“ناقوس الخطر”.. كيف أثر الصراع المسلح في السودان على الأوضاع الإنسانية؟
اندلعت حرب السودان في منتصف أبريل 2023 نتيجة خلافات حول خطط الانتقال السياسي بعد أربع سنوات من الإطاحة بالرئيس السابق “عمر البشير”، وذلك نظرًا لتصاعد التوترات بين قائد الجيش الفريق أول “عبد الفتاح البرهان” وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول “محمد حمدان دقلو” المُلقب بـ “حميدتي”، حول المدى الزمني لدمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني. وازدادت حدة الاشتباكات بين القوتين مرة أخرى عقب انشغال العالم بالحرب على قطاع غزة في أكتوبر الماضي، وتعثر استمرارية جهود الوساطة الرامية إلى تهدئة الأوضاع بين أطراف الصراع. نتيجة لذلك قُتل أكثر من 12 ألف مدني على الأقل، وسجلت السودان “أكبر أزمة نزوح في العالم” وفقًا للأمم المتحدة. الأمر الذي يدفعنا نحو تساؤل حول مدى تدهور الوضع الإنساني في السودان بعد أكثر من نصف عام من الصراع المسلح، من خلال تسليط الضوء على عدد من القضايا المُلحة.
السودان تشهد أكبر موجات نزوح في العالم
نص المبدأ السادس من المبادئ التوجيهية بشأن التشريد الداخلي لعام 1998 على أن “لكل إنسان الحق في الحماية من أن يشرد تعسفيًا من مسكنه أو من محل إقامته المعتاد، ويندرج تحت حظر التشريد التعسفي التشريد في حالات النزاع المسلح”، وتقع على عاتق كل دولة عضو في الأمم المتحدة تطبيقها بما في ذلك السودان. لكن اضطر ما يزيد عن 7 ملايين سوداني للنزوح قسرًا من منازلهم، أي ما يشكل 15.5% من سكان السودان البالغ عددهم 45 مليون نسمة وهو عدد السكان قبل الحرب، فيما اتجه 1.5 مليون لاجئ إلى البلدان المجاورة ومن بينها، مصر وجنوب السودان وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وإثيوبيا.
وبالتركيز على المناطق المشتعلة في الأيام الأخيرة، نزح ما يصل إلى 300 ألف شخص من ود مدني بولاية الجزيرة، التي كان ينظر إليها على أنها ملاذ آمن لملايين من النازحين السودانيين منذ اندلاع الحرب في أبريل، وذلك عقب وقوعها تحت سيطرة قوات الدعم السريع في ديسمبر الجاري، مما أدى إلى صعوبة تقديم المساعدات، بجانب توقف جهود منظمات الإغاثة في منطقة ود مدني.
تنامي العنف الجنسي في السودان ضد النساء
بينما احتفل العالم باليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة في الخامس والعشرين من نوفمبر 2023، سُلطت الأضواء الدولية على محنة النساء في السودان، الأمر الذي عُد انتهاكًا للقانون الدولي، حيث وفقًا للفقرة الثانية من المادة السابعة والعشرين من اتفاقية جنيف الأربعة لعام 1949 “يجب حماية النساء بصفة خاصة في أوقات النزاعات المسلحة ضد أي اعتداء على شرفهن ولا سيما ضد الاغتصاب”، إلا أن العنف الجنسي ضد النساء تم استخدامه كسلاح منذ بداية الحرب في السودان وحتى الآن، حيث تعرضن لأقسى أنواع العنف الاجتماعي المتمثلة في حالات الاختطاف والاعتقالات والاغتصابات.
ولا يوجد حصر دقيق لتلك الحالات، خاصةً أن هناك أعدادًا هائلة في مناطق الاشتباكات، يصعب رصدها وتوثيقها، إلى جانب الوصمة الاجتماعية التي تجعل أغلب الأسر تُفضل الصمت وعدم الكشف عن هذه الانتهاكات. ولكن بحسب عضو في مجموعة محامي الطوارئ، فإن مجمل ما تم توثيقه من المجموعة ولجنة الأطباء المركزية ومنظمات مجتمع مدني منذ بداية الحرب في السودان، نحو 360 حالة اغتصاب في جميع أنحاء السودان، وتشكل هذه الحالات التي بلغت عن تعرضها للاغتصاب نسبة 1% فقط من الحالات الفعلية، لأن هناك نساء وفتيات كثيرات يخشين التحدث عن تعرضهن للاغتصاب. علاوة على ذلك، تم رصد العديد من المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تناقش محنة النساء في السودان وخوفهن من الاغتصاب وبحثهن عن وسائل منع الحمل، ومطالبتهن فتاوى دينية تسمح لهن بالانتحار.
أزمة غذائية تلوح في الأفق في السودان
يعترف العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالحق في الغذاء الكافي، الذي صدقت عليه السودان منذ 1986، وذلك طبقًا للمادة 11 التي تنص على “حق كل شخص في التحرر من الجوع وسوء التغذية”، وهو ما يُنتهك في السودان خاصةً بعد اندلاع الصراع المسلح.
وحذر برنامج الأغذية العالمي “الفاو” بعد تصاعد الأحداث الأخيرة في السودان منذ أكتوبر الماضي، من أن أجزاء من البلاد التي مزقتها الحرب تتعرض لخطر الانزلاق إلى موجات جوع غير مسبوقة، لا سيما في ظل صعوبة الوصول إلى المساعدات الغذائية، وتقديمها بانتظام للأشخاص المحاصرين في مناطق الصراع بما فيها الخرطوم ودارفور وكردفان والجزيرة.
وقُدر عدد السكان الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد في السودان بعد الصراع الجاري في السودان بحوالي 17 مليون نسمة، وهو ما يُشكل نحو 37% من السكان، وهو ما يعني وقوع سبع ولايات في السودان وهي، غرب دارفور، الخرطوم، جنوب كردفان، شرق دارفور، جنوب دارفور، وسط دارفور وغرب كردفان- ضمن المرحلة الثالثة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، أي ما يزيد عن ضعف العدد الذي تم تسجيله في نفس الوقت من العام الماضي.
كما أن ما يقرب من 5 ملايين شخص يقعون ضمن مستويات الطوارئ من انعدام الأمن الغذائي، أي في المرحلة الرابعة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، مع وجود أكثر من ثلاثة أرباع هؤلاء الأشخاص محاصرين في مناطق عُد وصول المساعدات الإنسانية فيها متقطعًا، وفي بعض المناطق، كان مستحيلًا بسبب القتال المستمر. ومن بين الأشخاص الذين حددتهم الفاو على أنهم في أمس الحاجة إلى المساعدة الغذائية في منطقة العاصمة، تلقى واحدًا فقط من كل خمسة أشخاص مساعدات غذائية منذ بدء الصراع.
الأطفال.. أكثر الفئات تضررًا في السودان
من الناحية القانونية؛ توفر اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وبروتوكولاها الإضافيان لعام 1977 حماية خاصة لصالح الأطفال خلال النزاعات المسلحة، حيث يحظى الأطفال بشكلين من الحماية التي يكفلها لهم القانون الدولي الإنساني وهما؛ الحماية العامة التي يتمتعون بها بصفتهم مدنيين أو أشخاصًا لا يشاركون في أعمال عدائية أو كفوا عن المشاركة فيها، والحماية الخاصة التي يتمتعون بها بصفتهم أطفالًا. وعلى الرغم من انضمام السودان إلى الاتفاقيات السابقة، إلا أن مواد تلك الاتفاقيات تُنتهك بشكل صارخ في السودان، ولا يتم توفير أي حماية سواء عامة أو خاصة للأطفال.
وبينما يُشكل عدد الأطفال في السودان نصف عدد السكان، لا يزال ملايين الأطفال يعانون من أثار الصراع المزمن، ومن الكوارث الطبيعية الموسمية، وانتشار الأمراض. الأمر الذي تفاقم مع تصاعد الاشتباكات مرة أخرى في أكتوبر الماضي، حيث وصل عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس إلى 19 مليونًا بسبب القتال، مع إغلاق آلاف المدارس في جميع أنحاء البلاد، وهو ما يعني ضعف العدد المُقدر من قبل الأمم المتحدة نحو 8 ملايين في الربع الأخير من عام 2022.
ويبلغ معدل الالتحاق بالمدارس في المناطق المتضررة من النزاع (ولاية دارفور، وجنوب وغرب كردفان والنيل الأزرق) 47٪ وهي نسبة متدنية جدًا مقارنةً بمتوسط معدل الالتحاق بالمدرسة في باقي مناطق البلاد. علاوة على ذلك، يشكل الأطفال 61% من الأشخاص النازحين داخليًا، و65% من اللاجئين خارج السودان.
كما أكد برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في أكتوبر الماضي على ارتفاع عدد الأطفال السودانيين الذين يعانون من سوء التغذية إلى 4 ملايين. ووفقًا لتوقعات جامعة جونز هوبكنز الأمريكية، فإن ما لا يقل عن 10,000 طفل دون سن الخامسة قد يموتون بحلول نهاية عام 2023، وتُعزَى هذه الوفيات إلى زيادة انعدام الأمن الغذائي، وتعطل الخدمات الأساسية منذ اندلاع الصراع المسلح في السودان، ويزيد هذا الرقم بأكثر من 20 مرة عن العدد الرسمي للأطفال الذين قتلوا بسبب القتال.
استجابة مصر للأزمة الإنسانية في السودان
تحرص مصر دائمًا على مساندة دول الجوار في أزماتها، الأمر الذي تجلى بوضوح من خلال الدور المحوري الذي لعبته القاهرة منذ اندلاع الحرب في السودان في منتصف أبريل 2023، لا سيما على الجانب الإنساني من حيث استقبالها للاجئين، وتقديمها للمساعدات الإنسانية، واستضافتها للمؤتمرات التي تهدف إلى وضع حد للأزمة الإنسانية في السودان.
ويجدر الإشارة إلى أن الدور المصري في دعم الأزمة الإنسانية السودانية حظي بإشادة دولية بالغة، كان أبرزها شكر وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الحكومة المصرية على استقبالها عشرات الآلاف من المواطنين السودانيين الوافدين عبر الحدود. كما أشاد سكرتير عام الأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش” بالدور الفاعل والمحوري لمصر في صون الأمن والاستقرار في المنطقة. وهو ما يمكن إيضاحه على النحو التالي:
– استقبال مصر للاجئين: يجدر الإشارة إلى أنه منذ اندلاع الصراع المسلح، لجأ أكثر من مليون سوداني إلى دول الجوار، حيث استقبلت مصر حوالي ثلثهم. هذا بالإضافة إلى وجود 4 مليون سوداني مقيمين في مصر، بحسب المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة. ووفقًا للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة يرتاد حاليًا أكثر من 30,000 طفل سوداني لاجئ المدارس العامة والخاصة في مصر.
– تقديم المساعدات الإنسانية: أرسل الجيش المصري طائرتا نقل عسكريتان محملتين بأطنان من الشحنات الطبية المقدمة من وزارة الصحة والسكان المصرية. كما أعاد الجيش إرسال ثلاث طائرات نقل عسكرية محملة بأطنان من الشحنات الإنسانية من الأدوية بالتعاون مع مجلس وزراء الصحة العرب بجامعة الدول العربية، ذلك للمساهمة في الحد من تفاقم الأزمة الإنسانية في السودان. علاوة على ذلك، أمدت مصر السودان بسفينة مصرية تابعة للقوات البحرية المصرية محملة بمئات الأطنان من المساعدات الإغاثية من مواد غذائية ومستلزمات طبية، مقدمة من السفارة السودانية بمصر، وجمعية الهلال المصري، وجمعية الهلال الأحمر الكويتي، وجامعة الدول العربية، وذلك لدفعها إلى المناطق الأكثر احتياجًا بدولة السودان.
– استضافة المؤتمرات: استضافت مصر في نوفمبر 2023 بعد تصاعد الأزمة الإنسانية في السودان، مؤتمر “القضايا الإنسانية في السودان 2023” في القاهرة، بحضور أكثر من 400 مشارك ممثلين عن قطاع كبير من منظمات المجتمع السوداني، وذلك عقب عقد اجتماعات ائتلاف “قوى الحرية والتغيير” السوداني، التي أقيمت في القاهرة على مدار 3 أيام، وجرى خلالها التوافق على الدعوة إلى “توسيع مظلة القوى الداعمة لإيقاف الحرب في السودان”.
ختامًا، يعاني الشعب السوداني من تدهور الأوضاع الإنسانية وانتهاك كافة حقوقه الأساسية بشكل وخيم منذ بداية الصراع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وفي الواقع، لا تقتصر تداعيات هذا الصراع فقط على الداخل السوداني، ولكنها تمتد إلى خارج الحدود للدول المجاورة.
وبالحديث عن التداعيات الداخلية، تقبع أزمة النزوح في السودان على رأس تلك التداعيات، حيث صُنفت على أنها أكبر أزمة نزوح داخلي في الوقت الحالي على مستوى العالم. بالإضافة إلى ذلك، تدنت كافة الخدمات الاجتماعية في السودان، على رأسها الأوضاع الصحية التي تدهورت بشكل أسوأ مما كانت عليه قبل بدء القتال، حيث أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا”، تسجيل ما لا يقل عن 8,267 حالة يشتبه في إصابتها بالكوليرا في السودان، وذلك بعد أن أعلنت البلاد عن تفشي المرض في القضارف (مدينة تقع في شرق السودان) في 26 سبتمبر الماضي. علاوة على تفاقم الأزمة الغذائية وانتشار الجوع ومعاناة الأطفال من سوء التغذية، وتدمير البُنى التحتية التعليمية، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع نسبة تسرب الأطفال من المدارس، كما قُتل عدد كبير من المعلمين.
وعلى صعيد التداعيات الخارجية، فيجدر الإشارة إلى أن الأزمة الصحية داخل البلاد من الممكن أن تنعكس على الأوضاع الصحية في الدول المجاورة، وذلك نتيجة لجوء أعداد هائلة من المواطنين السودانيين إليها، وبالتالي سرعة تفشي أمراض خطيرة مثل الكوليرا وحمى الضنك إقليميًا. كما أن لجوء أعداد كبيرة من السودانيين إلى بعض الدول المجاورة التي تعاني من تحديات اقتصاديات قد تؤدي إلى حدوث أزمة في تقاسم الموارد مع شعوب الدول المستضيفة.
وفي إطار ما سبق؛ هناك حاجة عاجلة لعقد اللقاء المرتقب بين طرفي الصراع، لإيجاد حل للأزمة الإنسانية السودانية وإنهاء الحرب. كما يقع على عاتق المجتمع الدولي الالتفات للوضع الإنساني في السودان، لا سيما بالنسبة للنساء وللأطفال، حيث يجب اتخاذ إجراءات فورية لحمايتهم من التشريد والنزوح القسري والعنف الاجتماعي من أجل التصدي للجرائم المُرتكبة في حقهم.