تجدد اشتعال الأوضاع في السودان.. التطورات والدوافع
منذ يونيو الماضي لم يشهد الوضع في السودان تطورات كبيرة وخاصة على المستوى الميداني. ولكن في الأسابيع القليلة الماضية، اشتعلت المعارك مجددًا بين الجيش وقوات الدعم السريع، وحملت تغيرًا واضحًا في خريطة الصراع؛ إذ أصبحت المعارك تدور في مناطق ذات بعد عرقي، وخصوصًا في إقليم دارفور الذي شهد لسنوات طويلة صراعات مسلحة على أساس عرقي.
ويمكن إسناد محفزات تجدد النزاع مرة أخرى في السودان في الفترة الأخيرة إلى العديد من العوامل، والتي يأتي على رأسها انشغال العالم حاليًا بما في ذلك المنظمات الدولية التي تنادي بوقف إطلاق النار بين الطرفين بالعدوان الإسرائيلي الجاري على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر الماضي، وأيضًا تعطل المفاوضات الرامية إلى تهدئة الأوضاع وإيجاد حل بين الأطراف المتنازعة.
تطورات الأوضاع في السودان
بدخول النزاع شهره السابع مع بداية أكتوبر، ارتفعت وتيرة الاشتباكات مرة أخرى، وذلك على عكس ما كان سائدًا منذ يونيو 2023، حيث لم تتوقف الاشتباكات لكن لم تكن هناك تطورات جديدة فيما يتعلق بسيطرة كلا الجانبين على رُقع أخرى. ويمكن تناول هذه التطورات مناطقيًا على النحو التالي:
1- الخرطوم
خلال شهر أكتوبر كانت العاصمة السودانية “الخرطوم” من بين أكثر المناطق اشتعالًا بين طرفي النزاع. وقد جرت اشتباكات عديدة في مناطق عدة في العاصمة، لكن الرقعة الأكثر اشتعالًا كانت مدينة “أم درمان” غرب الخرطوم؛ في محاولات للسيطرة على مقرات الجيش السوادني خاصة قاعدة وادي سيدنا التي تضم المطار العسكري. واشتعلت كذلك أحياء أخرى متاخمة لسلاح المهندسين للسيطرة عليه مثل حي “الفتيحاب” جنوبي المدينة، و”القماير” و”الخدير” وحي “الروضة”. ومع نهاية أكتوبر، أعلنت قوات الدعم السريع عن انتزاعها من الجيش السوداني السيطرة على مطار غربي العاصمة الخرطوم.
ولم تكن منطقة غرب الخرطوم المنطقة الوحيدة المشتعلة، بل أيضًا في شمال الخرطوم استهدفت قوات الدعم السريع حي “السامراب” ومنطقة “شمبات” بمدنية بحري شمالي الخرطوم، فيما قامت قوات الجيش باستهداف جسر “شمبات” لقطع الإمداد العسكري عن قوات الدعم السريع. وبالتزامن مع تلك الأحدث في الشمال والغرب، لم يختلف الأمر كثيرًا في جنوب الخرطوم؛ إذ اندلعت اشتباكات عنيفة في محيط سلاح المدرعات في محاولات من قوات الدعم السريع للسيطرة عليه حتى حققت ذلك في نوفمبر، وقامت بقصف المناطق المتاخمة لمجمع الذخيرة الصناعي منطقة الشجرة العسكرية جنوبي الخرطوم خلال أكتوبر.
وفي نوفمبر ومع استمرار محاولات قوات الدعم السريع السيطرة على مواقع الجيش، دارت معركة بين طرفي الصراع للسيطرة على قاعدة النجومي الجوية التي تقع في أقصى جنوب العاصمة السودانية في منطقة جبل الأولياء، وهي إحدى أكثر المناطق ضراوة في القتال بين الطرفين. ورغم ادعاءات قوات الدعم السريع سيطرتها عليها إلا أن الجيش قد نفى ذلك.
وفي شرق ووسط العاصمة، كانت منطقة “العيلفون” الأكثر اشتعالًا في ولاية الجزيرة، وذلك على الرغم من أنها ظلت بمنأى عن المواجهات العسكرية منذ اندلاع الحرب، لكن أدت الاشتباكات فيها إلى سقوطها في النهاية في يد قوات الدعم السريع بالكامل، وبدأت في الانتشار والتوغل إلى الداخل باتجاه معسكر الجيش واستهدفت بذلك السيطرة على سلاح المهندسين.
2- دارفور
لا يختلف الوضع كثيرًا في إقليم دافور عن الأقاليم الأخرى التي تستمر فيها الاشتباكات، وخلال شهري أكتوبر ونوفمبر، حققت قوات الدعم السريع تقدمات ملحوظة وسيطرت على مدن جديدة من الإقليم، مما يعني قرب سقوط الإقليم كاملًا في يد القوات. ففي غرب دافور، سيطرت قوات الدعم السريع على مدينة جنينة وذلك بعد أن حاصرتها طوال الأشهر الماضية عقب اندلاع النزاع المسلح في 15 أبريل، حيث هاجمت قوات الدعم السريع الفرقة 15 مشاة في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور واشتبكت مع قوة من الجيش في محلية كرينك شرقي الجنينة، وانتهت بالسيطرة عليها من قبل قوات الدعم.
وفي وسط دافور، أعلنت قوات الدعم السريع إنها أحكمت قبضتها على الحامية العسكرية للجيش السوداني في مدينة زالنجي عاصمة ولاية وسط دارفور، حيث تم الاستيلاء على الفرقة 21 مشاة التابعة للجيش السوداني بكامل عتادها العسكري.
وفي ولاية جنوب دارفور، دارت اشتباكات عنيفة بين “الدعم السريع” والجيش منذ أكتوبر الماضي، خاصة في مدينة نيالا عاصمة الولاية؛ في محاولة للسيطرة على مقر قيادة الجيش والذي يعد بمثابة رئاسة الفرق العسكرية في غرب السودان وهو ما يتيح لها السيطرة على الجزء الأكبر من جنوب دارفور ذات الموقع الاستراتيجي، فيما يستميت الجيش في الدفاع عن قاعدته. وفي نهاية أكتوبر أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على مدينة نيالا، ثاني أكبر مدن السودان، وأعلنت السيطرة التامة على الفرقة 16 مشاة نيالا بولاية جنوب دارفور بعد اشتباكات عنيفة للغاية استمرت ثلاثة أيام.
وفي ولاية شمال دارفور، كانت البؤرة الأكثر اشتعالًا هي مدينة الفاشر عاصمة الولاية، حيث شنت قوات الدعم السريع هجومًا على مقر قيادة الجيش في الفاشر خاصة الفرقة 6 مشاه الواقعة غربي المدينة في بداية نوفمبر، وفي 8 نوفمبر أعلنت سيطرتها الكاملة على (اللواء 24) مشاة أم كدادة بولاية شمال دارفور .
وبدأت اشتباكات في منطقة جديدة وهي ولاية شرق دافور في أكتوبر في مدينة الضِّعين عاصمة الولاية، حيث هاجمت قوة من الدعم السريع دورية تابعة للجيش جنوب المدينة واستولت على مركبة عسكرية. وكانت شرق دارفور تعد الولاية الوحيدة في إقليم دارفور التي لم تشهد أي مواجهات عسكرية بين الطرفين المتنازعين في السودان، لكن تم التدخل السريع من قبل قيادات أهلية لتهدئة الوضع ومنع حدوث أي مواجهات في المنطقة.
3- كردفان
يستمر النزاع في إقليم كردفان ومحاولات قوات الدعم السريع للسيطرة على تمركزات الجيش السوداني خاصة في شمال وغرب كردفان، ففي نهاية شهر أكتوبر أعلنت قوات الدعم السريع أنها سيطرت على مطار “بليلة” بولاية غرب كردفان، والتي تقع على بعد 55 كلم جنوب غرب الفولة عاصمة ولاية غرب كردفان، ويوجد بالمنطقة حقل للنفط.
فيما اشتبكت القوتان في منطقة “ود عشانا” شرق “أم روابة” بولاية شمال كردفان، وفي نهاية الاشتباك سيطرت “الدعم السريع” على حامية “ود عشانا” العسكرية وهي آخر حامية حدودية للجيش بالحدود مع ولاية النيل الأبيض. وتسعى قوات الدعم السريع إلى السيطرة على مدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان الأبيض لموقعها الاستراتيجي الرابط بين إقليمي دارفور وكردفان.
عوامل دافعة لتجدد الاشتباكات
1 – الانشغال بالعدوان على غزة
مع اشتعال العدوان على قطاع غزة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية شهر أكتوبر، خطفت تلك الأحداث الاهتمام العالمي. فتجددت الاشتباكات والمواجهات في السودان بالتزامن مع اندلاع الحرب، والذي جعلها شبه منسية بالنسبة للمجتمع الدولي، حيث أصبحت أزمة غزة الشغل الشاغل للدول والمنظمات ووسائل الإعلام حول العالم. ولذلك فإن طرفي الصراع بالسودان استغلا ابتعاد الأضواء عن الاشتباكات في تنفيذ أعمال عسكرية عنيفة ربما ما كانت لتحدث في وجود الاهتمام الدولي.
وبالنظر إلى عدم تحقيق نتائج ملموسة في النزاع بين الطرفين على مدار الأربعة أشهر الأخيرة، بسبب توجه الأنظار نحو الخرطوم والدعوات المتكررة لوقف الحرب والتسليط الإعلامي المكثف على الأحداث في البلاد؛ كان من الصعب حسم النزاع وسيطرة طرف على رُقع أوسع. لكن العدوان على قطاع غزة حاليًا، شكل فرصة سانحة لتحقيق تقدمات ملحوظة، حتى ولو من خلال ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان مثلما فعلت قوات الدعم السريع. فيما تفاعلت دول محدودة للغاية مع تلك الأحداث غير المسبوقة في السودان.
2- تعطل مسارات الحل
منذ بداية النزاع المسلح في السودان في أبريل 2023، حاول العديد من القوى الدولية حل الأزمة في البلاد والتدخل بهدف مشترك وهو إيجاد حل سلمي بين الأطراف المتناحرة في السودان. ومن أهم هذه الجهود هي الجهود المصرية من خلال آلية دول الجوار التي عُقدت قمتها الأولى في 13 يوليو 2023، بالإضافة إلى اجتماعات الهيئة الحكومية للتنمية (الإيجاد) في كينيا، ومباحثات السلام التي دعت إليها جدة بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى جهود بعض الدول مثل تركيا والولايات المتحدة الأمريكية وإثيوبيا. إلا أن جميع هذه الجهود لم تنجح في وقف إطلاق النار بين الطرفين.
كان آخر تلك المباحثات مفاوضات جدة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، والتي لوحظ فيها الغياب الأمريكي، حيث استأنف منبر جدة المفاوضات بين طرفي النزاع بالسودان في 29 أكتوبر برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة العربية السعودية، والهيئة الحكومية للتنمية (الإيجاد)؛ وذلك في محاولة لتجاوز خيبة الأمل التي انتهت إليها الجولة الأولى من المباحثات التي أجريت في مايو.
كانت أبرز النقاط التي خرجت بها مفاوضات جدة: الالتزام بسيادة السودان، والحفاظ على وحدته وسلامة أراضيه، وحماية كافة المرافق الخاصة والعامة في السودان، والامتناع عن استخدامها للأغراض العسكرية، وتأكيد الجيش وقوات الدعم السريع ضرورة السماح بالمرور الآمن للعاملين في المجال الإنساني. فيما لم تتضمن المخرجات بشكل واضح أي بنود حول “وقف إطلاق النار بين الطرفين”، ولم تنص على أي بنود نصت عليها من قبل في مخرجات مباحثات جدة في مايو سوى تيسير المساعدات الإنسانية.
وما عكس هشاشة هذه المباحثات أيضًا على أرض الواقع عدم أخذ الأطراف المتنازعة هذه المحادثات على محمل جاد، حيث قامت قوات الدعم السريع خلال أيام المفاوضات العشر بإحراز تقدم على الأرض في دارفور بعد سيطرتها على ثلاث مدن رئيسة والسيطرة على مقرات عديدة من للجيش السوداني في الخرطوم وفي كردفان.
ولذلك يمكن إرجاع أسباب تعثر محادثات السلام في السودان إلى أن الطرفين لا يزالان على النقيض، ولا توجد أي أرضية مشتركة يمكن بناء عليها محادثات السلام، واستمرارهما في خرق أي هُدنً مقترحة داعية للسلام ووقف إطلاق النار، واستمرار الرهان على الحل العسكري، وعدم نية أي من الأطراف في تهدئة الأوضاع أو إنهاء النزاع قبل سيطرة أي طرف بشكل كامل على الآخر والقضاء عليه. وعلى الرغم من إعلان الطرفين استعدادهما لاستئناف الحوار فإنه واقعيًا استمرت المواجهات الميدانية في كافة ساحات القتال.
3- فتور الدور الأمريكي:
تحتفظ الولايات المتحدة الأمريكية بأوراق ضغط عديدة والتي من أبرزها العقوبات على المنظمات والأفراد الذين يؤججون الصراع في السودان ويعرقلون السلام ويرتكبون الانتهاكات ضد المدنيين. لكن ووفقًا لمراقبين تتعامل حاليًا الإدارة الأمريكية بشكل فاتر مع الملف السوداني.
وظهر فتور الدور الأمريكي بوضوح في مباحثات السلام الأخيرة في جدة، حيث قبل اكتمال التوقيع على اتفاق الملف الإنساني وإجراءات بناء الثقة بين الجيش السوداني والدعم السريع في منبر جدة غادر الوفد الأمريكي، إذ كان قد قرر ألا يتجاوز بقاؤه (10) أيام في مقر المفاوضات بجدة.
ويفسر تراجع أهمية السودان بالنسبة إلى أمريكيا في الأحداث الأخيرة المشتعلة في الشرق الأوسط، وتركيز أمريكيا على الحرب في غزة، ودعمها لإسرائيل الحليف الأكبر لها في المنطقة، مما يمكن تحليله بتراجع أهمية الأزمة السودانية في ملف سياسة الخارجية الأمريكية.
خلاصة القول؛ أحدثت الاشتباكات الأخيرة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع فارقًا بارزًا في رقعة النزاع. وفي ظل انشغال العالم حاليًا بأزمات وصراعات أخرى لا تقل أهمية عن النزاع في السودان، تبتعد الأنظار العالمية عن تدهور الأوضاع المتزايد وانتهاكات حقوق الإنسان المروعة التي يتعرض لها المدنيون. بالإضافة إلى أن استمرار رهان الطرفين على الحل العسكري وتراجع الضغوط الدولية ربما سيدفع إلى مزيد من الاشتباكات وتصاعد للعنف.