اتجاهات وسائل التواصل الاجتماعي

النظام العالمي الرقمي.. سلاح التواصل الاجتماعي والقدرة على تشكيل الوعي الجمعي

بما أن ضباب الحرب والاستقطاب يجعل من الصعب التحقق من المعلومات والعثور على مصادر موثوقة للمعلومات، أصبحت منصات وسائل التواصل الاجتماعي مساحات معلوماتية حيوية تعد في الوقت نفسه سلاحًا يحمل العديد من المميزات والتهديدات، وقد تم استخدام هذا السلاح للمصالح الخاصة للدول الكبرى والحكومات لإعادة تشكيل الرأي العام والتلاعب بالوعي الجمعي من خلال الخوارزميات بين الدعم والتشويه ونشر محتوى كاذب ومضلل، الأمر الذي تحول بالفعل إلى مسرح لحرب افتراضية من أجل المصالح السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية.

الحروب الشبكية بين الاستشراف والواقع 

منذ أكثر من 20 عامًا، توقع العلماء تطور “الحرب الشبكية” في القرن الواحد والعشرين، وهذه الحرب لا يُقصد بها تطورات الحرب السيبرانية أو الهجوم على تكنولوجيا المعلومات أو أنظمة الاتصالات بالمعنى الحرفي، وإنما التلاعب بتصورات مجموعة معينة بطريقة متعمدة، وبالتالي الإضرار بهدف الهجوم. ففي العصر الرقمي الذي نعيشه الآن لم تعد هناك حاجة لسفك الدماء للقضاء على المنافس والانتصار عليه في حرب على أرض الواقع، في ظل وجود نظام عالمي رقمي يسيطر على مليارات البشر، و”حرب المعلومات” التي أصبحت أقوى سلاح يمكن أن تستخدمه الدول والشركات والمجموعات الصغيرة والأفراد على حد سواء.

وقبل عام 2011، زعم الكثيرون أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت مصممة فقط لأغراض تجارية، ولم يكن يتوقع أحد أن تسهم بشكل كبير في الأحداث التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هذا العام وأظهرت أن تجاهل وسائل التواصل الاجتماعي لم يعد خيارًا، وفي الوقت نفسه، فإن نهج القوة الغاشمة الذي يتحرك من خلال إغلاق الوصول إلى الانترنت بشكل كامل لم يثبت نجاحه أيضًا. وأصبح لدى الناس خيارات متنوعة لإنشاء المعلومات وتلقيها ومشاركتها. وبهذا، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة إنذار مبكر ضد التهديدات الأمنية المستقبلية والأنشطة الضارة، خاصة إذا تم استخدامها من قبل الجماعات المناهضة للحكومات، أو الدول المعارضة، أو الجماعات الإرهابية. 

وحظيت منصات التواصل الاجتماعي باهتمام كبير في ميزان القوى داخل الصراعات، وجعلت الحكومات توظف الأدوات المتطورة لحماية مصالحها الاستراتيجية من خلالها. وفهمت العديد من الجهات الفاعلة واستوعبت المفهوم الأساسي لحرب الشبكات واعتمدت بشكل متزايد على استخدام تكتيكات التلاعب بدلًا من الهجمات الجسدية للمضي قدمًا في أجندتها، بل تطورت الحرب لتجمع بين استخدام الهجمات الجسدية السرية أو الهجمات السيبرانية بالإضافة إلى أساليب التواصل النفسية مثل الدعاية والتضليل والتحيّز.

وهو ما حدث بالفعل في الحرب الروسية الأوكرانية منذ اندلاعها من قبل الطرفين، ومن بعد ذلك في الهجوم الحالي من قبل الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة برعاية الولايات المتحدة والغرب بشركاتهم التي تمتلك قواعد بيانات لأكبر عدد ممكن من سكان العالم، وتُخزّن جميع المعلومات المرتبطة بهم من بيانات وصور وفيديوهات ومراسلات إلكترونية، وتراقب نشاطاتهم الرقمية، وتُحلّل سلوكهم اليومي وتوظف ذلك في خدمة أهدافها.

واليوم، أصبحت منصات وسائل التواصل الاجتماعي ذات أهمية متزايدة لاستهلاك الأخبار، حيث يرى حوالي 30% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا أن وسائل التواصل الاجتماعي هي المصدر الأكثر أهمية للأخبار، ولهذا يتم التلاعب بآراء وعواطف وسلوك هذه المجموعة وغيرهم دون وسيط، عبر نشر معلومات “كاذبة” أو حقيقية ممزوجة بأكاذيب، وإنشاء روايات متكررة تحقق أكبر تأثير ممكن من خلال مشاركتها بينهم، هذا بجانب الاستهداف بواسطة الإعلانات المدفوعة أو التواصل بشكل مباشر واتباع سياسة الإقناع المباشر، واستخدام الخوارزميات الخاصة بوسائل التواصل الاجتماعي في التحكم في تنظيم المحتوى الذي يراه المستخدمون وترتيبه، ومنع المحتوى الذي لا يحقق أهدافها من الوصول إلى المستخدمين.

ومفتاح نجاح هذه الحرب يكمن في التكرار، لأن التكرار هو الأساس الذي تعيش به حملات التضليل، فتكرار المعلومات الخاطئة والسرد المقصود يؤدي بعد ذلك إلى تأثير اعتيادي، ما يرسخ القصة المصممة ويؤدي إلى تصديقها. هذا بجانب أن تكون المعلومات تحمل في طياتها جزءًا من الحقيقة المعروفة لدى المتلقي، فبالتالي سيتقبل أي شيء آخر معها، مع الأخذ في الاعتبار أن المتلقي بالأساس يميل إلى متابعة الأشخاص ذوي التفكير المماثل على وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يعزله بداخل الفقاعة التي يريد أن يستمد منها معلوماته، مما يزيد من حدة الاستقطاب.

نموذج الولايات المتحدة وإسرائيل

يستخدم العديد من الدول بشكل عام وسائل التواصل الاجتماعي كسلاح استراتيجي في جميع المجالات وفي العديد من المحطات المهمة من أجل تشكيل صورتها في أوقات الأزمات، ونجد أن الجهات الفاعلة لتشكيل الوعي العام تحرص على توجيه هذا السلاح في مختلف الاتجاهات، ومنها:

الاتجاهات السياسية: ويتم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للدفع من خلال أجندة سياسية معينة للتأثير مثلًا على نتائج الانتخابات (مثلما تحدثت تقارير أمريكية عن تدخل روسي في الانتخابات الأمريكية عام 2016) أو زعزعة استقرار الأنظمة السياسية، أو تفكيك ثقة المجتمع في الحكومة، وتشمل الجهات الفاعلة السياسية تحالفات الدول، أو دولًا بمفردها، أو الأحزاب، أو حتى الوحدات العسكرية.

الاتجاهات الاقتصادية: عادة ما يكون دافع حرب وسائل التواصل الاجتماعي هنا ذا طبيعة مالية، فالمجموعات أو القطاعات الصناعية تريد من وراء هذه الحرب تأكيد مصالحها من أجل الحصول على ميزة أو إلحاق الضرر بالآخرين وتشويه سمعتهم، ويقع ضحية هذه الحرب عادة الشركات الكبرى.

الاتجاهات ذات الاهتمامات الخاصة: إلى جانب الاهتمامات السياسية والاقتصادية، هناك دوافع أخرى للمشاركة في حرب وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك من قبل المجموعات ذات الأهداف الخاصة التي تستمد قوتها من التأثير على الرأي العام، على سبيل المثال التنظيمات الإرهابية أو السياسية التي تحاول من خلال هذه الحرب تجنيد المزيد من الأتباع لتحقيق أهدافها.

الاتجاهات ذات الاهتمامات المختلطة: ويشارك في هذه الحرب مجموعات لها مصالح مشتركة في أكثر من اتجاه في نفس الوقت، ففي عام 2020، وجد أن هناك شركات خاصة تعمل في 48 دولة تنشر نيابة عنها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بتكلفة تصل إلى 60 مليون دولار أمريكي سنويًا.

وفي الاتجاهات السابقة، يتم التلاعب بالمعلومات لإنشاء تأثيرات لاحقة تلحق الضرر بالهدف الفعلي للهجوم، ويتم اتباع أساليب مختلفة تتنوع بين نشر معلومات كاذبة، أو نشر معلومات مضللة تخلق الارتباك وعدم الشعور بالأمان، أو نشر الآراء المتطرفة وكذلك الكراهية والإثارة على الإنترنت لتقسيم المجتمعات.

وعن الولايات المتحدة كنموذج فيما سبق ذكره، فقد استخدمت واشنطن سلاح مواقع التواصل الاجتماعي المملوكة لها بشكل يتفق مع أجندتها في العديد من المواقف، فقد استخدمت الطرق المفتوحة في حربها لتشكيل الوعي العام عبر توزيع الشائعات والمعلومات الكاذبة أو السرية وغيرها من المحتويات عبر وسائل رسمية. فنجد أن حسابات وسائل التواصل الاجتماعي لأصحاب النفوذ وقادة الرأي مثل السياسيين أو المشاهير أو موظفي الشركات قد امتلأت بالمحتوى الاستقطابي والمعلومات المضللة والاتهامات، ويصل الأمر إلى وسائل الإعلام التي تتناقل هذه الروايات وتتبناها، تمامًا مثلما حدث في الحرب الروسية الأوكرانية.

وفي تغطية عملية “طوفان الأقصى” وما تبعها من قصف إجرامي لإسرائيل على غزة، تناقلت عشرات الصحف الأمريكية ومن قبلهم الرئيس “جو بايدن” الروايات الإسرائيلية المضللة التي شوشت على الرواية الحقيقة لما يحدث في غزة من جرائم حرب وإبادة جماعية وانتهاك إسرائيلي للمواثيق الدولية والقانون الدولي.

وقد وصل حجم التضليل والمحتوى الكاذب وخطاب الكراهية العنيف على منصات وسائل التواصل الاجتماعي إلى مستويات غير مسبوقة، فحرض هذا النوع من المحتوى على المزيد من العنف، وقدم الدعم لجرائم الحرب، وأثر على قرارات السياسة العالمية الحقيقية، وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تعمل على تأجيج نيران العنف في هذا الصراع غير المسبوق، في ظل استبعاد الأصوات والقصص الفلسطينية، وإدامة الروايات وممارسات إعداد التقارير التي تجرد الشعب الفلسطيني من إنسانيته وتقوض معاناته بينما تخرج الأحداث من سياقها، ويتم اتخاذ القرار وفقًا للمعلومات المتاحة. 

وهذا ما تفعله بالضبط الحكومة الإسرائيلية، فهي منذ هجوم الـ 7 من أكتوبر، قطعت جميع وسائل الاتصال بفلسطين، وبدأت حملة واسعة النطاق على وسائل التواصل الاجتماعي في الدول الغربية كفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة؛ لحشد الدعم لردها العسكري ضد “حماس”. وكجزء من استراتيجيتها، فقد دفعت عشرات الملايين من الدولارات على مئات الإعلانات التي تتضمن صورًا للعنف الذي تقول إنه وقع يوم 7 أكتوبر داخل إسرائيل، وذلك عبر منصات مثل”Facebook” و”YouTube”، صورت خلالها حماس على أنها “جماعة إرهابية شريرة”، على غرار تنظيم “داعش”، وأخذت هذه الإعلانات في الانتشار بسرعة؛ حتى يتم ربط اسم “حماس” باسم “داعش”. وبالطبع زادت وتيرة الإعلانات عقب استهداف المستشفى الأهلي المعمداني بقطاع غزة، حيث حاولت إسرائيل بأي طريقة نفي التهمة عن نفسها وسرد رواية أن الفصائل الفلسطينية هي التي تقف وراء هذا الحادث.

ولكن هناك تطبيقات لا تستطيع الولايات المتحدة وإسرائيل وغيرها من الدول السيطرة على ما تقدمه من محتوى، وأبرزها “تليجرام”، والتي استخدمتها روسيا والآن تستخدمها الآن حماس لنشر دعايتها الخاصة، وقد وصل عدد متابعي قناة “حماس” إلى ثلاثة أضعاف ما كنت عليه قبل الهجوم، هذا بجانب الزيادة المقدرة بعشرات الأضعاف في عدد المشاهدات للمقاطع المنشورة.

وحاولت الولايات المتحدة بالفعل مقاضاة الشركة بسبب المحتوى المنشور بداخله، بما في ذلك المواد التي تنتجها “الجماعات الإرهابية”، لكن المحاكم الأمريكية تنظر عمومًا بارتياب إلى هذا النوع من الدعاوى القضائية. وفي النهاية، لن يصل سوى القليل من الدعاوى القضائية المحتملة المتعلقة بالاعتدال في المحتوى.

تويتر “X” والتغريد خارج السياق

X logo officially replaces Twitter's famous bird on mobile app, building  headquarters

منذ اليوم الأول لإنشاء هذه المنصة، عملت “تويتر” على إثارة الرأي العام من خلال المعلومات التي تنشر عبرها، ومرت بالعديد من المحطات التي أثبتت حضورها في العديد من الأحداث، ولعل أبرزها هو الانتخابات الأمريكية عام 2020، عندما حاول الرئيس السابق للولايات المتحدة “دونالد ترامب” حشد مؤيديه للاعتراض على نتيجة الانتخابات المحسومة لصالح منافسه “جو بايدن” والتي تسببت فيما يعرف بأحداث السادس من يناير أو “الكابيتول هيل”، لتقوم تويتر بحذف حساب رئيس الولايات المتحدة وإغلاقه مدى الحياة، في سابقة كانت الأولى من نوعها.

وظهر رجل الأعمال الجمهوري المثير للجدل “إيلون ماسك”، واستحوذ على المنصة الشهيرة بصفقة تبلغ 44 مليار دولار، متعهدًا بالمزيد من حرية الرأي والتعبير، وسمح بتوثيق المئات من الحسابات دون التأكد منها في مقابل دفع مبلغ رمزي قيمته 8 دولارات، الأمر الذي واجه تهديدات من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأن منصته ستسهم في نشر المعلومات المضللة التي قد تصل إلى حد الإضرار بالأمن القومي للبلدان المختلفة، خاصة وأنه قام بالفعل بفصل العديد من الموظفين المعنيين بالتعامل مع المعلومات المضللة وحقوق الإنسان والسلامة في الشركة.

وبرفض “ماسك” إزالة المحتويات المضللة -من وجهة النظر الغربية- المتعلقة بأحداث غزة الآن، وتجري المفوضية الأوروبية حاليًا تحقيقًا مع الشركة حول ما إذا كان تعاملها مع المحتوى غير القانوني والمعلومات المضللة المرتبطة بهجوم حماس قد احترم قانون الاتحاد الأوروبي للإشراف على المحتوى، وقانون الخدمات الرقمية (DSA)، وإلا ستواجه الشركة غرامة تصل إلى 6% من إيراداتها السنوية العالمية.

ولكن “ماسك” لم يأبه للتهديدات، وتعهد بأن منصته ستتميز عن غيرها من المنصات المنافسة بأن كل مستخدم سيكون من حقه نقل الحقيقة التي يراها من وجهة نظره، ولكن دون السماح “بعودة حماس المصنفة منذ البداية كمنظمة إرهابية”، ولكنه سمح بالحديث عنها وعما يحدث في غزة دون حذف أو تقييد، وهذا ما جعل شعبية المنصة تزداد في ظل الأحداث الجارية، فبين حجب وتقييد للمحتوى الذي يستعرض المأساة في فلسطين على المنصات الأخرى، نجد أن جميع المقاطع تظهر دون حجب على “إكس”، مع استحداث خاصية للتأكد من صحة المنشورات التي يتم التفاعل عليها على نطاق واسع، لتكتسب المنصة ثقة المستخدمين، وإن كانوا يختلفون مع مالكها.

ولكن ماسك لم يعتد هذه الشفافية، فالأمر كان مختلفًا عند الحديث عن الحرب الأوكرانية، “فتويتر” سابقًا أو “إكس” حاليًا كان من المنصات التي تم حجبها عن روسيا كجزء من العقوبات الغربية عليها، وأسهمت في نشر العديد من المحتويات للصالح الأوكراني وإزالة كل ما يتعلق بروسيا. ولكن يبدو أن المصالح السياسية هي التي تحرك الأحداث هذه المرة، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ويبدو أن “ماسك” بموقف منصته تجاه الحرب على غزة يريد إعادة تعزيز ثقة الناخبين في حزبه الجمهوري الذي ينافس الرئيس الديمقراطي الحالي للولايات المتحدة.

كاتب

مي صلاح

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى