السودان

بعد ثمانية أشهر على اندلاعها.. قراءة لمسارات الحرب في السودان

بعد التقدم الذي استطاعت ميليشيا الدعم السريع تحقيقه من خلال بسط سيطرتها على ولاية الجزيرة الواقعة في وسط السودان، في خضم انسحاب من قوات الجيش السوداني الذي أصبح في حالة ضغط سعيًا لحماية منطقة شرق ولاية القضارف، ضمن خطة حماية العاصمة المؤقتة في بورتسودان والتي أصبحت أيضًا مقرًا لقيادة الجيش السوداني، برزت أهمية هذه التغيرات الميدانية التي دفعت أطراف الصراع كل من جهته للإصرار على أن قواته تحقق تقدمًا وفي طريقها لتحقيق النصر في محاولة من الأطراف للإيحاء بأن الأمور تحت سيطرتها.

 ولكن ليس شرطًا أن تكون هذه هي القناعة الحقيقية المتوفرة لديهم، ربما لوجود حالة من التقبل بأن تحقيق الانتصارات الميدانية حاليًا يصب فقط في إطار الرغبة في فرض الشروط خلال مرحلة التفاوض. مع ميل إلى أن قوات الدعم السريع قد تكون الأقرب إلى ذلك حتى الآن، وذلك في إطار سيطرتها خلال الفترة الماضية على العاصمة الخرطوم ومعظم أنحاء إقليم دارفور غرب البلاد وأجزاء من جنوب كردفان، وفي ظل تسليم الفرقة الأولى مشاة من الجيش السوداني عاصمة ولاية الجزيرة “مدينة ود مدني” وتقهقرها إلى ولاية سنار، في تحرك ربما بدا مفاجئ لقيادة الجيش نفسه الذي أعلن عن فتح تحقيق شامل في المسألة للوقوف على أبعادها، خصوصًا أن ما حدث كان أشبه بعملية تسليم وتسلم للمواقع بين قوات الجيش والدعم السريع، الأمر الذي وصفه البعض بوجود تفاهمات غير واضحة الأبعاد حتى الآن، ولكن هذه الرواية تتعارض مع  ما أكده قائد الجيش خلال لقاء مع ضباط منطقة البحر الأحمر العسكرية حينما قال “ستتم محاسبة كل متخاذل ومتهاون فيما حدث بود مدني في ولاية الجزيرة ولا مجاملة في ذلك”، وتشير التطورات الميدانية حتى الآن إلى أن الجيش السوداني لم يتبق له سوى الشرق الذي تتمركز قوات الدعم السريع على تخومه مما يؤكد حالة  الاختلال في الوضع الميداني .

الخيارات المتاحة أمام الجيش السودان

تشي الأوضاع الحالية بأن الخيارات الميدانية أمام الجيش السوداني محدودة، وتتلخص في منع أية انتكاسات ميدانية أخرى تضاف إلى الانتكاسة الأخيرة في ولاية الجزيرة، وذلك من خلال تعزيز قوته في معاقله الأخيرة في الشرق خصوصًا مع وجود قلق حقيقي لدى بعض قيادات الجيش السوداني من تكرار سيناريو الجزيرة في ولايات أخرى، وهو ما يفسر حالة الاستنفار الأمني للجيش شرق القضارف. مع الوضع بالاعتبار هنا أن المنطقة المطلة على البحر الأحمر والتي تسيطر عليها قوات الجيش حتى الآن، لن تكون بمنأى عن العمليات العسكرية في ظل التطور الأخيرة الذي شهد انسحاب الجيش من ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة. لكن هذا لا يعني أن السيطرة الميدانية تميل بشكل مطلق إلى ميليشيا الدعم السريع، إذ نجح الجيش السوداني بشكل مسبق في تكبيد الدعم السريع خسائر جسيمة في العاصمة الخرطوم، بعد نجاحه في تنفيذ سلسلة من الهجمات تم إسنادها إلى حصوله على أسلحة نوعية جديدة.

وما سبق يحصر بدائل الجيش على المستوى الميداني، بينما تبدو الخيارات على الجانب السياسي ليست أفضل حالاً، خصوصًا أن البرهان تستقر لديه قناعات ضدية في التعامل مع عدد من الدول ذات الصلة بالأزمة السودانية وعلى رأسها تشاد، التي تعرضت مؤخرًا لحملة طرد لدبلوماسييها من السودان بعد تصريحات لقائد الجيش اتهم فيها بنجامينا بإمداد قوات الدعم السريع بالسلاح، فضلًا عن موقف البرهان من كينيا ومن مبادرات الإيجاد.

مصادر سلاح الدعم السريع

مثل السلاح بالنسبة لميليشيا الدعم السريع عاملًا فيصليًا في التحركات التي أقدمت عليها منذ اندلاع الحرب في السودان، حيث إنه بعد إقرار قانون هذه القوات عام 2017 والذي منحها صفة قوة أمن مستقلة، قامت بعدها صفقات ضخمة لاستيراد السلاح من شرق أوروبا وبعض الأسلحة الأوروبية والأمريكية تحت غطاء وسطاء في السوق السوداء للسلاح. كما تلقت الدعم السريع دفعات من المضادات “الثنائي والرباعي” في نوفمبر وديسمبر 2021 وفق عنصر بالاستخبارات العسكرية التابعة للجيش السوداني.

وعلى الرغم من أن الجيش السوداني كان قد أعلن عن تدمير مخازن أسلحة وذخيرة للدعم السريع في أنحاء متفرقة من الخرطوم وأخرى كانت في الطريق إليها، إلا أن الميليشيا استمرت في الحصول على الأسلحة بطرق أخرى وعبر وسطاء إفريقيين وإقليميين، وهو ما تم تأكيده في عدد من المصادر من أبرزها صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية التي أشارت إلى أن طائرة شحن كانت قد هبطت في مطار أوغندي بداية يونيو الماضي، تأكد أنها كانت تحمل أسلحة وذخيرة، في الوقت الذي كانت تُظهر فيه وثائق رسمية أن الطائرة تحمل مساعدات إنسانية. كما كان هناك إمدادات سلاح عبرت تشاد وجنوب ليبيا إلى السودان عبر الجنينة.

فيما لفت موقع “أفريكا إنتيليجنس” الاستخباري الفرنسي، إلى أن قوافل محملة بالبترول والأسلحة شوهدت تتحرك باتجاه الحدود الليبية مع السودان في المنطقة التي تسيطر عليها ميليشيات ليبية وتحديدا في منطقة الكفرة، حيث تنشط الميليشيا فيها وفي مناطق جنوب شرق ليبيا قرب الحدود الليبية مع تشاد والسودان. وقامت الميليشيا بتوظيف الطائرات المسيرة وتطبيق تحييد جزئي للميزة النوعية للجيش السوداني ممثلة في سلاح الطيران.

على الجانب الآخر، اعتمدت الدعم السريع على تدريب مقاتليها وجلب المرتزقة فقامت بتدريب مئات الجنود على استخدام أسلحة المدفعية في دورة تسليحية خلال شهري يوليو وأغسطس الماضيين، بعد أن شهدت فرصها تراجعًا أمام اقتحام المعسكرات والوحدات العسكرية الحصينة التابعة للجيش بالخرطوم.

كما وظفت أموالها في عملية موسعة لشراء الولاءات ما نجم عنه تمكنها من معرفة خطط الجيش وتحركاته، وتنفيذ هجمات فعالة على المؤسسات الحيوية، كان آخرها المعلومات التي وصلت للميليشيا عن تحضيرات ضخمة في الجيش للهجوم على مقراتها في الخرطوم.

الخيارات المتاحة أمام الدعم السريع

تتحرك الدعم السريع بمنهاج أكثر ديناميكية إذا ما جاز التعبير في التعاطي السياسي مع الأزمة، وينعكس ذلك في حالة الانفتاح التي تنعكس في قبول الدعم السريع لعدد من المبادرات السياسية التي عرضتها أطراف إفريقية وإقليمية.  وتم تأكيده منذ أسبوعين عندما أبدت وزارة الخارجية السودانية،  تحفظات صريحة حيال البيان الختامي لقمة إيجاد بعد تجاهل السكرتارية تضمين حزمة ملاحظات دفع بها الوفد السوداني، وقالت إن رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، وضع شروطًا للقاء قائد الدعم السريع محمد حمدان حميدتي، وعلى ذلك طالبت الخارجية السودانية بتصحيح ما ورد بشأن موافقة رئيس مجلس السيادة الانتقالي على لقاء قائد الدعم السريع .وأفاد بيان الخارجية أن البرهان اشترط لعقد مثل هذا اللقاء إقرار وقف دائم لإطلاق النار، وخروج قوات التمرد من العاصمة وتجميعها في مناطق خارجها كما رفض بيان الخارجية السودانية محاولات البيان الختامي لإضفاء الشرعية على قوات الدعم السريع بمختلف الطرق، ووصف صياغة البيان الختامي بالمعيبة إجمالًا مع تفصيل مواطن اعتراضه والتي تركزت حول علاقات الدعم السريع بدول إقليمية وإفريقية، في الوقت الذي لم تتحفظ الدعم السريع سوى على مقابلة البرهان بصفته قائدًا للجيش وليس رئيسًا لمجلس السيادة.

ولذلك لا تتعامل الدعم السريع مع مسألة اللقاء بالبرهان باعتبارها العقبة الأساسية، نظرًا لأن البرهان على الطرف الآخر قد يكون أكثر ميلًا إلى ترميم العلاقات مع الدعم السريع من خلال التفاوض، حتى وإن كان ذلك مع القائد الثاني للدعم السريع الفريق عبد الرحيم حمدان دقلو وذلك مقارنة بتيار آخر داخل الجيش السوداني، خصوصًا أن الفريق أول عبد الفتاح البرهان حينما توجه إلى قمة جيبوتي كان على علم بمكونات خارطة الطريق التي سيتم الإعلان عنها في قمة الإيجاد، وكان ذلك مسبوقًا بلقاء ممثلين عن طرفي الأزمة في جدة، مما يعني الاعتراف الضمني بأن الدعم السريع قوات متواجدة وتتحرك على الأرض، وهو ما يعطي إيحاء بأن ميول البرهان البراجماتية قد تكون مقيدة بتيارات أخرى داخل الجيش السوداني، وباتجاهات الأجهزة التنفيذية وعلى رأسها الخارجية السودانية.

موقف القوى المدنية والمسلحة

هناك ميل داخل أوساط القوى المدنية وعلى رأسها “تقدم” بقيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك لاحتواء الموقف بالأساليب السياسية، ومن هذا المنطلق جاءت مطالبتها بتمديد عمل بعثة يونيتامس والتي انتهت أعمالها في السودان في الثالث من ديسمبر الجاري، في الوقت الذي يرفض فيه الجيش السوداني تمديد عمل البعثة من نفس نقاط رفضه لتمديد مهام أعمال المبعوث الأممي فولكر بيرتس، الذي كان قد استقال من رئاسة البعثة بعد أن أعلنته الجهات الرسمية في السودان شخصًا غير مرغوب به في السودان.

وعلى المستوى السياسي، تميل القوى المدنية لمسار أديس أبابا باعتباره الإطار التفاوضي الأوسع حتى الآن الذي يجمع مختلف المكونات السياسية في السودان، إضافة لأطراف السلام في جوبا والجبهة الوطنية لقبائل البيجا في شرق السودان، بالإضافة إلى عدد من لجان المقاومة الشعبية والتنظيمات النقابية، وقد أفضى هذا المسار إلى تشكيل جبهة مدنية عريضة من أجل تنظيم “المؤتمر التأسيسي لتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية” (تقدم)، لإيقاف الحرب واستعادة الديمقراطية في البلاد. ويرأس هذه الجبهة رئيس الحكومة السابق عبد الله حمدوك الذي يتمتع بثقة عالية من مختلف مكونات الطيف السياسي السوداني.

ويمكن أن يلحق بموقف القوى المدنية في السودان موقف القوى المسلحة التي تبدو متخوفة هي الأخرى من سيناريو شبيه بالسيناريو الليبي، حيث اضطرت اثنتان من ميليشيات دارفور إلى التخلي عن حيادهما والوقوف في صف الجيش في منتصف نوفمبر الماضي- وهما حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، حاكم دارفور، وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم. وكانتا قد تعهدتا بالبقاء على الحياد بموجب اتفاق جوبا للسلام لعام 2020 الموقع مع الحكومة الوطنية، حيث يمثل مسار جوبا أحد المسارات المتوقعة للحل السلمي في السودان، وهو المسار الذي يميل له الفريق أول عبد الفتاح البرهان وتنظر له قوات الدعم السريع بحالة من عدم اليقين على خلفية اتهامها لجوبا بالميل للجيش السوداني.

جرائم الدعم السريع وسيناريو الحرب الأهلية 

منذ اندلاع الحرب في السودان ارتكبت ميليشيا الدعم السريع عددًا ضخمًا من الجرائم والفظائع بحق المدنيين، حتى أن مصادر حقوقية مثل مؤسسة رعاية الطفل أشارت إلى أنه حيثما تمر قوات الدعم السريع، ينتاب السيدات والفتيات الرعب من التعرض “لعنف جنسي” وهو تهديد متكرر في هذه الحرب.

وحسب “هيومان رايتس ووتش” فإن “الدعم السريع” والميليشيات المتحالفة معها، قتلت مئات المدنيين في غرب دارفور أوائل نوفمبر 2023. كما ارتكبت القوات جرائم النهب والاعتداءات والاحتجاز غير القانوني بحق العشرات من المساليت في أرداماتا، في إحدى ضواحي الجنينة في غرب دارفور.

وفي نفس السياق، تشير أبحاث هيومان رايتس ووتش الجارية وتقارير إعلامية إلى أن الميليشيا قتلت آلاف المدنيين، وأحرقوا أحياء ومواقع بأكملها لجأ إليها النازحون في الجنينة، ونفذوا نهبًا واسعًا، واغتصبوا النساء والفتيات.  وقال الناجون إن قوات الدعم السريع والقوات المتحالفة معها أطلقت النار على المدنيين أثناء فرارهم، وأعدمت الناس في منازلهم، وملاجئهم، والشوارع.  

وبموجب القانون الدولي، فإن الهجمات المتعمدة على السكان المدنيين، بما فيها القتل خارج نطاق القضاء، وإساءة معاملة المدنيين وجميع الأشخاص الذين لا يشاركون في القتال كالمعتقلين والجرحى، والتهجير القسري، تنتهك قوانين الحرب وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يجب فرض عقوبات على أي شخص ينتهك حظر الأسلحة الذي يفرضه مجلس الأمن على دارفور منذ العام 2004.  ووفق الأمم المتحدة، أسفرت الحرب في السودان عن مقتل أكثر من 12 ألف شخص، علمًا بأن العديد من المصادر تقدر بأن هذه الحصيلة تبقى ما دون الفعلية. كما أدت إلى نزوح 1.7 مليون سوداني من بينهم 1،5 مليون شخص لجئوا إلى الدول المجاورة، وفق الأمم المتحدة التي اعتبرت أن “أزمة النزوح في السودان هي الأكبر في العالم”.

وتشي المقدمات السابقة بأن سيناريو الحرب الأهلية ليس مستبعدًا في السودان التي تحكمها النزعات القبلية – الإثنية والجهوية، خصوصًا أن أطراف الصراع أصبحت على قناعة بأنه من الصعب حسم الصراع بالطرق العسكرية بشكل كامل، ووجود تخوفات من انزلاق المدنيين ودخولهم في الصراع، بعد دعوات التسلح التي أطلقها أحد طرفي الصراع، مع الوضع بالاعتبار أن ميليشيا الدعم السريع ارتكبت بحق المدنيين في دارفور وحتى مؤخرًا في الجزيرة، العديد من الفظائع التي تجعل الغضب واللفظ الشعبي لهذه الميليشيا مبررًا، والأكثر قتامة في سيناريو الحرب الأهلية أنها غالبًا ما تنتهي إلى التقسيم مثلما انتهى الصراع مسبقًا في إقليم دارفور. 

نيرمين سعيد

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى