مقالات رأي

مستجدات الوضع الميداني في السودان!

أسوأ ما يمكن تصوره والتعامل معه هو أن يكون هناك صراع دامٍ وإشكالية مركبة ومهددة بقوة للاستقرار ولحالة الأمن الإنساني والسياسي، وأن يطويها النسيان أو يتنازعها في الاهتمام الإقليمي والدولي ما هو أخطر أو أكثر إلحاحًا في بعده الموضوعي والزمني. هذا بالضبط ما تعانيه الأزمة السودانية في اللحظة الراهنة؛ رغم اندلاعها في 15 إبريل الماضي وما جذبته من انتباه حينها، واستمر طوال الشهور الستة الأولى من عمرها، ووصفت حينها بأنها مهددة بشكل واسع على استقرار الإقليم بكامله، خاصة بعد أن تبين أن قوات “الدعم السريع” وضعت خيارها ورهانها الكامل على الاحتكام للسلاح في إدارة صراعها مع الدولة السودانية. 

جاءت أزمة “قطاع غزة” لتسحب بساط الاهتمام من الحرب المستعرة الدائرة في السودان، فالجيش السوداني ممثل للدولة السودانية انحاز لإنقاذ العاصمة الخرطوم مما يتهددها من محاولة انقضاض قوات الدعم السريع للاستيلاء عليها. وهذا تسبب في إطالة أمد المشهد بكافة تعقيداته، وفتح آفاق خطورة تمدده إلى ما هو خارج العاصمة ربما من شهوره الأولى. لكن الوتيرة تتسارع على نحو حاد منذ بداية العدوان على قطاع غزة بداية أكتوبر الماضي، وربما هذا ما دفع الأمم المتحدة ممثلة في المبعوثة الخاصة بالقرن الأفريقي “هانا تتيه” إلى إصدار تحذير منذ أيام من ان المعارك الدائرة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع تقترب من الحدود مع دولة جنوب السودان، ومن منطقة “أبيي” المتنازع عليها بين البلدين. 

وفي الجلسة التي عقدت خصيصًا بمجلس الأمن لبحث الأزمة السودانية، أكدت المبعوثة الأممية وتقارير المراقبين المعتمدين استيلاء قوات الدعم السريع مؤخرًا على مطار وحقل “بليلة النفطي” الواقع في ولاية غرب كردفان السودانية. ووفق هذا التأكيد ففي حال استمرت المواجهات والقتال على هذه الوتيرة العسكرية بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، فإنه سيكون على شفا الوصول إلى تخوم “أبيي” بل وقد يمتد إلى الحدود مع دولة جنوب السودان. وهذا متغير كبير وفارق؛ ويرتب للدعم السريع سيطرة قواته على جزء مهم من حدود الدولة السودانية، مع جارتها جنوب السودان.

الجدير بالذكر أن هذه المنطقة بالأساس تعاني منذ سنوات من هشاشة عميقة للوضع الأمني؛ فالتوازنات القبلية فيها شهدت عديدًا من التقلبات واللجوء للسلاح في بعض فصول الصراعات المحلية التي دارت مرات عدة بين قبيلتي “المسيرية” و”دينكا نقوك”. فهذه المنطقة التي ظلت محل نزاع بين دولتي الجوار السوداني منذ اعلان الجنوب انفصاله عام 2011، كانت قبل الأزمة الأخيرة قد أعطت بعضًا من الإشارات الإيجابية حول اقتراب الوصول إلى تسوية ما للأوضاع، وكانت هناك إرادة تشكلت لدى الطرفين وتدخلت مصر وبعض الأطراف الإفريقية للدفع في هذا الاتجاه.

إلا أن ما جرى في السودان عطّل ما كان يمكن الوصول إليه حول الوضع النهائي لأبيي، ومعها كان سيمتد الاتفاق ليشمل كامل إشكاليات المناطق الحدودية بين البلدين. هذا التطور العسكري الأخير وربما وصول قوات الدعم السريع على مساحات من الأراضي التابعة لأبيي سيعقد المشهد بالتأكيد ويبعد آفاق التسوية عن إمكانية التحقق الفعلي على الأرض. 

ميدانيًا، أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها مؤخرًا على ثلاث مدن مهمة في إقليم دارفور، من أصل خمسة مدن هي الأكبر في هذا الإقليم الاستراتيجي المهم، هي: “نيالا” في الجنوب ثاني أكبر مدينة بعد الخرطوم ومركز قيادة الجيش في الولايات الغربية، ومدينة “زالنجي” في الوسط، ومدينة “الجنينة” في الغرب التي ظلت تشهد قتالًا عنيفًا منذ الشهر الأول من عمر الأزمة وحتى الآن. 

وعلى الجانب المقابل، لا تزال قوات الجيش السوداني حاضرة وتسيطر بقواعدها على مدينة “الفاشر” شمال دارفور، و”الضعين” التي تقع في المنطقة الشرقية للإقليم. ورغم احتدام القتال والسباق تجاه السيطرة على المناطق التي تقع بعيدًا عن المركز، فإن العاصمة المثلثة لم يتوقف فيها القتال طوال هذه التطورات في الأحداث؛ فقد دارت خلال هذا الأسبوع اشتباكات قوية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أجزاء واسعة من مدينة “أم درمان” غرب العاصمة، وكذلك شهد “جبل أولياء” ومنطقة سلاح المدرعات جنوب الخرطوم أعمالًا عسكرية مشابهة باستخدام الأسلحة الخفيفة والثقيلة، شاركت فيها الطائرات الحربية والمسيرات التي أمطرت تلك المناطق بالقصف والذخائر مما رفع أعداد الضحايا والمصابين إلى مستويات قياسية.

لهذا أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرا حظي بمتابعة واسعة، ذكر فيه “تيجيري شاغوتا”  المدير الإقليمي لشرق وجنوب أفريقيا للمنظمة، أنه مع دخول الصراع شهره السادس أسفر عن مقتل ما لا يقل عن (5000 مدني) وإصابة ما يزيد على (12000 شخص)، في الوقت الذي احتفظ هذا الصراع بالرقم القياسي لأعداد النازحين قسريًا في مناطق الصراع، مسجلًا نزوح (5.7 ملايين شخص) تعرضوا لهذا الأمر جراء التهديد الكبير الذي يحاصرهم. 

ومما ذكره المدير الإقليمي أن “كل يوم، يتعرض المدنيون في السودان للقتل، ويضطرون للنزوح مع استمرار احتدام النزاع، لقد تدمرت حياة عدد لا يحصى من الناس بدون داعٍ في الأشهر الستة الماضية”. وهناك من المنظمة ومن عدد من كبار المؤسسات المعنية بالدفاع الحقوقي لما يجري في مناطق الصراعات (50 منظمة)، دعوة إلى المجتمع الدولي للتعبئة من أجل معالجة الكارثة الجارية في السودان. ووجهوا نداءً مباشرًا إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كي يحث جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة على زيادة الدعم الإنساني للسودان بشكل كبير، ومطالبة الأطراف بالسماح بإيصال المساعدات الإنسانية بدون عوائق. 

يبقى الأكثر إلحاحًا وهو ضرورة أن يقوم مجلس الأمن أيضًا بتمديد حظر الأسلحة الحالي ليشمل السودان بأكمله، وضمان تنفيذه عمليًا على الأرض؛ فهناك جرائم حرب واسعة النطاق ترتكبها قوات الدعم السريع خلال النزاع، بدأت صورها ومقاطع مسجلة لها تغزو المنصات الإخبارية، ووسائل النشر المستقلة، وهي توثق وقوع أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين في الهجمات المتعمدة والعشوائية التي تشنها تلك القوات سعيًا وراء تغيير السيطرة الميدانية على الأرض، قبل أن يستفيق العالم والمراقبون.

كاتب

د. خالد عكاشة

المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى