
الحرب الموازية في الضفة الغربية.. كيف تدفع إسرائيل إلى إشعال “طوفان الضفة”؟
بينما تلتفت أنظار العالم نحو الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تشهد الضفة الغربية حربًا موازية يستخدم فيها المستوطنون الإسرائيليون كل وسائل العنف والتنكيل بالفلسطينيين، ما يدفع بالمشهد إلى حافة الانفجار ويهدد بمزيد من التعقد. فمنذ اندلاع أحداث السابع من أكتوبر، لم تتوقف القوات الإسرائيلية عن عمليات الاقتحام والاعتقالات والاعتداء على الفلسطينيين بالضرب المبرح أو باستخدام الرصاص الحي. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أعطت الحكومة الإسرائيلية الضوء الأخضر للمستوطنين للجوء إلى أقصى درجات العنف، ووصل الأمر إلى تسليحهم؛ بذريعة الدفاع عن أنفسهم، الأمر الذى يٌنذر بكارثة.
وعلى مدار شهر متصل، تشهد أنحاء متفرقة من الضفة الغربية والقدس حملات مداهمة واقتحامات للقرى والبلدات من جانب الجيش الإسرائيلي بشكل يومي، مع استغلال المستوطنين الوضع من خلال تصعيد الانتهاكات ضد الفلسطينيين والسيطرة على المزيد من الأراضي دون رادع. وفي الوقت الذي يرتكب فيه الاحتلال جميع مظاهر الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، فإنه يصعد إجراءاته التنكيلية ضد الفلسطينيين بالضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، ويفرض عليهم سلسلة طويلة من العقوبات الجماعية والتدابير العنصرية التي تشل حياتهم بالكامل، ويعتقلهم في مناطق سكنهم بشكل جماعي ويمنعهم من ممارسة حياتهم الطبيعية والتنقل بحرية في أرضهم. وترتكب القوات الإسرائيلية كذلك جرائم يومية أثناء قيامها باجتياح واقتحام المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية، مخلفة قتلى وجرحى وتخريبًا للبنى التحتية.
وفي السياق ذاته، في أعقاب جلسة لتقييم الأوضاع الأمنية عقدها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بمشاركة قادة الأجهزة الأمنية الاستخباراتية –بعد شن الجيش الإسرائيلي أعنف عملية عسكرية في مخيم جنين منذ 2005- قرر الجيش الإسرائيلي الدفع بكتائب إضافية إلى الضفة الغربية، وتكثيف عملياته المركزة في شمال الضفة، مقاومًا الضغوط الكبيرة من أجل الخروج إلى عملية واسعة في الشمال، حيث تقرر الدفع بثلاث كتائب عسكرية ووحدات خاصة إلى الشوارع والتقاطعات ومراكز التجمهر والنقاط الساخنة في جميع أنحاء الضفة الغربية. وشملت القرارات الإسرائيلية كذلك: تعزيز الجهود الاستخباراتية، وتوسيع عمليات اعتقال الناشطين، وشن هجمات مركزة محدودة في شمال الضفة، ومعالجة عمليات “تدفيع الثمن” الإرهابية التي يشنها المستوطنون على البلدات الفلسطينية.
في الواقع، فإن الحرب الموازية التي تشنها إسرائيل في الضفة الغربية تعد استغلالًا لانشغال العالم بالحرب في قطاع غزة، وتشكل فرصة للاحتلال الإسرائيلي لترسيخ واقع جديد على الأرض يسهل عليه تمرير مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، من خلال تعميق جريمة التهجير الصامت في الضفة والسيطرة على المزيد من الأراضي.
وفي ظل الانتهاكات المتواصلة من قبل قوات الاحتلال على أراضي الضفة الغربية، تبرز العديد من التساؤلات عن أهداف إسرائيل الحقيقية من إشعال الوضع في الضفة الغربية، وعن ماهية التداعيات المتوقعة على مستقبل حكومة بنيامين نتنياهو؟
المشهد الراهن في الضفة
منذ السابع من أكتوبر، لم تتوقف القوات الإسرائيلية عن استخدام العنف والاقتحامات الواسعة للمدن والقرى والبلدات الفلسطينية مع فرض إغلاق شامل عليها، وكثفت أيضًا الاعتداءات على الفلسطينيين، وتشن حملات اعتقال في مختلف أنحاء مناطق الضفة الغربية، وتستغل انشغال العالم بالحرب المندلعة في غزة وتقوم بتهجير أعداد كبيرة من الفلسطينيين في أنحاء الضفة بصورة قسرية.
ويمكن وصف أبرز سمات المشهد في الضفة الغربية منذ اندلاع هجوم السابع من أكتوبر كالتالي:
1 – حملات اعتقالات واسعة واعتداءات مستمرة
تضم المستوطنات الإسرائيلية على أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية ما يفوق 700 ألف مستوطن عكفوا على مدار سنوات على استخدام شتى وسائل العنف ضد الفلسطينيين. فقبل عملية “طوفان الأقصى”، شهدت أعمال العنف التي نفذها مستوطنون إسرائيليون متطرفون ضد مدنيين فلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة ارتفاعًا ملحوظًا، فخلال العام 2023 فقط، سُجل نحو مئة حادث اعتداء شهريا وفقا للأمم المتحدة.
وبعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تكثفت الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، والتي شملت التعدي على ممتلكات الغير، وقطع الطرق أو الوصول إلى الأراضي ومصادر المياه، وإشعال النار في السيارات أو المنازل أو غيرها من الممتلكات، وسرقة الماشية، وحرق أشجار الزيتون أو قطعها، ورشق الحجارة وتخريب الكنائس والمساجد، فضلًا عن أشكال مختلفة من التحرش والتهديد الجسدي واللفظي. وفي عدة حالات، استخدم المستوطنون الذخيرة الحية لقتل وإصابة الفلسطينيين.
ليس ذلك فحسب، بل عززت السلطات الإسرائيلية بشكل كبير من استخدامها للاعتقال الإداري، وهو شكل من أشكال الاحتجاز التعسفي للفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية المحتلة، بالإضافة إلى تدابير الطوارئ الموسعة التي تتيح المعاملة اللا إنسانية والمهينة للسجناء.
ومنذ 7 أكتوبر، اعتقلت القوات الإسرائيلية أكثر من 2400 رجل وامرأة فلسطينيين بحسب “نادي الأسير الفلسطيني”. ووفقًا لمنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “هموكيد” في الفترة ما بين 1 أكتوبر و1 نوفمبر، ارتفع إجمالي عدد الفلسطينيين المحتجزين رهن الاعتقال الإداري، دون تهمة أو محاكمة، من 1,319 إلى 2,070.
ووفقًا لتقرير نشره “نادي الأسير الفلسطيني”، فإن المعتقلين تعرضوا للتهديد، وللضرب المبرح والتنكيل، وأصيب عدد منهم بكسور. إضافة إلى ذلك، فقد قام جنود القوات الإسرائيلية بتصوير مجموعة منهم مع وضع العلم الإسرائيلي أثناء تصويرهم، وبترقيم عدد من المعتقلين، عبر الكتابة على جباههم أرقامًا معينة. فضلًا عن اعتقال الأقارب وتعذيبهم بما في ذلك البنات والزوجات واتخاذهن رهائن.
وكذلك شنت قوات الاحتلال حملة اعتقالات شملت 23 صحفيًا على الأقل، إضافة إلى ناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي من الضفة الغربية كانوا يواكبون الأحداث اليومية، واستدعت للتحقيق عددًا آخر من الصحفيين والناشطين وحذرتهم من التحريض أو الإشادة بغزة.
2 – الاقتحامات المتواصلة
خلال الأسابيع الأخيرة، اقتحم الجيش الإسرائيلي مناطق واسعة في الضفة الغربية، واصطدم بمسلحين ومتظاهرين قبل أن تنفجر مواجهات، سجل أعنفها في مخيم جنين شمال الضفة الذي تحول إلى ساحة حرب استخدمت فيه إسرائيل قوة نارية كبيرة، ومسيّرات من الجو، مقابل مسلحين حاولوا صد القوات المقتحمة بالرصاص والكمائن والعبوات الناسفة. وأعلنت وزارة الصحة التابعة للسلطة الفلسطينية، في 10 نوفمبر، مقتل 14 شخصًا برصاص الجيش الإسرائيلي خلال يوم واحد فقط من القتال في جنين التي شهدت أعنف مواجهات منذ عام 2005.
