علاقات متينة دعمها القرب الجغرافي والمصالح الاقتصادية المشتركة وعدد كبير من اتفاقيات الشراكة التي تم توقيعها بين الجانبين والتي تأتي على رأسها اتفاقية التجارة الحرة التي دخلت حيز التنفيذ في عام 2010 لتلغي التعريفات الجمركية علي المنتجات الصناعية، وتمنح المنتجات الزراعية ميزة أكبر؛ تلك هي المحددات التي كانت دافعًا لتطور العلاقات المصرية الأوروبية من الناحية الاقتصادية في العقود الماضية. لكن السنوات التسع الأخيرة كان لها طابع خاص من حيث تعزيز التعاون المشترك بين الجانبين في مختلف المجالات والأصعدة، خاصة وأن الاتحاد الأوروبي بات أحد أكبر الداعمين لمصر إقليميًا ودوليًا لسنوات عديدة.
دبلوماسية الاقتصاد
ارتكزت السياسة الخارجية المصرية في السنوات الماضية على دعم استقرار المنطقة في محيطها الإقليمي والدولي، وترسيخ مبادئ الاحترام المتبادل بين الدول، والالتزام بالقانون الدولي والعهود والمواثيق التي تنظم العلاقات بين الدول. تلك المبادئ الرئيسة التي وضعتها الدولة المصرية كانت سببًا رئيسًا في نظرة الاتحاد الأوروبي لمصر كدولة محورية لاستقرار منطقة الشرق الأوسط، وبوابة للتجارة مع أفريقيا، ومن ثم فإن استقرار مصر من الناحية الاقتصادية والسياسية يصب بالأساس في خدمة حالة الاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط وحائط صد أساسي أمام موجات الهجرة غير الشرعية التي تنطلق من بلدان الشرق الأوسط المتأزمة إلى الاتحاد الأوروبي.
عززت تلك المحددات مكانة مصر كقوة إقليمية لا غنى عنها لضمان استقرار المنطقة، خاصة مع الدور المصري في جميع الملفات السياسية بالمنطقة والتي يتمثل آخرها في موقف مصر بكل أبعاده فيما يتعلق بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لا سيّما الدور الإنساني مع تخصيص مطار العريش كمركز دولي لاستقبال المساعدات الإنسانية وتوجيهها إلى القطاع.
لكن تلك الحرب على حدود مصر الشرقية تضيف على كاهل مصر مزيدًا من الأعباء في ملف إدارتها للهجرة غير الشرعية لأوروبا، وتكلف الحكومة المصرية المزيد لتأمين سواحلها وحماية حدودها، خاصة وأن مصر باتت محاطة بالنزاعات وعدم الاستقرار في كل اتجاهاتها الاستراتيجية، وهو ما يعيه الاتحاد الأوروبي جيدًا؛ إذ إنه يكلف الدولة المصرية تكاليف باهظة لاحتواء آثار ذلك على كافة المستويات، ومنها مستوى استضافة أعداد كبيرة من اللاجئين الذين وصلت أعدادهم أكثر من تسعة ملايين ضيف.
وهو ما يضع المزيد من التحديات أمام قدرة مصر على التزامها بمكافحة عمليات الهجرة غير الشرعية، ضمن استراتيجيتها الوطنية لمكافحة الهجرة غير الشرعية والتي انطلقت في 2016، ومبادرة “مراكب النجاة” المصرية التي انطلقت في عام 2019، وغيرها من الجهود المصرية الأخرى التي لولاها لكانت أوروبا غارقة في المهاجرين غير الشرعيين والأزمات الاقتصادية والإنسانية.
تلك التحديات السابقة رسخت مفهوم الاستثمار في التنمية لدى الاتحاد الأوروبي؛ إذ تستهدف المساعدات الإنمائية الأوروبية خلق عدد أكبر من فرص العمل وتوفير الدعم المالي للمشروعات كثيفة العمالة؛ بهدف دعم الاقتصاد واستيعاب القوة البشرية الهائلة التي تحتضنها الدولة المصرية، الأمر الذي سيسهم بنهاية الأمر بشكل غير مباشر في تجنب موجات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
وتشير البيانات إلى تقديم الاتحاد الأوروبي مساعدات إنمائية لمصر بحوالي 1.7 – 2.0 مليار دولار أمريكي سنويًا، هذا فضلًا عن إجراء العديد من مبادرات مبادلة الديون مع مصر (إعفاء مصر من سداد ديونها إلى الاتحاد الأوروبي مقابل استخدام تلك الأموال محليًا في تنفيذ مشروعات تنموية يحددها الاتفاق مع الدول الدائنة بشكل يسهم في تعزيز التنمية الاقتصادية).
هذا فضلًا عن توقيع مصر اتفاقا مع الاتحاد الأوروبي في أكتوبر من عام 2022 تشكل المرحلة الأولى منه حصول مصر على برنامج إدارة الحدود بقيمة 80 مليون يورو ضمن جهود الاتحاد الأوروبي لمكافحة الهجرة غير الشرعية. لكن تظل تلك الجهود غير كافية في ظل ما تتحمله الدولة المصرية من توابع عدم الاستقرار بدول الجوار، وضمان عدم انتشار فوضى المهاجرين بمنطقة البحر المتوسط.
تصدير الطاقة
يأتي الدور المصري بارزًا في ملف الطاقة وبالتحديد منتدى غاز شرق المتوسط الذي تعول عليه أوروبا للوفاء باحتياجاتها من الطاقة لتعويض النقص في الطاقة التي كان يتم الحصول عليها من روسيا. وقد كان لمصر دور مهم في تعويض أوروبا بجزء من احتياجاتها من الغاز عبر محطتي إسالة ادكو ودمياط؛ إذ استخدمت هاتين المحطتين بشكل رئيس لإعادة معالجة الغاز الوارد عبر الأنابيب من حقل تمار الإسرائيلي ليتم شحنه في سفن الشحن بعد إسالته وتوجيهه إلى أوروبا.
تلك العوامل دفعت مصر لتحقيق أرقام قياسية في صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا لتصل إجمالي الشحنات التي تم تصديرها لحوالي 8 ملايين طن هذا العام مقارنة بنحو 7 ملايين طن للعام السابق، وبلغ إجمالي قيمة صادرات مصر من الغاز الطبيعي المسال خلال عام 2022 حوالي 8.4 مليارات دولار.
تصدير الطاقة المتجددة يعد كذلك أحد أهم الشراكات الأكبر بين الجانبين المصري والأوروبي، حيث تم توقيع مذكرة تفاهم بين الشركة المصرية لنقل الكهرباء وشركة “جان دي نال” البلجيكية الرائدة في مجال إنشاء البنية التحتية للكابلات البحرية وخدمات سوق الطاقة البحري. بموجب تلك الاتفاقية، تبدأ الشركة في دراسة مشروع تصدير الطاقة المتجددة بين مصر وأوروبا لإنشاء خط ربط بحري بين مصر وأوروبا بقدرة لا تقل عن 2 جيجاوات، وهو ملف سيسهم بشكل كبير في تعزيز أطر التعاون بين البلدين، وينوع من صادرات الاقتصاد المصري إلى أوروبا إلى سلع وغاز طبيعي وخدمات السياحة والطاقة المتجددة.
الاستثمار والتبادل التجاري
عكست الأرقام والبيانات الاقتصادية التقارب في الرؤى بين مصر والاتحاد الأوروبي في الملفات الاقتصادية وغير الاقتصادية، وقد انعكس ذلك على مستوى العلاقات الاقتصادية بين الجانبين؛ إذ بلغ إجمالي الاستثمارات الأوروبية التراكمية في مصر قرابة 40 مليار دولار أمريكي، وأضحى الاتحاد الأوروبي أحد أكبر الشركاء التجاريين لمصر باستحواذه على حوالي 22% من حجم الصادرات المصرية إلى العالم الخارجي، وحوالي 25% من واردات مصر.
فقد بلغت الصادرات المصرية إلى أوروبا حوالي 16.3مليار يورو في عام 2022 مقابل 9.1 مليارات يورو في عام 2021، تمثل الصادرات السلعية (الصادرات بخلاف صادرات الطاقة) منها حوالي 9.3 مليارات يورو في عام 2022 مقارنة بنحو 6.6 مليارات يورو في عام 2021. وقد كانت إيطاليا في مقدمة الدول التي استقبلت الصادرات المصرية غير البترولية بحوالي 21 %، تلتها إسبانيا بنسبة 13% ثم فرنسا بنسبة 11.4% ثم ألمانيا بنسبة 9% ثم هولندا بنسبة 8.5% وبلجيكا بنسبة 6 %.
وقد أسهمت الزيادة في الصادرات المصرية في خفض العجز التجاري بين مصر والاتحاد الأوروبي ليصل إلى 4.5 مليارات يورو في عام 2022 مقابل عجز بحوالي 12.4 مليار يورو في العام السابق له. وقد كان قطاع الأسمدة المصرية من بين القطاعات التي حققت استفادة كبيرة؛ إذ ارتفعت صادراته بنسبة 142% لتصل إلى 1.8 مليار يورو في عام 2022، والذي استفاد من البنية التحتية بالقطاع بالإضافة إلى النقص في سوق العرض العالمي الذي خلفه الانسحاب الروسي من الإنتاج بالقطاع.