الدعايا مقابل الواقع.. هل خسرت إسرائيل معركة “البروباجاندا”؟
توثيق الصراعات أمر بات من الأولويات عقب انتشار الأدوات الإعلامية التي تطورت فيما بعد لتشمل جميع وسائل التواصل الاجتماعي التي تصل إلى كل يدٍ وعين. وفي ظل العدوان الإسرائيلي على غزة، والمشهد الإعلامي الذي يغطي الأحداث؛ شاهدنا هيمنة واضحة للرواية الإسرائيلية –والتي تظهر نفسها كضحية لتبرير عدوانها وقتلها المدنيين- وتحديدًا على الإعلام الغربي، والتي ما لبثت تتراجع شيئًا فشيئًا وتأتي بثمار عكسية عقب أن فضحت الروايات الفلسطينية والعربية حقيقة تلك الروايات. الأمر الذي يطرح تساؤلات عدة حول كيفية تشكيل إسرائيل لرواياتها الإعلامية ومواطن قوتها، وسبب حصولها بكل هذا الوزن على الصعيد العالمي، وأسباب تراجع الدعم الغربي بعد حملة تبنٍ عمياء ضربت مصداقية ومهنية كبرى الصحف العالمية في مقتل.
آلة الدعاية الإسرائيلية
تدور الحرب في فلسطين حول ثلاث مهام أساسية: الاستيلاء على الأرض، ومحو الشعب، وإعادة كتابة التاريخ. وقد حققت إسرائيل اختراقًا في المهمتين الأولى والثانية إلى حد كبير من خلال عملية التطهير العرقي والتوسع الاستيطاني المتواصل ولكن من خلال المهمة الأخيرة تحاول إسرائيل منذ عشرينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا الاستيلاء على رواية “الضحية” من أجل حشد الدعم العام لتبرير عدوانها ضد الفلسطينيين وإجحاف حقوقهم، وهذه استراتيجية تستخدمها بشكل ممنهج واستباقي قبل ظهور أي رواية أخرى لتؤكد ألّا شيء غير الحقيقة الإسرائيلية وفقط، الأمر الذي يستديم دوامة العنف إلى ما لا نهاية.
وبالرجوع إلى ما قبل تاريخ قيام دولة إسرائيل، نجد أن رواية الاضطهاد التي ترددها إسرائيل، والتي سرعان ما ترجمت إلى “معاداة السامية”، تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، حين استند “ثيودور هرتزل”، أبو الحركة الصهيونية، إلى تاريخ الاضطهاد اليهودي الطويل في أوروبا ليشرعن المشروع القومي لدولة إسرائيل وممارسات مستوطنيها الاستعمارية.
وبعد الحرب العالمية الثانية، استُخدم الاضطهاد كذريعة لتبرير إقامة دولة إسرائيل. وبالعودة إلى “وثيقة إعلان قيام دولة إسرائيل” والتي تدّعي أن: “المحرقة التي حلت بالشعب اليهودي، والتي ذُبح فيها الملايين من يهود أوروبا، قد عادت وأثبتت بالفعل ضرورة حل مشكلة الشعب اليهودي المحروم من الوطن والاستقلال بواسطة الدولة اليهودية في أرض إسرائيل لتفتح باب الوطن على مصراعيه من أجل كل يهودي“.
وهكذا ظهرت عدة عقد استخدمها الإسرائيليون ذريعة وأداة ضغط على الغرب الذي يشعر بالذنب من اضطهاد اليهود في السابق، فنجد مثلًا “عقدة ماسادا التي انتحر خلالها اليهود بسبب الرومان”، وعقدة المذبحة، وعقدة هتلر والمحرقة، والكثير من المسميات التي تعمل على إظهار المظلومية لتبرير العدوان على أنه رد فعل، الأمر الذي يحشد المناصرين والمؤازرين في مواجهة “العدو” الفلسطيني الأقل إنسانية من وجهة نظر الرواية الإسرائيلية، ويجعل المجتمع الدولي لا يبالي بفرض القانون الدولي وإعمال حقوق الإنسان الأساسية، وبالتالي، فمن غير الممكن بعدها مناقشة أي رواية فلسطينية فالجميع يتفق على أنهم يستحقون العنف لا التعاطف.
ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونية المملوكة ليهوديين بالأساس، وبدعم الحكومات الغربية لإسرائيل، وبإنفاق المليارات لتحسين صورة إسرائيل؛ يستخدم الاحتلال كل ما سبق لنشر روايته عبر الاستعانة بالخوارزميات التي تخدّم على تشكيلها، بما في ذلك استخدام مصطلحات وكلمات محددة، فعلى سبيل المثال، استخدام كلمتي “الموت” و”القتل” للفعل نفسه، فالقتل يعني عملًا عدوانيًا ضد إسرائيل، بينما الموت للفلسطينيين سيكون نتيجة أسباب مختلفة غير عنيفة، وكذا يتم استخدام كلمة “إرهابيّ” للإشارة إلى حماس عندما تستهدف المدنيين، لكنها لن تنطبق أبدًا على إسرائيل عندما يتبين أنها استهدفت المدنيين عمدًا في غزة. وصولًا إلى استخدام كلمة أطفال للمحتجزين الإسرائيليين لدى فصائل المقاومة المفرج عنهم، مقابل استخدام وصف “أشخاص أقل من 18 عامًا” لوصف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال المُفرج عنهم.
وهكذا يتم التأثير على الطرف المتلقي للخبر، ويتم تغييب الرواية الفلسطينية بما يحول دون انتشارها في الفضاء الرقمي، هذا بجانب المساس بالحريات والحقوق، وتكميم الأفواه وفرض العقوبات على المتعاطفين مع غزة أو القضية الفلسطينية تحت عنوان “معاداة السامية”.
أكاذيب منذ بدء الحرب
تستمر إسرائيل في حياكة روايات جديدة تحمل في طياتها العديد من الأكاذيب، وتقوم بطلاء الروايات القديمة بطلاء يضفي عليها بعض الحداثة تماشيًا مع تسارع الأحداث. ولا يسعنا ذكرها جميعًا، ولكن منذ السابع من أكتوبر تحديدًا، تفوقت الدعاية الإسرائيلية على نفسها بنشر عدد لا يمكن تصوره من الدعايا المضللة والأكاذيب التي أدت في النهاية إلى انقلاب السحر على الساحر، وتحولت هذه الدعاية لسلاح تقتل به إسرائيل نفسها.
فالبداية كانت من “أعداد القتلى” الإسرائيليين، فتم الإعلان عن عدد كبير من القتلى الإسرائيليين وخاصة المدنيين، حيث ذكرت إسرائيل أن عدد ضحاياها بلغ 1400، وبالتالي، بررت إسرائيل لنفسها الأخذ بالثأر من مدنيي غزة وقتل عشرة أضعاف الرقم السابق، والرد على الرأي العام بشأن وحشيتها بالتأكيد أن “حماس” هي من تستخدم المدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية، وأنها تحاول منع حماس من هذا الغرض بإصدار تحذيرات لسكان شمال القطاع بالنزوح جنوبًا، وبالتالي أيضًا تبرير الضوء الأخضر الذي أعطته لنفسها لمهاجمة المدنيين الممتنعين عن النزوح ومن نزح أيضًا.
ولكن رواية القتلى الإسرائيليين ظهر زيفها بعد مرور أكثر من 40 يومًا من الأحداث، وعلى يد تصريحات إسرائيلية، فوفقًا لتقرير نشرتهصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، وشهادات لطيارين في الجيش الإسرائيلي، فإن مجزرة القتل في السابع من أكتوبر قد ارتُكبَت بفعل جيش الاحتلال؛ إذ إن مروحة عسكرية من طراز “أباتشي” أطلقت مئات من قذائف المدفع عيار 30 ملم بشكل عشوائي على حماس في مهرجان “نوفا”، كما استهدفت آليات المقاومة التي كانت تنقل الرهائن، مما أدى إلى وقوع 364 من المدنيين الإسرائيليين، وسط تأكيدات بأن حماس لم تكن على علم بالأساس بوجود مهرجان موسيقي بالقرب من غلاف غزة، وأنهم استهدفوا الحفل بشكل عفوي. فقام إسرائيل بتخفيض رقم ضحاياها إلى 1200.
أما الرواية الأكثر انتشارًا منذ بدء الحرب، كانت من نصيب الادعاء الذي يفيد بأن حماس قطعت رؤوس 40 طفلًا إسرائيليًا، والتي كررها الناشطون المؤيدون لإسرائيل والمسؤولون الحكوميون ووسائل الإعلام الغربية، وامتدت لتصل إلى أكبر مسؤولي الغرب، الرئيس جو بايدن، الذي أعلن أنه شاهد بنفسه الأدلة التي تثبت صحة هذه الرواية، والحقيقة أنه لم يفعل، حيث أن البيت الأبيض نفى أن “بايدن” قد رأى أي دليل على هذا الأمر، وكانت القصة برمتها من تأليف الرائد “ديفيد بن صهيون”، نائب رئيس منظمة قيادة المستوطنين، وعضو مجلس إدارة الصندوق الوطني لإسرائيل، وهي وكالة شبه حكومية تستخدم للحصول على الأراضي في فلسطين، وكانت هذه الرواية تحديدًا “عاطفية” بشكل كبير، فاستخدام الأطفال في جملة مفيدة لا شك سيثير غضب أكبر عدد من الناس دون التحقق.
ولم تستطع الدعاية الإسرائيلية ومن يساندها في تقديم أو “فبركة” دليل على مقتل الأطفال، ولكنها حاولت من خلال استخدام “الذكاء الاصطناعي” فعل ذلك بعد ضغط شديد، ولكن سرعان ما استطاعت التقنيات الحديثة في كشف هذه الكذبة مجددًا، ليتراجع الجميع بمن فيهم الصحفيون عن نقل أو نشر هذا الخبر.
وقبل استيلائها مؤخرًا على مجمع الشفاء الطبي في غزة، بذلت إسرائيل قصارى جهدها لتصوير المنشأة الطبية على أنها “مركز القيادة والتحكم” التابع لحماس، وذلك من خلال حسابات جيش الاحتلال ومكتب الرئيس الإسرائيلي وكذلك الحساب الرسمي لوزارة الخارجية وغيرها من الحسابات الموثقة التي شاركت بعض المخططات والتسجيلات الصوتية كـ ”دليل” حصلت عليه المخابرات الإسرائيلية لدعم هذا الادعاء.
وكذا عملت بعض الصحف الأجنبية على نشر عناوين تتساءل عبرها عما إذا كانت حماس تختبئ تحت أحد المشافي أو المدارس في غزة، وكأن انتشار مثل تلك العناوين سيكون “مقدمة” لارتكاب مجزرة جديدة، ليُفاجأ الجميع في اليوم التالي بـ “مجزرة مستشفى المعمداني “، التي راح ضحيتها أكثر من 500 شخص –وتشك إسرائيل والصحف الغربية في صحة هذا الرقم وأعداد الضحايا الفلسطينيين عمومًا-، فقد نسبت عناوين صحف ومجلات أميركية عدة مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست وول ستريت جورنال وفورن بوليسي بالإضافة إلى CNN مجزرة مستشفى المعمداني إلى فاعل مجهول مستعملة عناوين على غرار: “موت المئات في تفجير بمستشفى في غزة”، وذلك بعد أن رفضت إسرائيل تحمل مسؤوليتها عن هذه الغارة، قائلة إنها ناجمة عن صاروخ أطلقته حركة الجهاد الإسلامي بشكل خاطئ، وبهذه الطريقة تستمر إسرائيل في التمهيد لكل مجزرة جديدة في قطاع غزة.
ولكن هذه الرواية ما لبثت بضعة أيام إلا وانكشف زيفها للعالم على يد تحقيقات لصحيفة “نيويورك تايمز”، والقناة الرابعة البريطانية، إذ كشفتا أن اتجاه القذيفة التي أصابت المستشفى معاكس لما ادعى الجيش الإسرائيلي، حيث أظهر التحليل أن القذيفة جاءت من الشمال الشرقي، وليس من الجنوب الغربي لقطاع غزة كما يدعي الجيش الإسرائيلي.
وحتى المحادثة التي ادعى الجيش الإسرائيلي اعتراضها بين اثنين من عناصر حركة «حماس» يعترفان خلالها بأن الحركة هي فعلًا من أطلقت الصاروخ، فقد تم تحليلها وإثبات أنها مزيفة. وكذا نشر “حنانيا نفتالين”، العضو السابق في الفريق الإعلامي لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، على منصة X نفيًا للرواية الإسرائيلية، مؤكدًا أن القوات الجوية الإسرائيلية استهدفت المستشفى عمدا للقضاء على أعضاء حماس، وقام بحذفها سريعًا، لكنها بالطبع كانت قد انتشرت.
وبعد أن اقتحمت القوات الإسرائيلية مجمع الشفاء ومن قبله مستشفى الرنتيسي، وعاثت في أرجائهما فسادًا بحضور الصحفيين الأجانب، لم تفز بدليل واحد يثبت مزاعمها بوجود نشاط عسكري للمقاومة الفلسطينية، أو دليل على وجود أنفاق تحت المشفى، لتضيف إلى قائمة فشلها الاستخباراتي فشلًا جديدًا على مرأى ومسمع الإعلام الغربي الذي يدافع عن الرواية الإسرائيلية، ويعرضها إلى سخرية لاذعة من قبل نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي الذين أكدوا أن إسرائيل “فبركت” الفيديوهات لتحقيق انتصارات وهمية، بينما برر الاحتلال فشله بأن “حماس” علمت بقدومهم للمشفى، وبالتالي نقلت مقرها إلى مكان آخر، وهذا تبرير جديد لمهاجمة عدد أكبر من المشافي التي تزعم إسرائيل وجود حماس تحتها.
وفيما يخص ملف الأسرى، القضية الشائكة بشدة في الداخل الإسرائيلي، عملت الدعاية الإسرائيلية على تهدئة الرأي العام الإسرائيلي من خلال ادعاءات بتحرير بعض الرهائن لدى حماس خلال العملية البرية التي ينفذها الجيش في القطاع –دون الكشف عن تفاصيل التحرير-، وسرعان ما اهتزت مصداقية هذه الأخبار بعد نشر صحف إسرائيلية معارضة أخبارًا تفيد بأنه لا يوجد دلائل على أن الأسرى المعلن تحريرهم كانوا ضمن الأسرى المخطوفين بالأساس، وأن الجيش الإسرائيلي يعلن “كذبًا” مثل هذه الادعاءات فقط لرفع الروح المعنوية للإسرائيليين، ووصل الأمر لمطالبة نشطاء إسرائيليين بفيديو مصور من “أبو عبيدة” الناطق باسم كتائب القسام، يوضح خلاله مصير الأسرى المحررين، لعدم ثقتهم في تصريحات مسؤوليهم، وبالفعل بعد تفنيد رواية الجيش الإسرائيلي، وُجد أن الأسرى المعلن تحريرهم قد تمت إضافتهم إلى قائمة المختطفين من قبل حماس بعد الإعلان عن تحريرهم.
وتحاول إسرائيل التستر على جرائمها بنشر صور ومقاطع مصورة وهي تتعامل بإنسانية مع الفلسطينيين خلال فرارهم عبر الممر الآمن في غزة، ولكن سرعان ما انكشفت الحقيقة بعد أن قاموا بإعدام رجل مسن تقوم القوات بمساعدته على السير، وقد انتشرت صورته بسرعة كبيرة عبر الصفحات الإسرائيلية، ولكن وسائل التواصل الاجتماعي أعادت نشر صورة لنفس الرجل مقتولًا عمدًا برصاص الاحتلال.
“بين الانحياز والتراجع” موقف الإعلام الغربي والدعم الشعبي من الروايات الإسرائيلية
إن الرأي العام هو دائمًا ساحة معركة بقدر ما هو أرض فعلية للحروب. وفي ظل هذه الأحداث، فقد اتخذت الدعاية منعطفًا غريبًا، خاصة وأنها لا تكاد تبذل أي جهد لإقناع الناس بها، وأنها سرعان ما تنكشف عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعد تقديمها حججًا سخيفة لا تصدق. ومنذ اليوم الأول للصراع، عملت الصحف الأجنبية على دعم الرواية الإسرائيلية بمنتهى “اللا مهنية”؛ إذ إن المهنة تقتضي التقصي من الحقائق قبل نشرها على الملأ، ولكن هذا ما لم يحدث، فقد تبنت الصحف الغربية الرواية الإسرائيلية كما هي من على ألسنة المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين، بل وأغفلت السياق الحيوي لفهم طبيعية الصراع بين الطرفين، وذلك لصرف الانتباه عن حقيقة أن إسرائيل تبيد الشعب الفلسطيني، وأن صرح الحضارة الغربية والديمقراطية ما هو إلا كذبة كبيرة.
ولعل نقطة التحول كانت من الرواية الإسرائيلية المفبركة بخصوص مجمع الشفاء الطبي في قطاع غزة، والتي أحدثت تحولًا هائلًا على مستوى الرأي العام العالمي وعلى مستوى الإعلام الغربي، الأمر الذي أسهم في الضغط أكثر سواء كان من الإعلام أو الحراك الشعبي في عدة دول من أجل وقف إطلاق النار؛ إذ شعرت الصحف أنها لم تعد قادرة على مجاراة زيف سردية إسرائيل، خاصة وأنها غطت بعض الأحداث بنفسها من داخل القطاع.
أما بالنسبة للشعوب الغربية، فمن حسن الحظ أنهم لم يعودوا تحت رحمة وسائل الإعلام الغربية، وهو عكس ما حدث في الأسابيع الأولى من الحرب، فبعد تصديق الرواية الإسرائيلية، زاد الدعم الشعبي بشكل غير مسبوق، لكنه ما لبث أن تراجع عقب انتشار الحقائق، وفُتِّحت الأبواب لقضايا قديمة كانت إسرائيل طرف فيها، وتم تسليط الضوء على مقدار الدعم الغربي لإسرائيل خلالها، وبالتالي عملت حرب المعلومات المضللة وقمع الرواية الفلسطينية على تحويل “معاداة السامية” إلى كراهية إسرائيلية مستعرة، فرأينا مظاهرات عمت عواصم عربية وأوروبية ودولية، بما فيها ولايات أمريكية. ودونًا عن الصراعات الماضية، فقد يؤدي هذا الصراع تحديدًا إلى مناصرة شعبية غربية-يهودية في بعض الدول- قد تظل قائمة حتى يتبخر الدعم الغربي لإسرائيل.
ولم يتوقف الأمر عند الشعوب، بل طال أعضاء الحكومات، فمعارضة إسرائيل ظهرت داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي، وخاصة الفئة الشبابية ممن هم دون الـ 35 عامًا، حيث تضاعفت نسبة الأشخاص الأقل ميلًا إلى الرغبة في أن تقف الولايات المتحدة بجانب إسرائيل، وتضاعفت نسبة المحتملين بألا يصوتوا للرئيس بايدن في الانتخابات القادمة بسبب موقفه الداعم للاحتلال؛ فقد ارتفعت النسبة من 10.8% في أكتوبر إلى 14.8% في نوفمبر، في حين انخفضت نسبة الذين قالوا إنهم سيصوتون “لبايدن” من 28.4% في أكتوبر إلى 17.6%. وهذه النسب المتغيرة تعكس وجهة النظر المتشددة التي قد يتبناها الجمهور الأمريكي تجاه الدعم الأمريكي لإسرائيل، خاصة بعد انتهاء الحرب.
هل خسرت إسرائيل معركة الدعاية وتشكيل الوعي العام؟
يزداد النقاش داخل إسرائيل حول تراجع مكانة إسرائيل وحربها التي تشنها على قطاع غزة في الرأي العام الدولي بعد تحول التعاطف والدعم الذي حصلت عليهما إسرائيل في الأيام الأولى من الحرب إلى رأي عام معارض ومهاجم لسلوكها العسكري الدموي في غزة مائلًا إلى الرواية الفلسطينية، فضلًا عن اهتزاز الصورة داخل الجيش كقوات تتمتع بالكفاءة. وترى إسرائيل أن استمرار الدعم الدولي أمر مهمٌّ لمواصلة حربها على قطاع غزة، المتوقَّع لها أن تستمر فترة طويلة، في ظل انهيار معنوي “لنتنياهو” وحكومته.
وما يزيد الأمر صعوبة هو مساندة المؤسسات الأممية والدولية للأوضاع في غزة، والتي تحظى بمصداقية عالية لدى الناس في العالم، فإسرائيل بالطبع ليست راضية عن مواقف تلك المؤسسات سواء كانت ببث مشاهد القتل والدمار، أو المناشدات لوقف إطلاق النار، واستهجان منع إدخال المواد الطبية والغذاء والوقود والكهرباء للقطاع. ليس هذا وفقط، بل ما يعقد الأمر هو مشاركة الجماعات اليهودية حول العالم في المظاهرات الداعمة لفلسطين وتدعو إلى وقف الحرب، الأمر الذي تشبهه إسرائيل بالطعنة في الظهر.
وكل ما سبق يعكس حقيقة واحدة، وهي أن إسرائيل قد خسرت بالفعل معركتها في أن تستفيد إعلاميًا من الوضع في غزة، فلم يعد أحد يثق بأي رواية إسرائيلية حتى لو أضيف عليها بعض الحقائق، ولم تخسر إسرائيل وحدها، بل إن أخطاءها قد أوقعت مصداقية الدول الغربية برؤسائها وإعلامييها وصحفييها في مأزق. ولكن رغم ذلك، من المؤسف أن حقيقة عدم تصديق الجمهور لحملة الأكاذيب الإسرائيلية لا تعني الكثير، لأنه من غير المتوقع أن تتراجع إسرائيل عما تفعله منذ بدء الحرب ومن قبلها، فكل هذه الإخفاقات لا أهمية لها طالما أن إسرائيل تستفيد من التعصب المتمثل في دعم الحكومات الغربية الموالية لها بقيادة الولايات المتحدة، وبالتالي ستظل آلة الدعاية الإسرائيلية مستمرة لنشر المزيد والمزيد من القصص، على أمل نسيان “الأكاذيب” السابقة.