دعم القضية الفلسطينية: سياسة الصين في الشرق الأوسط
في ظل التطورات الجارية في الصراع العربي الفلسطيني والتي يتابعها العالم عن كثب، جاء الموقف الصيني داعمًا لوقف إطلاق النار، واصفًا الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة بأنه “تجاوز نطاق الدفاع عن النفس” ومطالبًا بضرورة وقف العقاب الجماعي لشعب غزة ووقف الاستخدام العشوائي للقوة ووفاء تل أبيب بالتزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني. وذلك على عكس موقف الولايات المتحدة المنحاز والداعم لإسرائيل بشكل كامل.
وأظهرت الصين تمسكًا واضحًا بموقفها في التصويت لصالح قرارين متتاليين في اجتماعات مجلس الأمن، من قِبل المبعوث الصيني الدائم لدى الأمم المتحدة تشانغ جون. أول هذه القرارات تم عرضه في 16 من شهر أكتوبر الجاري من قبل روسيا، ويدعو إلى وقف إطلاق النار بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، بغرض حماية المدنيين وتقديم المساعدات الإنسانية للفلسطينيين في قطاع غزة. ثانيها كان قرارًا تقدمت به البرازيل، في 18 من أكتوبر ويدعو إلى هدنة إنسانية للسماح بالوصول الكامل والآمن ودون عوائق لوكالات الأمم المتحدة وشركائها. وهذه القرارات فشل مجلس الأمن في تبنيها بسبب استخدام الولايات المتحدة العضو الدائم في المجلس، حق النقض “الفيتو” للتصويت ضدها.
محددات الموقف الصيني
يتعدى الدعم الصيني للقضية الفلسطينية مخاوف أيديولوجية تتعلق بالأقليات والمسلمين، نظرًا لكونها متهمة بمعاملة سكانها المسلمين الأويغور بوحشية، وعليه، فإن موقفها مدفوع بشكل أساسي بالمصالح التي تسعى إليها. فبعد أن نجحت الصين ظاهريًا في التوسط في بين إيران والمملكة العربية السعودية لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما، والعمل على ضم بعض الدول العربية لمجموعة “بريكس”، أخذت في إجراء محادثات مع العديد من الدول، من بينها مصر، للعمل معًا بغية التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين الجانبين. وتسعى الصين ليس فقط لإظهار دورها على المستوى العالمي بل إلى توسيع نطاق نفوذها، خاصةً في دول الجنوب العالمي، والتي تشمل دول الشرق الأوسط والدول الأفريقية.
تأتي الاستراتيجية الصينية في الشرق الأوسط إدراكًا للوجود الأمريكي في المنطقة الذي أصبح أقل شعبية ولا يزال يضمحل نتيجة لتدخلاتها العسكرية فيه. وجاءت تطورات القضية الفلسطينية لتشعل الغضب الشعبي العربي على الولايات المتحدة التي ترفض الاعتراف ببشاعة التصرفات الإسرائيلية للتعامل مع الموقف. وتأمل الصين من ناحية، أن تتمكن من زيادة قوتها الناعمة في المنطقة والتواصل مع الدول العربية التي تشعر بالإحباط، بسبب انسحاب الولايات المتحدة البطيء من المنطقة، والدعم الكامل لإسرائيل في تحركاتها، ومن ناحية أخرى، ترتبط الآمال الصينية بمحاولات إضعاف موقف الولايات المتحدة على المستوى الدولي، مما يتوافق مع استراتيجية بكين الهادفة لعالم متعدد الأقطاب، بعيدًا عن هيمنة الولايات المتحدة.
وعليه، فإن هذا يعزز رغبة بكين القوية في إبراز صورتها على الساحة العالمية والصعود على حساب النفوذ الغربي، خاصة الولايات المتحدة وذلك على الرغم من وجود علاقات اقتصادية بينهما، إلا أنها تعد أكبر خصمًا لها. وتأتي هذه الفرصة لمحاولة تقويض الولايات المتحدة متماشية مع “التجديد العظيم للأمة الصينية” التي تسعى لاستعادة مكانة الصين باعتبارها قوة عالمية، نتيجة لما خلف “قرن الإذلال” من ندوب عميقة في النفس الصينية، مما غذى إصرار الأمة على استعادة عظمتها التاريخية.
هذا بالإضافة إلى استراتيجية الصين التي تعمل ضمنيًا على جعلها أكبر قوة اقتصادية في العالم بحلول 2049، والتي تدفعها لبناء علاقات أوثق مع الدول العربية والدول الداعمة والمتعاطفة مع فلسطين في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، والتي يبحث الكثير منها بشكل متزايد عن شركاء بديلين للولايات المتحدة. وعلى هذا الأساس، تعد مصالح الصين في تعزيز علاقاتها مع الشرق الأوسط مكسبًا كبيرًا، وخاصة على المستوى الاقتصادي، انطلاقًا من أن هذه المنطقة من شأنها أن تخدم وبقوة مشروع شي جين بينغ الضخم للبنية التحتية لربط الأسواق العالمية كونها نقطة الوصل في شبكة الحزام والطريق.
الخطوات المستقبلية
من المتوقع أن تستمر الصين في التوغل في الشرق الأوسط وأن يزداد انخراطها في المنطقة جراء هذا الصراع، والذي من خلاله يصبح بوسعها أن تتعاطف مع الدول التي تناضل من أجل تأكيد سيادتها، ما قد يصبح حجر الزاوية في سياستها الخارجية ويسمح لها بالتوسط الكامل في صراعات الشرق الأوسط الإقليمية. وفي هذا السياق، قد تلجأ الصين لتعميم المبادئ الخمسة للتعايش السلمي، التي طرحتها في خمسينيات القرن الماضي مع قادة الهند وميانمار، لتدعيم موقفها الداعي للسلام في المنطقة، خاصة وأنها لاتزال منخرطة في صراعات إقليمية في منطقة بحر الصين الشرقي والجنوبي، ما قد يكون سببًا لتوجيه العديد من الانتقادات إليها.
وتتمثل هذه المبادئ في الاحترام المتبادل لسيادة الطرف الآخر وسلامة أراضيه، وعدم الاعتداء المتبادل، وعدم التدخل المتبادل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر، والمساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي. وبهذا، قد تأمل الصين في إثبات فشل سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إذا استطاعت التدخل بشكل فعال لوقف التصعيدات والوصول إلى هدنة ارتكازًا على هذه المبادئ. وفي هذا السياق، ربما تنظر الصين إلى تأكيد وجودها كقوة عالمية استطاعت أن تتمم ما فشلت فيه الولايات المتحدة من إحلال السلام وإنهاء النزاعات القائمة.
انطلاقًا من ذلك، فمن المرجح أن تقوم الصين باستغلال الإحباط الشعبي العربي تجاه الولايات المتحدة وموقفها المتحيز لكسب دعم الدول العربية وترسيخ نفسها كقوة عظمى في منطقة الصراع، خاصة وأن وسائل الإعلام الرسمية الصينية قامت بتصوير الولايات المتحدة كشرير إقليمي يتآمر “خلف الكواليس” لصراعات الشرق الأوسط، وألمحت إلى دور تقوده بكين في إنهائها. وستعمل على تعزيز جهودها في محاولة منها لإنهاء هذه الاشتباكات العنيفة بغرض تأمين مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية في المنطقة، والتي إن فشلت قد تقلب طموحات الصين في الشرق الأوسط رأسًا على عقب.
المخاطر المحتملة
نظرًا لمحاولات الصين السابقة في تبني موقف محايد في هذا الصراع وبناء علاقات مع الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء، تراهن الصين، من خلال مبادراتها الحالية والتي لم تعد محايدة، على ضرورة انتصار الجانب الفلسطيني. وهذا يعود لأن استعداء إسرائيل قد يأتي بتكلفة باهظة بالنسبة لها، نظرًا لأنها تتمتع بعلاقات اقتصادية قوية معها والتي تتمثل بشكل أساسي في التجارة المربحة في قطاع التكنولوجيا، وكون الصين تستورد غالبًا ما قيمته أكثر من مليار دولار من أشباه الموصلات سنويًا من إسرائيل.
وما يزيد من احتمالية خسارة الصين نتيجة لموقفها الحاسم مع فلسطين، هو الاهتمام الذي أبدته الجهات الإسرائيلية تجاه الرد الصيني إزاء هذا التصاعد، حيث أعربت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن قلقها إزاء صمت بكين بشأن الهجوم. إضافة إلى ذلك، أبدت إسرائيل خيبة أمل كبيرة لعدم إدانة بكين الواضحة جراء ما اسمته “المذبحة” الوحشية التي قامت بها حماس، المصنفة إرهابية في الولايات المتحدة وعدد كبير من الدول، بارتكابها ضد المدنيين واختطاف عدد منهم إلى غزة، وازداد الاستياء الإسرائيلي بسبب انتقاد وسائل الإعلام الصينية إسرائيل، والقائها باللوم على الولايات المتحدة في تأجيج التوترات في منطقة الشرق الأوسط.
وعلى هذا الأساس، وفي حالة انتصار الجانب الاسرائيلي، تخاطر الصين بقدر من الخسائر الاقتصادية والجيوسياسية، خاصةً في منطقة الشرق الأوسط التي قد يعلو فيها صوت إسرائيل على باقي دول المنطقة. وفي سياق أوسع، لن تقف المخاطر التي تواجه الصين عند الخسائر التي قد تتعرض لها من إسرائيل فقط، وذلك في إطار الخلافات القائمة بينها وبين الولايات المتحدة وموقف الصين الاستراتيجي ضدها، وقد تحتد الصراعات القائمة بين البلدين خاصة وأن روسيا وكوريا الشمالية تدعم موقف الصين، فيما يدعم الاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية موقف الولايات المتحدة. وعليه، فمن المؤكد أن يثقل هذا الموقف المتعارض للجهتين على قدر النزاعات الراهنة بينهما، والتي من المرتقب أن تحتد بشكل كبير في الفترة القادمة.
ختامًا، تقوم الصين باستغلال الوضع القائم في القضية الفلسطينية لتعزيز مكانتها العالمية، من خلال كسب ود دول الشرق الأوسط والدول المتعاطفة مع فلسطين، وعليه، تزداد شعبية الصين على حساب شعبية الولايات المتحدة المتقلصة تدريجيًا في هذه الدول. وعلى هذا الأساس، يعد هذا الانفجار الأخير للعنف في الشرق الأوسط فرصة لبكين، لتقدم للدول النامية رؤية بديلة للقيادة العالمية تزيح الولايات المتحدة وسياستها، وهو ما تأمل تحقيقه في المستقبل القريب.