القضية الفلسطينية

المجازفة الاضطرارية.. خلفيات وتداعيات اغتيال صالح العاروري

دخل اليوم الميدان الفلسطيني – والميدان اللبناني بطبيعة الحال – مرحلة جديدة في سياق التداعيات الإقليمية المصاحبة للعمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، المستمرة منذ أواخر شهر أكتوبر الماضي. تدشين هذه المرحلة جاء عبر هجوم بثلاثة صواريخ – يعتقد أنه تم باستخدام طائرة مسيرة- استهدف مكتب تابع لحركة حماس في منطقة “المشرفية” بالضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، في حدود السادسة مساء اليوم بالتوقيت المحلي، ما أسفر عن تدمير كامل لشقة سكنية تقع في الدور الثاني من مبنى يتكون من ثلاثة طوابق.

اتضح بعد ذلك أن هذه الشقة كانت تحتضن اجتماعًا لعدة قادة من فصائل فلسطينية متعددة، وأسفر الهجوم عن مقتل سبعة أشخاص، منهم قياديين اثنين بكتائب القسام، هما سمير فندي “أبو عامر”، وعزام الأقرع “أبو عمار”، بجانب نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، الذي أكدت حركة حماس وفاته، ليصبح العاروري بذلك أعلى مستوى قيادي في حركة حماس يتم اغتياله منذ بداية التصعيد الحالي في قطاع غزة. وعلى الرغم من عدم اتضاح ملابسات عملية الاغتيال بشكل يقيني، خاصة في ظل التضرر الشديد لسيارة كانت تقف في مكان بعيد نسبيًا عن موقع المبنى الذي تم استهدافه، إلا أن تأكيد مقتل العاروري، يحمل في طياته خلفيات متعددة وتداعيات مفصلية، لن تحدد فقط مسار العمليات الحالية في قطاع غزة، بل ربما تكون مفتاحًا إما لانفلات الأوضاع على المستوى الإقليمي، وتغيير قواعد الاشتباك الحالية، أو الاقتراب حثيثًا من إنهاء حالة التصعيد الحالية.

صالح العاروري .. الوصل بين الجناح العسكري والسياسي وطهران

ولد صالح محمد سليمان العاروري، في أغسطس 1966، وينحدر من بلدة “عارورة” قرب مدينة رام الله بالضفة الغربية، وانضم إلى حركة حماس بعد وقت وجيز من تأسيسها في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ويعتبر أحد القادة المؤسسين لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري للحركة، حيث انخرط في الأنشطة العسكرية الفلسطينية بعد اعتقاله للمرة الأولى إداريًا عام 1990 لنحو عام واحد، وهي الفترة التي شهدت تواصله مع قياديين بارزين بحركة حماس، منهم عادل عوض الله، ومن ثم بدأ العاروري برفقة آخرين في التأسيس لتنظيم مسلح في الضفة الغربية، على شكل مجموعات صغيرة تعمل في المناطق المختلفة للضفة، تحولت بعد ذلك لتكون جزء من كتائب القسام.

حقق العاروري في هذا الإطار نجاحات لافتة إلى أن تم اعتقاله للمرة الثانية عام 1992، ليقضي حكم بالسجن لمدة خمس سنوات، تم تمديده مرتين ليقضي خمسة عشر عامًا في السجن وتم الإفراج عنه عام 2007، وأعيد اعتقاله مرة أخرى وتم إطلاق سراحه عام 2011 ضمن صفقة تبادل تم بموجبها الأفراج عن مئات الأسرى الفلسطينيين، مقابل إطلاق حركة حماس الجندي “جلعاد شاليط” الذي أسرته الحركة عام 2006. واشترطت إسرائيل إبعاد العاروري لخارج الأراضي الفلسطينية، ومن ثم غادر إلى سوريا وظل يتنقل بينها وبين تركيا ودول أخرى، لكنه ظل على اتصاله بعناصر كتائب القسام العاملين في الضفة الغربية، وعاد أسمه إلى الواجهة في شهر أغسطس 2014، حين أعلن عن مسؤولية كتائب القسام عن عملية اختطاف ثلاثة إسرائيليين قرب مدينة الخليل بالضفة الغربية، أحدهم كان يحمل الجنسية الأمريكية.

أشعلت هذه العملية شرارة الملاحقة الأمريكية والإسرائيلية للعاروري، وهي الملاحقة التي بدأت عمليًا قبل ذلك التاريخ بسنوات، وتحديدًا عام 2003، حين صنفت وزارة العدل الأمريكية العاروري كـ “متآمر” في قضية تتعلق بتمويل الإرهاب، لارتباطه بثلاثة من عناصر حركة حماس كان يتواجدون في مدينة شيكاغو الأمريكية، ثم صنفت وزارة الخزانة الأمريكية العاروري في سبتمبر 2015 “إرهابيا دوليًا وممول رئيس لخلايا حركة حماس العسكرية”، وفرضت عليه عقوبات مالية، علمًا أنه في شهر نوفمبر 2018 عرض برنامج “المكافآت من أجل العدالة” التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، مكافأة تصل إلى 5 ملايين دولار مقابل معلومات عنه وعن مكان تواجده.

اضطر العاروري برفقة آخرين لمغادرة تركيا عام 2015، بعد أن طلبت إسرائيل من تركيا ذلك كجزء من اتفاق التهدئة بين تل أبيب وإسطنبول على خلفية قضية “سفينة مرمرة”، وانتقل لفترة وجيزة إلى قطر وظل هناك لمدة عامين، ثم انتقل إلى لبنان، حيث ظل في الضاحية الجنوبية لبيروت حتى اغتياله اليوم، وعلى الرغم من المحاولات الأمريكية والإسرائيلية العديدة لتتبع العاروري وملاحقته، ألا إنه ظل يتنقل بحرية بين لبنان ودول أخرى، بل انه زار في عام 2018 قطاع غزة بشكل استثنائي، خاصة بعد تكريس دوره في حركة حماس بانتخابه عام 2017 كنائب رئيس المكتب السياسي للحركة.

منذ ذلك التوقيت برز أسمه في كافة المواجهات التي خاضتها الفصائل الفلسطينية مع إسرائيل، خاصة معركة “سيف القدس” عام 2021، التي شهدت بوادر التنسيق الميداني بين الجبهات المختلفة المحيطة بإسرائيل، وهو ما تكرس بشكل أو بآخر خلال المواجهة الحالية، وحقيقة الأمر أن أدوار العاروري المتعددة، والتي اختلط فيها الجانب السياسي بالجانب العسكري، كرست موقعه كأحد أهم الشخصيات القيادية في حركة حماس، حيث يمكن تلخيص دوره في النقاط التالية:

أ- تطوير استراتيجية القتال في الضفة الغربية: عمل العاروري منذ سنوات طويلة على استحداث استراتيجية ميدانية لتنفيذ العمليات في الضفة الغربية، من خلال تنفيذ العمليات المنفردة والمحدودة والمكثفة في آن واحد، والتي لا تحتاج إلى آليات معقدة للتخطيط أو التنفيذ ولا تتطلب معدات خاصة أو تجهيزات يمكن رصدها، وهو ما أثمر عن تصاعد واضح في مستوى العمليات التي تستهدف القوات الإسرائيلية في مناطق الضفة الغربية، خاصة الحواجز العسكرية والأرتال التي تقتحم بشكل دوري المدن والمخيمات في الضفة. والواقع أن هذا الدور بالتحديد، بالإضافة إلى زيادة مستوى ونطاق العمليات في الضفة الغربية عام 2023، كانا سببًا في بدء تناول إمكانية اغتيال العاروري في شهر أغسطس الماضي، حين فوضت الحكومة الإسرائيلية، رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع، يوآف غالانت، بمهاجمة منفذي العمليات في الضفة الغربية ومن يصدر لهم الأوامر ويمولهم، وهو القرار الذي تم اعتباره حينها بمثابة تهديد باغتيال كبار المسؤولين في حركة حماس وبشكل خاص العاروري، الذي تم اعتباره في السنوات الأخيرة بمثابة “قائد الجناح العسكري لحركة حماس في الضفة الغربية”.

ب- تأمين التعاون والاتصال بين حركة حماس وحزب الله: مكنت إقامة العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت منذ عام 2018، من أن يقيم علاقات وثيقة مع حزب الله في لبنان، خاصة في ظل اتخاذه من الضاحية الجنوبية – معقل الحزب اللبناني – مقرًا رئيسًا له. هذه العلاقات لم توفر فقط أرضية ميدانية وإدارية للتنسيق بين الجانبين في المواجهات التي تمت لاحقًا بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، مثل مواجهة “سيف القدس” عام 2021، بل أيضًا ساهمت بشكل تدريجي في إغلاق الفجوات التي تكونت في العلاقة بين الجانبين على خلفية موقف حركة حماس من الأحداث التي شهدتها سوريا عام 2011، والتي تسببت لسنوات في توتر العلاقات بين سوريا وحركة حماس.

ج- إدارة جوانب مهمة من العلاقات الدولية لحركة حماس: تمركز العاروري في لبنان، مكنه من الإشراف على تواصل حركة حماس مع عدة دول وحركات وجماعات خاصة إيران، وهو ما يمكن النظر إليه كعنصر مساعد للتحركات التي قام بها رئيس المكتب السياسي للحركة، إسماعيل هنية، خلال الفترة الأخيرة منذ تمركزه في العاصمة القطرية الدوحة.

رسائل عملية اغتيال العاروري

من حيث المبدأ، كانت نوايا تل أبيب فيما يتعلق باغتيال صالح العاروري واضحة بشكل كبير، حيث ربطت المستويات شبه الرسمية والإعلامية والصحفية في إسرائيل بين العاروري وهجوم السابع من أكتوبر الماضي، خاصة أن العاروري كان قد تحدث في منتصف سبتمبر الماضي عن وجود احتمالات جدية لدخول حركة حماس في مواجهة شاملة مع إسرائيل، قد تشمل نطاقات أخرى بالإضافة إلى النطاق الفلسطيني، وهو ما تمت ترجمته – بشكل أو بآخر – في عملية السابع من أكتوبر. يضاف إلى ذلك أن العاروري نفسه قد صرح بعد أيام من عملية “طوفان الأقصى” بالقول إن “المعركة في بدايتها والخطة نفذت كما رسمت ومن ضمنها السيطرة على هذه المستوطنات والمعسكرات”، وهو ما تم اعتباره إشارة إضافية لدوره في هذه العملية وبالتالي كان العاروري بمثابة “المستهدف رقم واحد” بالنسبة لإسرائيل في قيادات حركة حماس في الخارج، ليس فقط لدوره في الأحداث الحالية، بل أيضا لدوره في التنسيق بين حركة حماس والحركات المتواجدة في النطاق الإقليمي لفلسطين، وقد كان اقتحام القوات الإسرائيلية لمنزله في الضفة الغربية بعد أيام من عملية السابع من أكتوبر أول مؤشرات هذا التوجه.

وبغض النظر عن التفادي “المتوقع” من جانب الحكومة الإسرائيلية، للاعتراف رسميًا بهذه العملية، وهو ما ظهر من تعليق مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي، مارك ريغيف، الذي قال “لم نعلن مسؤوليتنا عن هجوم بيروت وهو لم يستهدف الحكومة اللبنانية ولا حزب الله”، معتبرًا أننا “أوضحنا أن كل من تورط في مذبحة 7 أكتوبر هو إرهابي وهدف مشروع”. بغض النظر عن هذا، يمكن القول إن عملية استهداف العاروري والأفراد الستة الأخرين، تحمل في طياتها عدة رسائل يمكن إيجازها على النحو التالي:

1- رسالة داخلية: تبحث تل أبيب منذ بدء العملية العسكرية البرية أواخر أكتوبر الماضي، عن إنجاز ميداني يمكن تسويقه على المستوى الداخلي، بالنظر إلى تزايد الانتقادات الحزبية والشعبية للأداء الميداني العسكري، وحاولت بشكل حثيث – خاصة في مدينة نابلس – استهداف المستويات القيادية الأعلى في حركتي الجهاد الإسلامي وحماس، خاصة القيادي في حركة حماس، يحيى السنوار، لكنها لم تتمكن من هذا حتى الآن، وبالتالي جاءت عملية الضاحية الجنوبية، كمحاولة لتسويق “نصر ميداني خارجي” على حركة حماس عبر استهداف العنصر القيادي الأبرز في الخارج، الذي تحمله تل أبيب مسؤولية التخطيط لعملية السابع من أكتوبر، وهو تسويق يبقى رهنًا بمستوى ردود الفعل المتوقع صدورها من حركة حماس – والمحتمل صدورها من حزب الله – على عملية اليوم. 

2- رسالة ميدانية: بالنظر إلى الفشل الواضح للقوات الإسرائيلية في الكشف بشكل كامل وسريع عن شبكة الأنفاق الأساسية الموجودة تحت أراضي قطاع غزة، واستغراقها وقتًا أطول من اللازم للتأثير على القدرات الفلسطينية الصاروخية، يمكن القول إن عملية استهداف العاروري، تأتي لترميم مشهد عدم تمكن القوات الإسرائيلية في جبهات غزة المختلفة، من إلحاق أضرار مهمة بالهيكل القيادي الميداني الأساسي لكتائب القسام، خاصة في المرحلة الثانية من العمليات الإسرائيلية، واقتصرت النجاحات الإسرائيلية في هذا الصدد على لواء غزة، الذي كان الأكثر تضررًا على المستوى القيادي، حيث تمكنت القوات الإسرائيلية حتى الآن من تصفية قائد كتيبة الشاطئ، هيثم الحواجري، وقائد كتيبة الدرج والتفاح، رفعت عباس، وقائد كتيبة الشجاعية، وسام فرحات، وسلفه عماد قريقع، وقائد كتيبة الصبرة وتل الهوا، مصطفى دلول، وقائد القوة البحرية التابعة للواء غزة، راتب أبو صهيبان، وقائد كتيبة بيت لاهيا، نسيم أبو عجينة، ورئيس منظومة الإسناد الحربي، رأفت سلمان. بهذا لم يتبق في الهيكل القيادي لهذا اللواء سوى قائده، عز الدين الحداد، وقائد كتيبة الزيتون، عماد أسليم، وقائد كتيبة الفرقان، جبر حسن عزيز، في حين ما زالت بقية ألوية كتائب القسام وكتائبه، وكذلك المستويات القيادية الميدانية العليا، بمنأى عن الاستهداف.

3- رسالة لحزب الله والداخل اللبناني: ربما أعاد مشهد تحليق الطائرة المسيرة اليوم في أجواء الضاحية الجنوبية التذكير بالعملية التي تمت في أكتوبر 2019، حين هاجمت طائرتين مسيرتين شققًا سكنية، ما أشعل حينها حالة من التوتر بين حزب الله وإسرائيل. وبشكل عام من الواضح أن تل أبيب تحاول الضغط بشكل أكبر على الحزب، بالنظر إلى وجود قناعة إسرائيلية – أثبتتها التجربة الميدانية – بعدم رغبة الحزب في الدخول لجولة تصعيدية أكبر مع إسرائيل، لاعتبارات لبنانية وإقليمية عدة، ربما عبر عنها بشكل أو باخر رئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، حين اعتبر عملية اليوم “محاولة لتوريط لبنان في حرب”. بالتالي تحاول تل أبيب من خلال هذا الهجوم توجيه ضربة غير مباشرة لحزب الله في أهم مناطق تواجده على الإطلاق، ضمن ما يمكن وصفه بـ “التصعيد التدريجي”، الذي تقوم من خلاله إسرائيل بشكل متدرج برفع سقف قواعد الاشتباك الحالية مع الحزب، بما يشمل تعميق العمليات الجوية الإسرائيلية بشكل أكبر في جنوب لبنان، وتنفيذ أول غارة جوية على الضاحية الجنوبية لبيروت منذ عام 2006.

إجمالًا، يبقى تقييم تداعيات اغتيال صالح العاروري ورفاقه، رهنًا بردود فعل حركة حماس وحزب الله الميدانية المباشرة وغير المباشرة، لكن المؤكد أن تل أبيب أعادت بشكل كامل تفعيل “سياسة الاغتيالات”، خاصة بعد إعلان تركيا عن اكتشاف عدة خلايا تابعة للموساد الإسرائيلي. ويبقى السؤال هل ستكون ردود الفعل الفلسطينية واللبنانية، مباشرة وتصعيدية، أم أن الجانب الفلسطيني سيستمر في مساره الحالي على الأرض في قطاع غزة، وربما يلجأ حزب الله للدخول في “تراشق بالاغتيالات”، مماثل لما تم خلال سبعينيات القرن الماضي، بين إسرائيل ومنظمة “أيلول الأسود” الفلسطينية. وستجيب عن هذه التساؤلات الأيام القادمة وما تحمله من ردود فعل. 

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى