هل يمكن للمحكمة الجنائية الدولية التحقيق بشأن جرائم الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة؟
في 18 نوفمبر 2023، أعلنت المحكمة الجنائية الدولية تقدم 5 دول بطلب للتحقيق في جرائم العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وهم دول أطراف في ميثاق روما التأسيسي للمحكمة (جنوب أفريقيا، وبنجلادش، وبوليفيا، وجزر القمر، وجيبوتي). يأتي هذا بعد أن قام المدعي العام للجنائية الدولية كريم خان، بنشر فيديو على حساب المحكمة على منصة “إكس” من الجانب المصري من معبر رفح الحدودي مع غزة، والذي أكد فيه أن مكتبه يجري تحقيقات نشطة حول الجرائم التي يُدعى ارتكابها في إسرائيل في السابع من أكتوبر، وأيضا فيما يتعلق بالوضع في غزة والضفة الغربية.
وتجدر الإشارة إلى أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها فتح تحقيق تجاه الجرائم الكبرى المرتكبة في فلسطين؛ ففي الثالث من مارس 2021، أعلن مكتب المدعية العام للمحكمة الجنائية الدولية أنها ستبدأ مباشرة تحقيق بخصوص الوضع في فلسطين، هذا التحقيق يغطي الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة (جرائم الحرب والعدوان والإبادة الجماعية)، وأن النطاق الإقليمي لذلك الاختصاص يمتد ليشمل غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية. ولفهم صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية في الجرائم التي ترتكب ضد فلسطين يجب توضيح العديد من النقاط كالتالي:
اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية والجرائم التي تنظر فيها
فيما يتعلق بمن تقاضي المحكمة، فتجدر الإشارة إلى أن المحكمة الجنائية الدولية تقاضي الأفراد، وليس الجماعات أو الدول. ويجوز أن يُقدم إلى المحكمة كل فرد يدُعى أنه ارتكب جرائم تدخل في اختصاصها. وتركز سياسة مكتب المدعى العام في الملاحقة القضائية على أولئك الذين يتحملون المسؤولية الكبرى عن الجرائم، استنادًا إلى الأدلة التي تم جمعها، ولا تأخذ في الاعتبار أي منصب رسمي يتقلده المدعى ارتكابه للجرائم.
أما بالنسبة إلى من يحق له تقديم أو رفع دعوى للمحكمة؛ فإنه وفقًا للمادة 13 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإنه يمكن رفع دعوى من قبل دولة طرف في نظام روما الأساسي وهي الدول المصدقة على الميثاق، أو إحالة قضية من قبل مجلس الأمن للمحكمة وفي هذه الحالة يتم استثناء شرط أن تكون الدولة التي يجري فيها التحقيق دولة ليست طرف، وأخيرًا يمكن للمدعي العام أن يباشر التحقيق في قضية ما يراها جريمة بعد أن تستوفي المعايير التي وضعها ميثاق روما.
أما فيما يتعلق بالجرائم التي تختص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر فيها؛ جرائم الإبادة الجماعية؛ وهي أفعال تهدف إلى إهلاك جماعة قومية، أو إثنية، أو عرقية، أو دينية وفقًا للمادة 6 من ميثاق روما الأساسي. أو جرائم ضد الإنسانية والتي تشمل القتل العمد، والاسترقاق، وإبعاد السكان أو النقل القسري للسكان وفقًا للمادة 7.
بالإضافة إلى ما سبق؛ جرائم الحرب والتي يحتوي أبرزها على تدمير واسع النطاق للممتلكات والاستيلاء عليها دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية وبطريقة عابثة، وقيام دولة الاحتلال بأبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها وفقًا للمادة 8. بالإضافة إلى جريمة العدوان وفقًا للمادة 5.
صلاحية رفع دعوى ضد جرائم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين
فيما يرتبط بصلاحية تقديم دعوى ضد الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية؛ في البداية تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل موقعة على نظام روما الأساسي وليست مصدقة عليه، وبالتالي فهي ليست طرفًا في الميثاق التأسيسي للمحكمة. وبناء على ذلك لا يمكن التحقيق في أي جريمة على أرضها إلا في ثلاث حالات: أولًا موافقة الحكومة الإسرائيلية على التعاون، ثانيًا رفع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة دعوى ضد شخص، ثالثًا موافقة أغلبية قضاة المحكمة على التحقيق مع أحد مواطني الدولة غير الطرف (إسرائيل) بدعوى ارتكابه جرائم كبرى على أرض دولة طرف (فلسطين) في ميثاق روما الأساسي.
ومنذ عام 2015 أصبحت دولة فلسطين طرفًا في ميثاق روما التأسيسي للمحكمة، وفي 2021 اختلف قضاة المحكمة حول شرعية التحقيق في انتهاكات إسرائيل التي هي دولة ليست طرف في الميثاق، في الجرائم التي ترتكبها على أرض فلسطين التي هي دولة طرف. وكان الخلاف الأساسي بين القضاة حول مدى شرعية عضوية فلسطين في ميثاق روما، وذلك باعتبار فلسطين ليست دولة بالأركان المتعارف عليها دوليًا وأن قرار “الجمعية العامة للأمم المتحدة” رقم 67/19 -وهو الإجراء الذي اتُخذ في ديسمبر 2012 والمتعلق بمنح “فلسطين وضع دولة مراقب غير عضو” في الأمم المتحدة–لا يُلزم المنظمة الدولية أو أعضاء المحكمة الجنائية الدولية الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
لكن في 5 فبراير 2021، توصلت الدائرة التمهيدية الأولى بـالمحكمة الجنائية الدولية إلى أن المحكمة تملك اختصاصًا في هذه الحالة بصرف النظر عن الوضع القانوني لفلسطين، وأن المحكمة تركز على تطبيق “نظام روما الأساسي”، وليس على المسألة الأوسع المتمثلة في شرعية الاعتراف بالدولة الفلسطينية بموجب القانون الدولي. ومن ثم خلصوا إلى أن العضوية الفلسطينية “كدولة طرف” في «المحكمة الجنائية الدولية» قد تم الحصول عليها بشكل قانوني.
مما يعني أحقية دولة فلسطين بوصفها دولة طرف يُمارَس عليها عدوان من قبل دولة أخرى غير طرف أن تقوم المحكمة بطلب من أعضائها أو بطلب من المدعي العام، بالتحقيق في الجرائم التي ترتكب على أرضها (الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967 بما في ذلك الضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس الشرقية)، وفقًا للمادة 12 من النظام التأسيسي للمحكمة.
وقد تم فتح تحقيق في القضية رسميًا في 3 مارس 2021، وتشمل القضايا التي تم النظر إليها والتحقيق فيها هي حرب غزة عام 2014، وسياسة الاستيطان الإسرائيلية، والاشتباكات الحدودية مع غزة في الفترة 2018-2019، بالإضافة إلى تضمين الأحداث المرتبطة بأعمال العنف في مايو 2021.
تأثير الأجندات السياسية على التحقيق في جرائم العدوان على قطاع غزة في 2023
بناء على ما تقدم، يمكن القول إنه يمكن رفع قضية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الجرائم التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة؛ فمن الناحية القانونية وبعد قرارات مارس 2021 في المحكمة الجنائية الدولية بشأن العدوان على فلسطين، وأيضًا من ناحية استيفاء شروط التحقيق في نوعية الجرائم التي ارتكبها نتنياهو في قطاع غزة، ستكون الدعوى صالحة قانونيًا. وذلك أيضًا بعد أن تقدمت 5 دول أطراف في نظام روما التأسيسي للمحكمة، وقبول المدعي العام “كريم خان” فتح التحقيق حول الانتهاكات الإنسانية وجرائم العدوان في غزة.
لكن من ناحية تحديد الأجندات السياسية؛ تجدر الإشارة إلى أن القضايا التي تحظى بأولوية هي القضايا التي تدعمها الدول الكبرى في المحكمة الجنائية، فعلى سبيل المثال كانت الولايات المتحدة الأمريكية من أكبر الدول الضاغطة على المحكمة من أجل إصدار مذكرة توقيف للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدعوى مسؤوليته عن جرائم حرب في أوكرانيا رغم اعتراضها الشديد قبل ذلك على سياسات المحكمة الجنائية بسبب تحقيقها مع مواطنين أمريكيين.
ولذلك فإن الأجندات السياسية تؤثر إلى حد كبير على قرارات المحكمة، ومثلما عرقلت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العضوين الدائمين بمجلس الأمن اللتين تتمتعان بحق النقض (الفيتو) إصدار مجلس الأمن قرار وقف فوري لإطلاق النار، يُرجح عرقلتهما للتحقيق في جرائم العدوان والإبادة الجماعية التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي.
وتظهر هذه الأجندات السياسية كذلك بالنظر إلى أنه في وقت سابق، أشارت المدعية العامة السابقة “بنسودا” إلى أن لديها أساسًا معقولًا للاعتقاد بأن حماس وجماعات فلسطينية مسلحة ارتكبت جرائم حرب، تعمّد فيها توجيه هجمات ضد المدنيين والمواقع المدنية، واستخدام الأشخاص المحميين كدروع، والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية.
وذلك على الرغم من أن بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة قد وثقت الآلاف من جرائم الحرب والعدوان والإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية -كما وصفتها البعثة- التي ارتُكبت ضد المدنيين في فلسطين وخاصة في قطاع غزة على وجه التحديد منذ عام 2009، وهو العام الذي يوافق تولي نتنياهو منصب رئيس الوزراء الإسرائيلي، مما يجعله المسؤول الأول عن تلك الجرائم. وكذلك وثقت التقارير الصادرة عن لجنة الأمم المتحدة المستقلة للتحقيق بشأن النزاع في غزة في عام 2014 التابعة لمجلس حقوق الإنسان جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة.
وفي ذلك السياق؛ يمكن القول بإن جدوى دور المحكمة الجنائية الدولية في التحقيق في الجرائم التي تُرتكب ضد المدنيين في قطاع غزة حاليًا محدود للغاية، وذلك على الرغم من صلاحياتها القانونية. وهو ما يرجع بشكل أساسي إلى الضغط السياسي على المحكمة الجنائية الدولية والتحكم في القضايا التي تأخذ أولوية للتحقيق بشأنها، حيث يتوقع أن تقوم إسرائيل بالضغط على الدول الحليفة لها والتي هي طرف في ميثاق روما التأسيسي وفي نفس الوقت تمول المحكمة بهدف قطع التمويل عنها.