
سياسة الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل وارتفاع أصوات معارضيها
بدأت مؤخرًا بعض التيارات المعارضة للدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل في الظهور سواء داخل الحزب الديمقراطي أو الجمهوري، وهو ما يعتبر حدث أول وفريد من نوعه، حيث إن سياسة الدعم المطلق لإسرائيل تعتبر واحدة من السياسات النادرة التي يتفق عليها كل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، لأهمية إسرائيل للولايات المتحدة وما تمثله كحليف قوي والأكثر إخلاصًا في منطقة الشرق الأوسط. لكن مع الأزمة الحالية والقصف المستمر لقطاع غزة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي لمدة تفوق الشهر، دون تحقيق أي تقدم في الهدف المعلن للحكومة الإسرائيلية وهو القضاء على حركة حماس، وزيادة أعداد الداعمين للقضية الفلسطينية من الشعب الأمريكي، واقتراب انتخابات رئاسية مشتعلة، بدأت تعلو أصوات تطالب بتخفيف الدعم المادي لإسرائيل لدى العديد من الحسابات الداخلية والخارجية.
حسابات خارجية
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، تقدم الولايات المتحدة دعمًا ضخمًا في كافة المجالات الممكنة لأوكرانيا على الرغم من ارتفاع شدة الأزمة الاقتصادية ومواجهة واشنطن للعديد من الأزمات المالية والاقتصادية، وهو ما نتج عنه رفض البعض للدعم الكامل للجانب الأوكراني والمناداة بتخفيف المساعدات المقدمة لها، أو العمل الجاد على الدخول في عملية تفاوض لإنهاء الحرب والتعافي من الأزمات العالمية التابعة لها. لكن رغم ذلك لم يتغير الموقف الأمريكي الرسمي إلى الآن، وهناك ترقب كبير للانتخابات الرئاسية القادمة لرؤية ما ستفعله الإدارة الجديدة للولايات المتحدة في هذا الشأن.
وفي ظل التوتر المتصاعد سواء عالميًا نتيجة الحرب بين روسيا وأوكرانيا أو داخليًا نتيجة احتدام صراع السباق الانتخابي، بدأت عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر الماضي وتبعها القصف المستمر من الجانب الإسرائيلي لقطاع غزة وبدء العمليات البرية. وكما هو متوقع أظهرت واشنطن تضامنها الكامل مع تل أبيب والإعلان عن تقديم الدعم المطلق لإسرائيل في “الحرب ضد الإرهاب” كما وصفتها واشنطن. وأكد الرئيس الأمريكي جو بايدن على قدرة الولايات المتحدة الكاملة على التكفل بدعم إسرائيل بكل ما تحتاجه بدون التأثير على قوة الدعم المقدم لأوكرانيا، بدون أن يواجه الاقتصاد الأمريكي أي مشاكل.
لكن ظهرت بعض المشاكل التي دفعت بعض السياسيين والدبلوماسيين الأمريكيين للمناداة بإعادة النظر في هذه السياسات، حيث إن إسرائيل ترتكب حاليًا الكثير من جرائم الحرب البشعة في غزة، وعلى الرغم من ذلك لا تحقق أي تقدم حقيقي في القضاء على حركة حماس، وهو الهدف المعلن من العمليات العسكرية في الأساس، وهو ما يجعل الولايات المتحدة تظهر في مظهر الدفاع عن هذه الجرائم وتبريرها بل والتكفل بالمصاريف اللازمة لها، وهو ما يتنافى مع صورة وسيط السلام والمدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تحاول الولايات المتحدة تصديرها عن نفسها.
وهو ما ترتب عليه تهديد آخر بالنسبة لواشنطن، حيث إن معظم دول المنطقة إن لم تكن كلها تؤيد الموقف الفلسطيني في هذه الأزمة وتنادي بشكل مستمر بوقف فوري لإطلاق نار لأسباب إنسانية وهو ما ترفضه واشنطن بشكل قاطع إلى الآن، وفي ظل استمرار الصراع بين روسيا وأوكرانيا ونجاح روسيا والصين، بالإضافة إلى إيران، في استقطاب العديد من الدول الشرقية مع الدعوة لعالم متعدد الأقطاب والقوى الاقتصادية الجذابة للدول النامية المتواجدة معظمها في الشرق والشرق الأوسط، ترتفع احتمالية انفضاض حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة عنها، وزيادة النفوذ الروسي والصيني في المنطقة حتى في حالة انتهاء الأزمة في غزة.
من جانب آخر ظهر عدم انصياع الحكومة الإسرائيلية وعلى رأسها نتنياهو للإرادة والرؤية الأمريكية في أكثر من موقف، وكان هذا حتى من قبل السابع من أكتوبر، حيث تجاهل نتنياهو التحذيرات المستمرة من بايدن بشأن تطبيق التعديلات القضائية التي عبرت العديد من الدول الغربية عن رفضها لها وليس واشنطن فقط. وظهرت الكثير من التقارير التي تفيد بأن المخابرات الأمريكية كانت قد أبلغت المخابرات الإسرائيلية بتخطيط حماس لهجوم قبل السابع من أكتوبر بأيام، وعلى الرغم من ذلك لم تتخذ القوات الإسرائيلية احتياطاتها اللازمة لصد الهجوم الذي اعتبرته الحكومة الإسرائيلية كارثيًا.
بالإضافة إلى ذلك لم تستجب إسرائيل لمطالبات الولايات المتحدة باستبعاد فكرة الاجتياح البري حفاظًا على أرواح الرهائن وتجنب للمزيد من الخسائر من الجنود الإسرائيليين. ودفعت هذه الوقائع البعض في الولايات المتحدة إلى الشعور بأن إسرائيل لم تعد الحليف الأكثر إخلاصًا لواشنطن، أو أن الحكومة الإسرائيلية تستفيد بالكثير من المميزات وتحصل على الدعم المطلق من الولايات سواء ماديًا أو عسكريًا أو سياسيًا، وفي المقابل لا تنفذ رؤية الولايات المتحدة تجاه العديد من الأمور والمواقف، وهو ما يقلل الفائدة التي تخرج بها واشنطن من هذه الشراكة.
حسابات داخلية
أما على الصعيد الداخلي، فإنه لا يختلف كثيرًا عن الخارجي، حيث إن الانتهاكات والجرائم التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي أصبح صداها أكبر الآن، بفضل منصات التواصل الاجتماعي، خاصة منصة “إكس” (تويتر سابقًا)، بالإضافة إلى التضليل والانحياز الواضح لوسائل الإعلام الأمريكية التي تدعي الاحترافية، والذي يتم فضحه باستمرار على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، وهو ما ساعد على نقل الواقع للشعب الأمريكي بشكل أفضل مما دفع العديد من الأمريكيين، خاصة من فئة الشباب، لتغيير موقفهم واتخاذ موقف داعم لفلسطين وأهالي غزة بدلًا من التعاطف مع الجانب الإسرائيلي.
ويشكل هذا التحول، الذي ليس بقليل، في الرأي العام الأمريكي، وسيلة ضغط أخرى على الحكومة الأمريكية، حيث إن هذا التحول يساعد في رؤية الوضع من زاوية أخرى مما يدفعهم لاتهام حكومتهم بالشراكة في الجرائم والإبادة الجماعية التي تنفذها الحكومة الإسرائيلية، أو أنها ضعيفة غير قادرة على الضغط أو إجبار إسرائيل على الالتزام بقواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان، وأن الحكومة الأمريكية تفضل صرف مواردها القادمة من الضرائب التي يدفعها أفراد الشعب الأمريكي في المقام الأول، على تمويل حروب وجرائم إسرائيل، بدلًا من تحسين الخدمات ومواجهة الأزمة الاقتصادية.
أيضًا نجد أنه على الرغم من موافقة الكونجرس على تقديم مساعدات جديدة لإسرائيل، إلا أن هذه المرة لم يكن اتخاذ القرار بالسلاسة والسهولة المعتادة، حيث إنه للمرة الأولى تظهر الكثير من الأصوات المعارضة لدعم إسرائيل داخل الكونجرس، وتم تمرير القرار بصعوبة، وهو ما لا شك فيه إنه كان انعكاسًا للتحول في الرأي العام الذي يمثله أعضاء الكونجرس.
وصدرت مذكرة من بعض العاملين بوزارة الخارجية الأمريكية تفيد باعتراضهم على الموقف الأمريكي من الأزمة، وتطالب الحكومة الأمريكية بالكثير من الإجراءات من أهمها، النداء بوقف إطلاق نار فوري وانتقاد ورفض انتهاكات القانون الدولي وحقوق الإنسان التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي بشكل علني، لأن هذا ما يتوافق مع القيم التي لطالما نادت بها الولايات المتحدة، وأن القيام بغير ذلك يضع واشنطن في موقف حرج أمام المجتمع الدولي، بسبب عدم التزامها بالمعايير الدولية والإنسانية التي تنادي بها وتحميها.
ولكن هذا الموقف لا يتوافق عليه جميع الدبلوماسيين والسياسيين الأمريكيين، انطلاقًا من أن كبار السياسيين الأمريكيين في المناصب القيادية ما زالوا يتبعون سياسة الدعم الكامل لإسرائيل، وهو ما يعد السبب الأساسي لعدم تغير الخطاب الأمريكي الرسمي إلى الآن في هذا الشأن، مما يشكل انقسامًا داخليًا واضحًا بين الدبلوماسيين والسياسيين في واشنطن، ومن المرجح أيضًا أن يزداد هذا الانقسام في العمق مع مرور الوقت، وهو ما سيكون له تأثير واضح بدون شك على قوة الموقف الأمريكي أو اتجاهه.
ومن جانب آخر، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية يتشكل نوع جديد من الضغط على بايدن وحكومته، فسياسة الدعم الأمريكي الكامل لإسرائيل لطالما كانت من السياسات القليلة التي يتفق عليها كل من الحزب الديمقراطي والجمهوري، بل ويستخدم بعض المرشحين قوة تأييدهم ودعمهم لإسرائيل كوسيلة للدعاية وزيادة الشعبية. لكن في ظل الوضع الحالي أصبحت هذه الاستراتيجية محل شك، فبداية تحول الرأي العام الأمريكي وتزايد أعداد الداعمين للجانب الفلسطيني سواء من المواطنين أو من السياسيين، تخلط الأوراق بشكل كبير.
حيث إن وضع هذه الانتخابات كان معقدًا بشكل كبير بالفعل، إن كان بسبب اختلاف المواقف والآراء الكبير بشأن الحرب الروسية الأوكرانية، وما تبعها من أزمات اقتصادية وتعقيدات سياسية، والغضب الشعبي من فشل إدارة بايدن في الكثير من الملفات ورؤية أنه غير مناسب للمنصب بسبب تقدمه في السن، بالإضافة إلى عدم وجود بديل له في الحزب الديمقراطي. ومن الجانب الآخر اشتعال المنافسة بين المرشحين الجمهوريين والانقسام الكبير داخل الحزب، ومواجهة ترامب المرشح الأقوى للعديد من القضايا والاتهامات بارتكاب العديد من الجرائم سواء سياسيًا أو مدنيًا.
ومن المؤكد أن وضع الانتخابات في الاعتبار، يزيد من تعقيد اتخاذ القرار بإمكانية تغيير الموقف الأمريكي الرسمي تجاه الحرب في غزة، على الرغم من زيادة قوة التيار الداعم لفلسطين، إلا أن التيار الداعم لإسرائيل ما زال يتمتع بقوته داخل الولايات المتحدة، وبوضع الانتخابات في الاعتبار سيكون تراجع إدارة بايدن عن الدعم الكامل لإسرائيل، بمثابة خسارة لأصوات التيار الداعم لإسرائيل والاستمرار في سياسة الدعم المطلق يضمن خسارة داعمي فلسطين.
ختامًا، لا تؤكد هذه المتغيرات بأي شكل إمكانية تغير الموقف الرسمي الأمريكي، ولكن هذا لا ينفي أن هذه المتغيرات من الممكن أن تكون مقدمة لتراجع الولايات المتحدة عن موقفها بعض الشيء في حالة استمر هذا التوجه الجديد وازدادت قوته. ومن الممكن أن تحاول واشنطن الضغط على إسرائيل لتخفيف القصف إلا حد ما، أو على الأقل التعامل مع الوضع بشكل أكثر هدوءً مما يسمح لإدارة بايدن بعدم تغيير الموقف الرسمي، وفي نفس الوقت تهدئة مؤيدي فلسطين سواء من الدبلوماسيين والسياسيين أو من الشعب، لكن لم تظهر الولايات المتحدة حتى الآن أي نوع من التقدم في هذا الاتجاه، بل ظهر العكس تمامًا في عدم استجابة إسرائيل للنصائح الأمريكية بعدم التدخل البري في غزة. وما زال من غير المؤكد إمكانية تغيير واشنطن لموقفها بأي درجة، ولكن ما يمكن تأكيده أن هذا التغيير سيتطلب المزيد من الوقت ليحدث.