إذا ما قررت تل أبيب تنفيذ عملية اغتيال لواحد من هذه القيادات على أرض الدولة المضيفة وهو ما حذرت منه تركيا إسرائيل بالفعل قبل أيام من اغتيال العاروري في تصريحات رسمية توعدت فيها إسرائيل في حال إقدامها على اغتيال أية قيادة تابعة لحماس على الأراضي التركية مع وجود إشارات هنا من مصادر إعلامية وصفتها تركيا بالمضللة حول أن أنقرة كانت قد طليت من بعض قيادات حماس مغادرة أراضيها بعد اندلاع طوفان الأقصى.
إلا أن هناك تشكك بشأن عودة تركيا للانفتاح على استضافة قيادات من حماس لعدة أسباب، أولًا: لأنها لا ترغب في انتهاك سيادتها بأي عمل عدائي تنفذه إسرائيل ضد هذه الشخصيات وثانيًا لأن تركيا ومن جهة أخرى تريد مسك العصا من المتصف وعدم الإضرار بعلاقاتها مع واشنطن تحديدا التي أصبحت طرفا رئيسيا مع إسرائيل في ملاحقة قادة حماس حتى كان على مستوى العقوبات المالية. ولذلك يمكن الإشارة إلى أن وضع قيادات حماس في تركيا أشبه بمعادلة صفرية مما قد يوسع قائمة الاغتيالات في الخارج، بخاصة أن صالح العاروري ظل في تركيا لسنوات طويلة وكان مستهدفاً. وسبق وأن حذَّرت تركيا من تصفية العاروري على الأراضي التركية وطلبت إسرائيل قبل إتمام مصالحة “مرمرة”، وتطبيع العلاقات بالكامل مغادرته الأراضي التركية وهو ما تم، أما القيادات الأخرى الموجودة في لبنان فيبدو إن إسرائيل سيعملون على تصفية قادة حماس تباعاً ومن خلال رؤية أمنية واستخباراتية.
ونقلت التقارير الغربية، أن إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس، كان في اسطنبول عند تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023، لكن تم “إبعاده بأدب” بعد نشر لقطات على وسائل التواصل الاجتماعي تظهره وأعضاء آخرين في حماس يسجدون شكرا أثناء مشاهدة أخبار التوغل على التلفزيون وهو ما نفته مصادر تركية لكن هذا لا يتوافق مع إجراء مسؤولين في المخابرات التركية ووزارة الخارجية اتصالات مع حماس، كمسعى منهم لتعزيز دور تركيا في ملف الوساطة، لكن بدا أن هذا المسار لم يكتمل.
أما الوضع بالنسبة لقطر فهو مختلف، لأن الوصول إلى رجال “حماس” في لبنان سوريا أو تركيا إن بدا أنه أكثر سهولة، لكن الوصول إلى أعضاء المكتب السياسي في الدوحة شبه مستحيل، فمن الصعب أن تقدم تل أبيب عليه لذلك لم نجد تصريحات تخرج عن الدوحة لتحذر تل أبيب من تنقيذ عملية اغتيال على أراضيها، رغم أن خالد مشعل وإسماعيل هنية وخليل الحية وغيرهم من المقيمين في قطر، متواجدون على قائمة الاغتيالات الإسرائيلية، لكن مراقبون يرون أن قيام اسرائيل باستهداف قادة حماس في الدوحة لايزال أمرا بعيد المنال، وذلك لعدة أسباب أهمها دبلوماسي وهو حرص إسرائيل على عدم تعكير صفو العلاقة مع قطر، في ضوء أنها تشارك في عملية الوساطة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، كونها تستضيف المكتب السياسي لحركة حماس منذ عام 2012 وربما يعد هذا عاملًا أساسيًا في استبعاد الدوحة من أن تكون مسرحًا لتنفيذ الاغتيالات نظرًا لأنها اختارت منذ البداية أن تستضيف أعضاء المكتب السياسي بناءا على طلب أمريكي، وهو ما كشف عنه السفير القطري في واشنطن حين رد على انتقادات وسائل إعلام أمريكية وأعضاء في الكونجرس عن علاقة الدوحة بقادة حماس، بالتأكيد أن استضافة الدوحة لهم جاء بطلب من إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.
فضلًا عن ذلك قامت الدوحة بضخ ملايين الدولارات عبر المساعدات في غزة، على مدى السنوات الماضية، كما مثلت إحدى القنوات بالتنسيق مع إسرائيل لدفع اعانات شهرية لسكان القطاع ونظراً للأثر الكبير الذي خلفه طوفان الأقصى الذي قادته حماس، بدأت قطر تواجه عدم يقين أمريكي بشأن استمرارها في استضافة القيادة السياسية لحماس في الدوحة، لكنها بررت ضرورة ذلك باستمرار قدرتها على الوساطة ولكن هذا لا يعني عدم انفتاحها على خيارات أخرى في حالة انتهاء الحرب وإغلاق ملف الأسرى.
أثارت عملية اغتيال “العاروري”، هواجس أمنية لدى حماس نفسها التي أدركت أن تل أبيب قادرة على تنفيذ اغتيالاتها في بعض الدول ولكنها غير قادرة على تنفيذها في دول أخرى، ومن ثم يجب أن تكون هناك وقفة حول إذا ما كانت سوريا ولبنان لا تزالان تمثلان وجهتان آمنتان لأعضاء المكتب السياسي أو الجناح العسكري للحركة مع ضرورة ملحة لإيجاد بدائل خصوصًا أن تل أبيب لديها أجندة اغتيالات لا يمثل اغتيال العاروري فيها سوى الحلقة الأولى. عمومَا إذًا لم تعد تركيا الوجهة الأمثل لقادة حماس خاصة بعد أن أقدمت أنقرة على تقييد تحركاتهم على أراضيها وهو ما أكدته صحيفة هآرتس في تقرير لها أن تركيا فرضت قيودًا على قيادة حركة حماس الفلسطينية داخل أراضيها، وبدأت بالحد من تحركاتهم، مشيرًة إلى أن ذلك جاء على إثر التقارب الأخير مع إسرائيل وتبادل السفراء بين البلدين. وقال التقرير الذي أعدته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، إنه “بالرغم من عدم استجابة تركيا للمطلب الإسرائيلي القديم بطرد جميع أعضاء حماس من أراضيها؛ فإن المخابرات التركية بدأت بالحد من تحركات قادة حماس”. وأشار التقرير إلى أن “التحركات التركية طالت بشكل خاص صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس”، والذي تتهمه إسرائيل بالوقوف وراء تمويل العمليات المسلحة بالضفة الغربية.
وعلى الضفة الأخرى تبدو قطر أقل ترحيبًا من ذي قبل باستضافة أعضاء المكتب السياسي لحركة حماس ويستدل على ذلك بأنها بررت تواجدهم بدورها كوسيط وسط طول أمد الحرب وبقاء ملف الأسرى مفتوحًا مما يشي أنها قد تكون أكثر براجماتية في التعامل معهم بعد الحرب.
ومن هنا قد تظهر دول أخرى في المعادلة مثل إيران وسوريا، وحتى الجزائر التي قد تكون قادرة على استضافة قادة حماس على الأقل فيما يتعلق بمكتبها السياسي خصوصًا أنها كدولة مشتبكة مع القضية الفلسطينية وسعت أن تحدث اختراق في ملف المصالحة بين الفصائل الفلسطينية المختلفة.