قمة القاهرة للسلام.. الرهان على “السلام العادل” في مقابل خيارات التصعيد
طرحت الحروب والتصعيد العسكري المتكرر خلال السنوات الأخيرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي والتي كان آخرها التصعيد الراهن الذي أعقب عملية “طوفان الأقصى” تساؤلات مهمة حول مدى فاعلية خيار الاعتماد على القوة لحسم الصراع، وحلحلة القضايا العالقة، خصوصًا في ضوء التكلفة الكبيرة المترتبة على هذا الخيار على كافة المستويات، في مقابل آلية “السلام” والتي ثبت تاريخيًا أنها تدفع باتجاه تعزيز الأمن والسلم الإقليميين، في ضوء ما تفرضه هذه الآلية من التزامات وواجبات متبادلة، حتى وإن لم تسهم بشكل كامل في حلحلة القضايا العالقة والمصيرية على مستوى الصراع العربي الإسرائيلي.
ومع التصعيد الأخير الذي شهدته الأراضي الفلسطينية، والجهود التي تقودها مصر جنبًا إلى جنب مع المجتمع الدولي والإقليمي على مستوى السعي للوصول إلى تسوية للأزمة الراهنة، خصوصًا مع التحركات الإسرائيلية التصعيدية غير المسبوقة، لا سيما ما يتعلق بالشروع في مخطط تهجير سكان غزة نحو الجنوب؛ تصاعد الحديث عن الحاجة إلى تسوية تقوم على خيار “السلام العادل” كبديل لخيار الاعتماد على القوة.
ومن هنا تتصاعد الآمال ويتصاعد حجم التعويل على قمة القاهرة للسلام التي تستضيفها مصر يوم السبت بمشاركة إقليمية ودولية واسعة. وفي هذا السياق، توجد حاجة إلى تسليط الضوء على بعض المشاهد التاريخية الخاصة بمسار السلام، وما ارتبطت به من سياقات، وما ترتب عليها من مخرجات، في محاولة للاستفادة من هذه المحطات والبناء عليها.
اتفاقية أوسلو
جاءت الدعوة لمؤتمر “أوسلو” في أعقاب حرب الخليج الثانية عام 1991 وما صاحبها من تداعيات سلبية على المنطقة العربية، حيث بادر الرئيس الأمريكي جورج بوش يوم 6 مارس 1991 إلى الإعلان عن مبادرة لصنع السلام في المنطقة، داعيًا إلى عقد مؤتمر دولي لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي. وفي أعقاب عقد المؤتمر الأول في واشنطن في 1991، اتخذت المبادرة مسارين رئيسين: الأول متعدد الأطراف مع الدول العربية المشاركة، وقد تعثر هذا المسار إثر عدم تعاون الجانب الإسرائيلي، وتركيزه على الجوانب الاقتصادية بهدف كسر حاجز المقاطعة مع الدول العربية، بالتزامن مع تعطيل بعض القضايا المهمة مثل قضية اللاجئين، مما دفع دول لبنان وسوريا إلى الانسحاب.
أما المسار الثاني فقد كان متمثلًا في المسار الثنائي، والذي تُرجم في اتفاقيتي السلام بين الجانب الإسرائيلي والفلسطيني في 1993، واتفاقية السلام بين الجانبين الإسرائيلي والأردني في عام 1994، في الوقت الذي بقي فيه المسار مع لبنان وسوريا متعثرًا، ما أنتج العديد من الصراعات والحروب الممتدة بين الجانبين حتى اليوم.
وكانت اتفاقية أوسلو والتي وُقعت في 13 سبتمبر 1993 في واشنطن، بين ياسر عرفات وإسحاق رابين، في أعقاب مباحثات سرية جرت في العاصمة النرويجية أوسلو، محطة تاريخية نوعية في مسار السلام. وارتبطت خصوصية “أوسلو” ببعض الاعتبارات الرئيسة، ومنها أنها كانت المرة الأولى التي توافق فيها أطراف عربية عديدة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل، رغم أن العديد من الدول المشاركة كانت لا تزال في حالة حرب مع إسرائيل، حيث شارك في المفاوضات التي سبقت توقيع الاتفاقية وفي المؤتمرات التمهيدية لها دول: مصر والأردن ولبنان وسوريا والمغرب وتونس والجزائر، ودول مجلس التعاون الخليجي، وممثلين عن الجانب الفلسطيني، أما الاعتبار الثاني الذي أكسب الاتفاقية المزيد من الخصوصية فقد تمثل في اعتراف إسرائيل وللمرة الأولى للشعب الفلسطيني بحقوقه الشرعية في إقامة دولة مستقلة على الأراضي المحتلة.
ويمكن القول إن الاتفاقية مثّلت وثيقة إعلان مبادئ تضع الخطوط العريضة الخاصة بتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وقد كان من أهم بنود هذا الإعلان الإقرار بتشكيل الفلسطينيين القاطنين للضفة الغربية وقطاع غزة بانتخاب مجلس تشريعي فلسطيني يشرف على تولي شؤون الحكم الذاتي، فضلًا عن الإقرار بضرورة انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة، مع النص على الشروع في مفاوضات نهائية على مستوى الوضع القانوني النهائي للأراضي الفلسطينية المحتلة، على أن تتناول هذه المفاوضات وضع القدس واللاجئين، والمعاهدات الأمنية، والحدود بين الجانبين، والعلاقات مع دول الجوار، هذا بالإضافة إلى تشكيل لجان مختلفة تستهدف تعزيز التعاون بين الجانبين في كافة المجالات الاقتصادية.
وعلى الرغم من الإقرار ببعض المكتسبات النسبية التي حققتها الاتفاقية، كما سبق الإشارة، فإنها فعليًا لم تستطع معالجة القضايا المصيرية الخاصة بالصراع؛ إذ لم تتضمن الاتفاقية حلًا نهائيًا لأي قضية جوهرية تتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني، وإنما أجّلت كل القضايا الرئيسة، وفي مقدمتها قضايا القدس واللاجئين والمستوطنات، والترتيبات الأمنية والحدود وعلاقات التعاون مع الجيران، إلى مفاوضات لاحقة كان بمقدور “إسرائيل” أن تتعلل بأي شيء لتأجيلها إلى ما لا نهاية.
كذلك لا يوجد في الاتفاقية ما يلزم إسرائيل صراحة بالانسحاب الكامل من جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد حرب 1967، ناهيك عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة على هذه الأراضي. وعملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على المماطلة في ملف الانسحاب من الأراضي الفلسطينية، والتضييق على السلطة الفلسطينية، كجزء من سياسات التضييق على الشعب الفلسطيني ككل.
مبادرة السلام العربية
مرت منذ أشهر الذكرى الـ 21 لطرح “مبادرة السلام العربية”، وهي مبادرة للسلام أطلقها الملك السعودي الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، في “قمة بيروت” عام 2002، عندما كان حينها وليًا للعهد، وتهدف إلى إنشاء دولة فلسطينية وعودة اللاجئين والانسحاب من هضبة الجولان، مقابل السلام مع إسرائيل.
وقد أشار نص المبادرة إلى أن طرحها يأتي في ضوء قناعة عربية بأن الحل العسكري لم يحقق السلام أو الأمن لأي طرف من الأطراف، ما يقتضي الشروع في جملة الإجراءات الملحة لحل الأزمة، وقد جاءت بنود المبادرة على النحو التالي:
1- الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من يونيو 1967، والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان.
2- التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقًا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.
3- قبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية.
ونصت المبادرة على أن الطرف العربي سوف يلتزم بالآتي:
1- اعتبار النزاع العربي الإسرائيلي منتهيًا، والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين إسرائيل مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة.
2- إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل.
3- ضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة.
لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي أربيل شارون رفض المبادرة العربية رفضًا قاطعًا، وبرر ذلك بأن المبادرة “تتجاوز الخطوط الحمراء الإسرائيلية” وفق تعبيره، وكذلك رفض شيمون بيريز، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها، المبادرة وقال آنذاك إن هناك حاجة إلى مزيد من المفاوضات.
وقد مثلت المبادرة العربية في ضوء السياقات التي تمخضت عنها، وجملة البنود التي حملتها، محطة مهمة في مسار حلحلة الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصًا وأن المبادرة تضمنت التزامات ثنائية على الجانبين العربي والإسرائيلي تضمن الدفع باتجاه السلام، على قاعدة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، الثابتة تاريخيًا، والتي أقرتها كذلك الشرعية الدولية، حيث ركزت المبادرة على الخطوط العريضة الرئيسة لجهود حل الصراع، والمتمثلة في الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة في الداخل الفلسطيني وخارجه، ومعالجة أزمة اللاجئين الفلسطينيين على قاعدة وفقًا لقرارات الأمم المتحدة، والتأكيد على إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على حدود يونيو 67، في مقابل التزام عربي بإنهاء حالة الحرب الدائمة مع إسرائيل، وإقامة علاقات طبيعية معها.
ولعل عدم التعاطي الإسرائيلي الأمريكي الجاد مع هذه المبادرة، هو الاعتبار الرئيس الذي عرقل الوصول إلى تسوية حتى اللحظة الراهنة لهذا الصراع المستمر، تعويلًا على جملة من الاعتبارات ومنها الاعتقاد الإسرائيلي بأن القضية الفلسطينية لم تصبح ذات أولوية كبيرة بالنسبة للدول والشعوب العربية، فضلًا عن طرح مشروعات متوازية تقوم على مبدأ “السلام مقابل السلام”.
مؤتمر القاهرة ومسار “السلام العادل”
يجد المتتبع لتاريخ ومسار الصراع العربي الإسرائيلي، أن مسار “السلام العادل” وما يتضمنه من خطوات على مستوى حلحلة الصراع كان إجمالًا أكثر نفعًا على مستوى القضايا والمطالب العادلة للشعب الفلسطيني، وأقل من حيث التكلفة؛ فقد أدى مسار الصراع، والذي تسبب به الجانب الإسرائيلي بشكل رئيس من خلال سياسات التنكيل التي تمارس بحق الشعب الفلسطيني، إلى سقوط عشرات الآلاف من القتلى خصوصًا في صفوف المدنيين من الأطفال والنساء والشباب، فضلًا عما خلفه هذا المسار من دمار على مستوى البنى التحتية واللوجستية.
ومع حالة التصعيد الراهنة في الأراضي الفلسطينية، وما تسببت به مت تداعيات وخسائر بالآلاف في صفوف المدنيين؛ يزداد التعويل على قمة القاهرة للسلام، وذلك في ضوء اعتبارين رئيسين: الأول يتمثل في التعويل على الدور المصري باعتباره الدور الأكثر محورية على مستوى التعاطي مع القضية الفلسطينية، والثاني يتمثل في المشاركة الواسعة المحتملة في المؤتمر من قادة العالم وما قد يصاحبه ذلك من تمخض مخرجات تسهم في إنهاء حالة التصعيد الراهنة.
ويعكس عقد هذه القمة المهمة استمرار النهج المصري التاريخي على مستوى التعاطي بفاعلية مع التصعيد الإسرائيلي الفلسطيني، وهو التعاطي الذي يتخذ في بعض الأوقات مسارات متعددة الأطراف، وفي أوقات أخرى مسارات ثنائية. لكن الشواهد التاريخية والراهنة تؤكد أن التعاطي المصري مع التطورات في الداخل الفلسطيني يقوم على جملة من الركائز الأساسية، في القلب منها دعم الحقوق العادلة للشعب الفلسطيني والمتمثلة بشكل رئيس في حقه في إقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية وفق المرجعيات الدولية.
ويعول على مؤتمر القاهرة للسلام في بناء أكبر قدر ممكن من التوافق الدولي بخصوص وقف التصعيد الراهن وإدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، والتخطيط لملف إعادة الإعمار، فضلًا عن التمهيد لعقد مفاوضات جادة، والشروع في محاولات بالتعاون مع المجتمع الإقليمي والدولي لإيجاد حلول عادلة للقضية الفلسطينية، وفق مرجعيات الشرعية الدولية، كاستمرار لمبادرة السلام العربية.
وفي ضوء جملة الثوابت التي تقوم عليها السياسة المصرية تجاه الملف الفلسطيني، نجد أن مؤتمر القاهرة للسلام يمثل أحد أنماط الأدوات التي توظفها مصر في إطار جهودها لخفض التصعيد، وهي الجهود التي قامت بشكل رئيس على التنسيق المصري الثنائي ومتعدد الأطراف؛ بهدف الضغط لوقف التصعيد، فضلًا عن التحرك بجدية على كافة المستويات وبما تملكه مصر من أدوات، بغية إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية لقطاع غزة، ورفض أي مخططات لتصفية القضية الفلسطينية، ومنها مخططات التهجير القسري لسكان قطاع غزة.
وختامًا، يمكن القول إن أهمية قمة القاهرة للسلام ترتبط باعتبارين رئيسين: الأول يتمثل في حجم التعويل الكبير عليه للدفع باتجاه وقف التصعيد الراهن، وإنهاء الأزمة الإنسانية التاريخية التي يعيشها قطاع غزة؛ والثاني يرتبط بكون المؤتمر استكمالًا لجهود مصرية وعربية سابقة تمت في إطار التعويل على خيار “السلام العادل”، وهو الخيار الذي يُعول عليه لضمان الحقوق العادلة للشعب الفلسطيني، فضلًا عن ضمانه للأمن والاستقرار الإقليمي.