ونفذت قوات الاحتلال كذلك عدة اقتحامات خلال الأيام الماضية لعدد من المناطق شمال الضفة الغربية مثل: نابلس، وطولكرم، وقلقيلية؛ اعتقلت خلالها مواطنين وأصابت آخرين. وفي القدس، اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي مخيم شعفاط للاجئين حيث اعتقلت عددًا من الفلسطينيين من داخله وداهمت منازلهم.
أما جنوب الضفة الغربية، ففي بيت لحم كانت منطقة الخضر هدفًا للاقتحامات الإسرائيلية، إلى جانب الخليل حيث تم اقتحام دورا، وإذنا، وبيت فجار، وطوباس وسجلت مواجهات بين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية التي دخلت إلى البلدات معززة بجرافات وآليات عسكرية. وداهمت قوات الاحتلال مخيمي عقبة جبر وعين سلطان في محافظة أريحا، واعتقلت عددًا من الأشخاص منهما. كذلك داهم الجنود منازل عدد من الفلسطينيين في المناطق التي تم اقتحامها، وتم نقل المعتقلين إلى مراكز توقيف مؤقتة، قبل إحالتهم إلى مراكز التحقيق الرئيسة أو السجون.
3- التهجير الصامت
كشفت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عن منشور يُعتقد أن مستوطنين وزعوه في الضفة، يهددون فيه أهلها بالترحيل القسري إلى الأردن. وجاء في المنشور أن “حركة حماس ارتكبت أكبر خطأ تاريخي معلنة الحرب علينا”، في إشارة إلى هجوم 7 أكتوبر. ولا يحمل المنشور توقيع أي جهة، لكنه خاطب الفلسطينيين بـ”أهالي العدو في الضفة اليهودية”، وتابع: “أردتم نكبة مثيلة بـ1948، فوالله سننزل على رؤوسكم الطامة الكبرى قريبًا”، مضيفا أن أمامهم فرصة للهروب قبل أن يتم طردهم بالقوة.
ويأتي ذلك في إطار ارتكاب إسرائيل لجريمة التهجير الصامت في الضفة الغربية، وإصرارها على تفجير الوضع في الضفة الغربية تزامنًا مع الحرب الدائرة في قطاع غزة. لكن تلك الجريمة لم تبدأ مؤخرًا، بل إن إسرائيل قامت بتطبيقها على الأرض بصورة تدريجية على مدار العقود الماضية، لكنها كثفت جهودها بعد السابع من أكتوبر في إطار سعيها إلى السيطرة على مزيد من أراضي الضفة الغربية وطرد سكانها.
تضمن تقرير لمكتب تنسيق الشئون الإنسانية في الأمم المتحدة “أوتشا” التأكيد على طرد ما لا يقل عن ٩٨ أسرة فلسطينية، تضم أكثر من ٨٠٠ فرد، من ١٥ تجمعًا رعويًا أو بدويًا في المنطقة “ج” منذ ٧ أكتوبر الماضي. وطبقًا لتقديرات الأمم المتحدة، فإن ما يقرب من ٢٠٠٠ فلسطيني هُجّروا منذ بداية العام الجاري، في ظل استمرار عنف المستوطنين في الضفة الغربية، وخاصة المنطقة “ج” التي تشكل ٦١٪ من مساحتها وينظر إليها المجتمع الدولي على أنها أساس الدولة الفلسطينية المستقبلية.
ووفقًا للتقرير، فإن 14 فلسطينيًا، نصفهم من الأطفال، اضطروا بعد أن هددهم مستوطنون إسرائيليون مسلحون بقتلهم إن لم يغادروا، إلى النزوح من “خربة زتونة” جنوب الضفة الغربية. وفي أواخر أكتوبر الماضي، اضطر فلسطينيون إلى تفكيك نحو 50 مبنىً وإخلاء المنطقة بمواشيهم التي يبلغ عددها خمسة آلاف رأس. ووثق مكتب “أوتشا” في السابق هجمات المستوطنين على هذا المجتمع، آخرها في 12 و21 و26 من نفس الشهر، وبهذا أصبح الآن حوالي ثلثي الأسر الفلسطينية التي يتألف منها المجتمع الرعوي نازحة.
إضافة إلى ذلك، نزح أربعون فلسطينيًا من مجتمع الجنوب الرعوي في 9أكتوبر الماضي، وكان مستوطنون إسرائيليون مسلحون قد داهموا المنطقة وهددوا السكان بالقتل إذا لم يخلوا المكان خلال ساعة. وفي 12 من الشهر ذاته، هُجّرت ثماني أسر فلسطينية تضم 51 شخصًا من تجمع “شحدة وهملان” الرعوي في نابلس شمال الضفة الغربية، بعد أن هددهم المستوطنون بالقتل وبإضرام النار في خيامهم في أثناء الليل.
وفي تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، قال مدير ومؤسس منظمة “كيريم نافوت”، التي تراقب أنشطة الاستيطان، درور إيتكس، إنه منذ هجوم حماس في 7 أكتوبر الماضي، يستغل المستوطنون غطاء الحرب لإعادة رسم الخريطة الديموجرافية للضفة الغربية، موضحًا أن الفكرة هي طرد الفلسطينيين من المنطقة “ج”، وحصرهم في جيوب داخل المنطقة “أ”، التي تضم المراكز الحضرية في الأراضي الفلسطينية.
ورغم أن محاولات الضغط على الفلسطينيين لمغادرة المنطقة “ج” ليست جديدة، قال “إيتكس” إن بعض المستوطنين والمسؤولين الإسرائيليين يرون حرب حماس وإسرائيل فرصة لتوسيع المبادرة عبر تصعيد حدة العنف وترهيب الفلسطينيين. وأشار التقرير إلى انتشار دعوات الطرد الجماعي للفلسطينيين من منازلهم في الضفة الغربية وغزة منذ بدء الحرب مع حماس، في ما وصفته الجماعات الحقوقية بأنه “عملية تعميم للتهجير في الخطاب الإسرائيلي”.
ولفت تقرير فورين بوليسي إلى أنه في جنوبي جبل الخليل، المنطقة الرئيسة للتهجير حتى الآن، يقول النشطاء الفلسطينيون والإسرائيليون إن المستوطنين يقتحمون المنازل، ويضربون المدنيين، ويطلقون النار، ويقطعون الكهرباء، ويغلقون الطرق، ويُصدرون تحذيرات نهائية بالمغادرة أو القتل.
4 – نشر الأسلحة بين المستوطنين
منح وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، أحد أبرز وزراء اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية، عشرات الآلاف من تصاريح حمل السلاح للإسرائيليين، معلنًا أن “إسرائيل تسلح نفسها”. وقام بتوزيع بنادق هجومية على مستوطنين، وقال على موقع “إكس” يوم 12 أكتوبر: “تم حتى الآن شراء نحو 4 آلاف قطعة سلاح من أصل نحو 20 ألف قطعة، سيتم شراؤها”، مضيفًا أنه تم بالفعل “توزيع نحو ألفي قطعة سلاح على عشرات المستوطنات في المناطق الشمالية والساحلية، وسيتم توزيع المزيد من الأسلحة على المزيد من المستوطنات”.
وفي 4 نوفمبر، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أن الحكومة الإسرائيلية طلبت من إدارة الرئيس جو بايدن الحصول على 24 ألف بندقية هجومية، وأضافت الصحيفة أن الطلب أثار مخاوف لدى مشرعين أمريكيين وبعض مسؤولي الخارجية الذين يخشون احتمال وصول الأسلحة إلى أيدي المستوطنين والميليشيات المدنية التي تحاول إجبار الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم مما قد يؤجج العنف بالضفة المحتلة.
وتبلغ قيمة الصفقة 34 مليون دولار، وجرى طلبها مباشرة من قبل شركات صناعة الأسلحة الأمريكية، لكنها تتطلب موافقة الخارجية وإخطار الكونجرس. وتتزامن تلك الصفقة المفترضة مع توزيع “بن غفير” بنادق على المستوطنين بالضفة، وقيامه بتشكيل مليشيات خاصة تحمل اسم “فرق أمنية”. ونقلت “نيويورك تايمز” عن مصادر مطلعة أن إسرائيل أكدت أن البنادق ستستخدم من قبل الشرطة، لكنها أشارت أيضًا إلى إمكانية إعطائها للمدنيين.
وبشكل عام، دفعت الحالة الأمنية في إسرائيل بعد هجمات 7 أكتوبر بالإسرائيليين إلى تسليح أنفسهم، مع توقع تضاعف عدد مالكي الأسلحة ثلاث مرات. وقد جعل وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير من أولوياته تخفيف معايير ترخيص الأسلحة للإسرائيليين، والمستوطنين منهم بشكل خاص.
5- حصار وحظر تجول
فور وقوع عملية “طوفان الأقصى”، فرض الاحتلال طوقًا مشددًا على مدن وقرى الضفة الغربية، وأغلق المعابر التي تربطها بإسرائيل، وأغلق المنفذ الوحيد الذي يربطها بالأردن. فضلًا عن ذلك، يغلق الجيش الإسرائيلي في الساعات المتأخرة من الليل المداخل الرئيسة لمدن الضفة الغربية ويقيم الحواجز العسكرية على مداخل المدن وسط حملة تفتيش واسعة تفرض أقصى وسائل التفتيش على الفلسطينيين، ويصل الأمر إلى تفتيش الهواتف الخلوية واعتقال أي شخص يثبت نشره لمنشورات ضد إسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي أو يحتوي هاتفه على صور مخالفة.
وشمل الإغلاق كل المحافظات الفلسطينية، وأبقى الاحتلال على منفذ واحد ضيق لكل محافظة يربطها بباقي المحافظات للدخول والخروج من خلال شوارع استيطانية، وهو ما يصعب على الفلسطينيين الحركة والتنقل، وأغلقت الشوارع إما بسواتر ترابية أو مكعبات إسمنتية أو بوابات حديدية أو حواجز مأهولة بالجنود.
ماذا تريد إسرائيل من الضفة؟
يمكن القول أن سياسة إسرائيل تجاه الضفة الغربية ترتكز بالأساس على تكريس الأمر الواقع على الأرض، والقضاء على أي آمال لإقامة دولة فلسطينية مستقلة؛ من خلال توسيع رقعة المستوطنات. وبعد تولي الائتلاف اليميني المتطرف بقيادة “نتنياهو” في إسرائيل، استخدم المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية أقصى درجات العنف، ووُصف العامان 2022 و2023 بالأكثر عنفًا على مدار عقود، وهو ما رفع من حدة العنف بين المستوطنين والفلسطينيين.
إلا أن أحداث 7 أكتوبر جاءت لتصب الزيت على النار، وباتت الأوضاع على أراضي الضفة الغربية على حافة الانفجار؛ بسبب قيام حكومة نتنياهو بإعطاء الضوء الأخضر للمستوطنين لاستخدام العنف، مستغلين بذلك اتجاه أنظار العالم نحو الحرب الدائرة في قطاع غزة.
وإجمالًا، فإن أهداف إسرائيل في الضفة الغربية المحتلة بعد السابع من أكتوبر تنحصر في التالي:
أولًا: الأهداف المعلنة
تعلن إسرائيل أن هناك خلايا إرهابية في الضفة الغربية بعضها على علاقة بحركة حماس، وبالتالي فهناك ضرورة ملحة لحماية عمق دولة إسرائيل. وللتدليل على ذلك، قامت طائرة استطلاع إسرائيلية بإلقاء منشورات في سماء مخيم جنين، كُتب عليها “إن نشاط جيش الدفاع في مخيم جنين كان بسبب أعمال حركة حماس الإرهابية والتنظيمات الأخرى، لا تتعاونوا معهم”.
ثانيًا: الأهداف الخفية
1- وقف تمدد الصراع
أسهمت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في تأجيج مشاعر الغضب لدى فلسطينيي الضفة الغربية، في الوقت الذي يعاني فيه هؤلاء من عنف المستوطنين دون رادع، ما أسهم في تزايد المخاوف من احتمال انتشار الصراع وتمدد الحرب إلى جبهة ثانية، الضفة الغربية، الأكبر حجمًا بكثير. وقد أسهم في ذلك أيضًا تحذيرات حماس من تمدد الصراع ليشمل الضفة إضافة إلى لبنان، وهو ما دفع بإسرائيل إلى استخدام أقصى درجات العنف على أراضي الضفة بحجة استهداف عناصر المقاومة.
وتكمن الأهداف الحقيقية خلف الإجراءات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة إلى فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، وهو ما أُعلن عنه صراحة من خلال دعوة وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش إلى إنشاء مناطق عازلة في الضفة الغربية، لا يدخلها العرب، حيث ترتكز أهداف إسرائيل الحقيقية على سرقة المزيد من أراضي الفلسطينيين وضمها إلى المستعمرات والبؤر العشوائية القائمة وتعميق وتوسيع الاستيطان في أرض دولة فلسطين.
2- تكريس الأمر الواقع على الأرض
تعمل قوات الاحتلال على مدار عقود لمواجهة كل ما هو فلسطيني على الأراضي المحتلة، والسيطرة على المزيد من الأراضي الفلسطينية. وجاءت الحرب الحالية لتشكل فرصة لإسرائيل لتطبيق سياساتها الانتقامية بصورة أكثر عنفًا في ظل غياب أي مساءلة أو اهتمام كبير بما يدور على أراضي الضفة. لذلك فمنذ السابع من أكتوبر، تقوم إسرائيل بفرض التهجير التدريجي لفلسطينيي الضفة الغربية من أراضيهم، ولجأت إلى استخدام تكتيكات لتعطيل حياة الفلسطينيين، حيث استهدفتهم اقتصاديًا من خلال تخريب بساتين الزيتون؛ فوفقًا لتصريحات مصادر فلسطينية لوكالة أنباء “شينخوا” الصينية ، قام المستوطنون بقطع 170 شجرة زيتون معمرة تتراوح أعمارها ما بين 50 إلى 80 عامًا في قريتي ياسوف والساوية شرق مدينة سلفيت، وهو ما يأتي في إطار استهداف التراث الفلسطيني أيضًا. وكذلك يُحظر على الفلسطينيين حصاد ثمار الزيتون في موسمه. إضافة إلى ذلك، تقوم إسرائيل بتهجير الرعاة الفلسطينيين من قراهم، بل وقتل الماشية التي يمتلكونها، وحرمانهم من المياه والمراعي والاستيلاء على مساحات شاسعة من هذه الأراضي.
3- إطالة أمد الحرب
بصورة شخصية، يسعى بنيامين نتنياهو إلى إطالة أمد الحرب الحالية، وعلى الرغم من أنه لا يصدر قراراته بصورة منفردة، فإنه يستهدف امتداد المدة الزمنية للصراع؛ نظرًا لوقوعه في مأزق بعد أن تراجعت شعبيته بصورة كبيرة، وتزايدت الاتهامات الموجهة له بالفشل في الحرب على غزة، بل ووصل الأمر لمطالبته بالاستقالة الفورية.
لذلك “فنتنياهو” يدرك تمامًا، كما تدرك حكومته، أن انتهاء الحرب سيتزامن معها انتهاء حكومته، وبالتالي فإن تحقيق انتصار كبير في تلك المعركة الدائرة هو ما يمكن أن يعطي الأمل لأعضاء الائتلاف بما فيهم “نتنياهو”. وهو احتمال ضئيل للغاية، خاصة وأن قضية الأسرى الإسرائيليين لدى حماس لم يتم حلها حتى الآن، وتصعب موقف الحكومة لإدراكها أن الخضوع لاستخدام ورقة الأسرى مع حماس والموافقة على التبادل سيتم تصويره على أنه نصر لحماس، وليس لحكومة “نتنياهو”.
وهو ما يفرض على رئيس الوزراء الإسرائيلي خيار إطالة أمد الحرب، حتى وإن شكل ذلك ضغطًا هائلًا على الجيش الذي يواجه حربًا ضاريه في قطاع غزة، إلا أنه لا مفر من ذلك، ولا يوجد أمام إسرائيل إلا محاولة فرض السيطرة على جبهة الضفة الغربية القابلة للانفجار في أي لحظة.
4- القضاء على المقاومة في الضفة الغربية
تخشى إسرائيل من انفجار الضفة الغربية في الوقت الذي تواجه فيه حربًا كارثية في قطاع غزة، حيث ترتكز مباعث قلق إسرائيل في الضفة الغربية على الهجمات التي ينفذها الفلسطينيون الذين لديهم ولاءات متباينة، ولكن يجمع بينهم الازدراء العام للاحتلال، خاصة بعد ان أظهرت استطلاعات رأي جرت في الآونة الأخيرة وجود دعم شعبي هائل بين الفلسطينيين للفصائل المسلحة. وحتى قبل العدوان الحالي على غزة، كانت الضفة الغربية تشهد تصاعدًا في عمليات التصدي للاحتلال.
وقد عزز من مخاوف إسرائيل أنه مع بدء هذه التطورات شهدت الضفة الغربية بروز جماعات مسلحة جديدة وتصعيدًا في عنف المستوطنين. فالتصعيد الأخير في الصراع المسلح والجمود الحالي في الحوار السياسي الفلسطيني الإسرائيلي يوفران الآن للفصائل الفلسطينية فرصة إعادة تنظيم صفوفها داخل الضفة الغربية، خاصة في ظل وجود حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة تؤيد المستوطنات وترفض أي شراكة سياسية وتقوم بعملية إبادة جماعية وتهجير لفلسطينيي غزة.
وقد شهدت الفترة الأخيرة قبل العدوان على غزة اتباع نهج المسار المزدوج، من قبل حماس، وهو إجراء عمليات أمنية لمحاسبة الإسرائيليين على جرائمهم في الضفة الغربية المحتلة، وتقديم الدعم المالي لمجموعات المقاومة لشراء الأسلحة. وقد ولّدت تلك الاستراتيجية عددًا من العمليات الناجحة لمقاتلي المقاومة في الضفة الغربية المحتلة والقدس، ووصفت كتائب القسام تلك العمليات بأنها بداية لمرحلة جديدة لمقاومة الاحتلال في الضفة الغربية.
لذلك، تطبق إسرائيل نهجًا استباقيًا في سياستها تجاه الضفة الغربية؛ خشية انفجار الوضع بصورة يصعب السيطرة عليها، خاصة مع قيام مجموعة “عرين الأسود” الفلسطينية بدعوة المواطنين في الضفة الغربية إلى التوجه لنقاط التماس والدخول إلى المستوطنات وخوض مواجهات مع المستوطنين، في بيان حدد موعد “الطوفان البشري” في الضفة الغربية.
تداعيات خطيرة
بقراءة المشهد في الضفة الغربية، تجدر الإشارة إلى عدد من الملاحظات:
1 – خلال فترة ما قبل 7 أكتوبر، كانت كل المؤشرات تتجه نحو التأكيد على أن المشهد اندلاع انتفاضة شعبية فلسطينية ما هي إلا مسألة وقت، لكن في ظل الأجواء الحالية، من المرجح أن تندلع تلك الانتفاضة في أقرب وقت ممكن، ويرجح أن تكون امتدادًا للحرب في قطاع غزة، وستكون الأكثر عنفًا على مدار عقود؛ فكلما أصبحت تصرفات المستوطنين أكثر فظاعة، زاد احتمال اندلاع العنف في انتفاضة كاملة في جميع أنحاء الضفة الغربية.
2- هناك ضرورة لإدراك مدى الخطر الذي يحمله التوسع في التسليح المستوطنين من دون معايير، لأنه قد يؤدي إلى تحويلهم إلى قتلة منفلتين خاصة لكونهم داخل المناطق التي يعيش فيها الفلسطينيون ولا يمكن فصل الاحتكاك بينهم. ومن جانب آخر، فخلال الأحداث الأخيرة مُنح هؤلاء الضوء الأخضر من قبل الحكومة الإسرائيلية لاستخدام شتى وسائل العنف دون محاسبة. من جانب آخر، فإنهم يحملون المزيد من مشاعر الكره والغضب على إثر هجمات 7 أكتوبر؛ ولديهم الدافع والفرصة لصب غضبهم على الفلسطينيين.
3- على الرغم من إبداء “نتنياهو” مخاوفه من انفجار الضفة الغربية، فإن الواقع يؤكد أنه يقف حاليًا على أرضية سياسية هشة، خاصة مع تزايد غضب الجمهور الإسرائيلي من إخفاقه في مواجهة هجمات 7 أكتوبر وفشله في إدارة الحرب؛ لكنه لا يزال في منصبه بفضل أحزاب المستوطنين اليمينية المتطرفة التي تهتم في المقام الأول بالاستيلاء على أراضي الضفة الغربية، ولا يستطيع إصدار أمر بشن حملة على عنف المستوطنين أو وقفهم، لأن ذلك قد يعرضه إلى الدخول في خلاف مع أعضاء الائتلاف اليميني المتطرف وهو ما يعرض مصيره للخطر حال تفكك هذا الائتلاف.
4- يبقى التخوف من تآكل الردع الإسرائيلي في الضفة الغربية بعد قطاع غزة عاملًا مهمًا بالنسبة لإسرائيل، حيث يخشى من فتح شهية الجبهات الأخرى للتجرؤ؛ لذلك تسعى إسرائيل إلى إظهار سيطرتها على الوضع في الضفة تحسبًا لذلك.