أسباب دعم الشعب الأمريكي لإسرائيل.. وهل بدأ في الخفوت؟
أصدرت وكالة “سي إن إن” الأمريكية إحصائية لنسبة تأييد الشعب الأمريكي لإسرائيل في ظل الأحداث الأخيرة و”حرب إسرائيل وحماس” كما وصفتها، وما إذا كانت أفعال إسرائيل مبررة أم لا. وظهر في هذه الإحصائية انخفاض نسبة تأييد إسرائيل بين الشعب الأمريكي مع انخفاض العمر، حيث يرى 81% ممن تبلغ أعمارهم 65 عامًا أو أكثر أن ما تفعله إسرائيل مبررًا تمامًا، مقارنة بـ 56% ممن تتراوح أعمارهم بين 50 و64 عامًا، و44% ممن تتراوح أعمارهم بين 35 و49 عامًا، وأخيرًا 27% ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عامًا. مما يثير أسئلة حول أسباب الدعم الكبير بين الفئات العمرية المتقدمة وأسباب انخفاضه بين الفئات الأصغر سنًا.
أسباب دعم الأمريكيين لإسرائيل
من المتعارف عليه دعم الحكومات الغربية، خاصة الأمريكية، لإسرائيل بشكل كبير، فعلى الرغم من الاختلاف مع الحكومة الإسرائيلية في بعض المواقف، مثل التعديلات الدستورية الأخيرة التي كانت تحاول حكومة نتنياهو تمريرها رغم اعتراض الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي عليها، إلا أن مثل هذه الاختلافات لم تؤثر بأي نسبة في دعم الدول الغربية لإسرائيل بعد عملية “طوفان الأقصى” على الرغم من ارتكاب إسرائيل العديد من الجرائم منذ ذلك الحين. ومن الممكن تفسير هذا الدعم بأن إسرائيل هي الحليف الأكبر والأوفى للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فبضمان وجود إسرائيل في المنطقة يضمن الغرب تواجده وتواجد مصالحه أيضًا في المنطقة.
وبالتأكيد هناك أسباب أخرى لدعم الحكومات الغربية لإسرائيل وللفكر الصهيوني، ولكن المثير للاهتمام هو أن الشعوب الغربية، خاصة الشعب الأمريكي، صاحبة طابع معارض للسلطة ومن غير المعتاد وجود هذا التأييد الواسع لتوجهات الحكومات، بل وما يزيد عليه هو اتفاق مؤيدي كل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي أيضًا على هذا الموقف. وهناك بعض التفسيرات الغربية تفيد بأن هذا التأييد نابع من التعاطف الإنساني الذي لا يختلف عليه الكثير وليس قائمًا على المعتقدات السياسية التي تتحمل الكثير من الاختلافات. ولكن نجد أن وضع إسرائيل يختلف عن وضع أوكرانيا على سبيل المثال، حيث إنه في هذه الحالة إسرائيل هي الدولة التي تعتدي على الدولة الفلسطينية وتقوم بالعديد من جرائم الحرب.
وفي ظل زيادة المؤيدين والمتعاطفين مع إسرائيل بشكل واضح في الفئة العمرية المتقدمة، وشحنهم بدرجة كبيرة من الإعلام الغربي إلى الحد الذي شجع رجل يبلغ من العمر 71 عامًا على قتل طفل من أصول فلسطينية يبلغ من العمر 6 سنوات، وطعنه 26 طعنة وهو يصيح “يجب أن يموت كل المسلمين”، ومن الممكن ربط هذا التعاطف والتأييد غير المحدود لإسرائيل وللفكر الصهيوني، بنوعين من أنواع الدعاية؛ أحدهما ديني، والآخر سياسي، ظهرا في بدايات ومنتصف القرن الماضي، ومستمران إلى الآن بأشكال مختلفة.
أولًا الديني: بدأت بعض الكنائس البروتستانتية – الأكثر انتشارًا في الولايات المتحدة- في بدايات القرن الماضي، في اعتناق تفسير للكتاب المقدس يدعي بـ”الحكم الألفي”، ويركز هذا التفسير على ما سيحدث قبل “اليوم الأخير” أو “يوم القيامة” ويتناول العديد من التفاصيل، منها سيطرة اليهود على القدس والأراضي الفلسطينية وعودة ظهور “هيكل سليمان”. ولم يلق هذا التفسير أو المعتقد الكثير من الترحيب بين الأوساط المسيحية في هذا الوقت بسبب اعتباره تفسيرًا حرفيًا شديد التطرف، لكن على الرغم من ذلك بدأ في الانتشار على نطاق ضيق إلى حد ما بين بعض من المجتمعات المسيحية الأمريكية.
وتزامن انتشار هذا المعتقد مع انتشار الفكر الصهيوني بمؤيديه ومعارضيه، بالإضافة على صدور “وعد بلفور” بإقامة دولة قومية يهودية على الأراضي الفلسطينية، مما رجح تفسير “الحكم الألفي” في فكر الكثير من الشعوب الغربية، حيث رأوا في ارتفاع موجة الفكر الصهيوني وصدور وعد بلفور، تحقيقًا لجزء من “النبوءة” مما يزيد احتمالية تحقيق الباقي منها. ومع النجاح في إقامة دولة إسرائيل زادت أعداد المؤمنين بهذا التفسير بشكل واضح، مما أوجد فكرة أن هذه الأراضي من حق اليهود، وهو ما يدفع لتبرير الجرائم التي تقوم بها الدولة الإسرائيلية على أنه حقهم الشرعي في الدفاع عن أراضيهم التي يتعدى عليها الفلسطينيون من وجهة نظرهم.
ثانيًا السياسي: من جانب آخر كانت تسعى الحكومات الغربية إلى نشر تأييد الفكر الصهيوني بين الشعب لتسهيل عملية إقامة دولة إسرائيل التي ستضمن لهم مصالحهم في المنطقة. وبدئوا في ترويج فكرة انتشار “معاداة السامية” واضطهاد اليهود –خاصة في أوروبا الوسطى-، لخلق مبدأ التعاطف مع اليهود بشكل عام بين الناس. وساعد على بناء هذا التعاطف الجرائم البشعة التي قامت بها ألمانيا النازية وحلفاؤها خلال فترة الحرب العالمية الثانية، والإبادة الجماعية لليهود فيما يعرف بالـ”هولوكوست”، والتي نتج عنها قتل حوالي 6 ملايين يهودي. حيث كان جزءًا طبيعيًا في دعاية الولايات المتحدة للحرب العالمية الثانية هو “شيطنة” العدو كنوع من التعبئة العامة والإعداد النفسي لمواجهة هذا العدو حتى وإن كانت النتيجة الموت.
وساعدت الفظائع النازية في زيادة بشاعة صورتهم بدرجة كبيرة في أعين الشعب الأمريكي وسائر الشعوب الغربية، مما ساهم بدوره في زيادة التعاطف مع اليهود بشكل غير مسبوق بين هذه الشعوب، مما دفعهم لاعتبار أخذهم للأراضي الفلسطينية في 1948، هو نوع من التعويض عن الجرائم التي تعرضوا لها، وأن رفض الفلسطينيين والعرب إعطاؤهم هذه الأراضي، يعتبر أيضًا نوع من أنواع معاداة السامية والعنصرية ضد اليهود.
كذلك كان لانتشار اليهود الواسع في المجتمع الأمريكي بصمة كبيرة في انتشار هذه الأفكار بين الشعب الأمريكي سواء عن طريق التواصل المباشر، أو عن طريق وسائل غير مباشرة مثل الإعلام والأعمال الفنية وغيرها من القوى الناعمة. ومن المؤكد أيضًا أن يكون الانتشار اليهودي في الحكومة الأمريكية ساعد في الدفع بهذه الأجندة، وساعد أيضًا على تصدير الصورة النمطية أن المجتمع الإسرائيلي أقرب إلى المجتمعات الغربية في التحضر والديمقراطية والاهتمام بحقوق الإنسان، بينما يعيشون بين المجتمعات العربية المستبدة وغير المتحضرة، الذين يحاولون أذية اليهود في كل فرصة تتاح لهم، مما يبرر أي شيء تفعله القوات الإسرائيلية على أنه حماية لأنفسهم ولديمقراطيتهم من بطش العرب وفق أطروحاتهم.
هل يخفت هذا الدعم؟
على الرغم من الاستمرار في استخدام نفس وسائل الدعاية لدعم وتعزيز صورة إسرائيل أمام الشعب الأمريكي، إلا أن التأثير مختلف تمامًا في الأجيال الأصغر سنًا بصورة واضحة، حيث نجد أن 27% فقط الفئة العمرية بين 18 و34 داعمًا لموقف إسرائيل الحالي، ومن المرجح أن تتناقص هذه النسبة مع مرور الوقت. وهناك العديد من الأسباب التي تدفع الفئات العمرية الأصغر سنًا للابتعاد عن دعم إسرائيل، فعلى سبيل المثال انخفضت نسبة التدين بشكل واضح في الأجيال الشابة وانفضوا من حول الكنائس الغربية، مما جعل نسبة المؤمنين بتفسير “الحكم الألفي” الحرفي شديد التطرف بالأصل منخفضة جدًا، مما أدى إلى انخفاض شعبية فكرة حق اليهود في امتلاك هذه الأراضي.
هذا بالإضافة إلى ما كشفه مرور الزمن من عدم التزام إسرائيل بمحاولات السلام بمختلف أشكالها، أو حتى الالتزام بالحدود التي رسمت لتقسيم الأرض بين إسرائيل وفلسطين وبناء مستوطنات غير قانونية على الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومن جانب آخر، أظهرت السنوات الماضية فساد السياسات الغربية عامة والأمريكية خاصة بشأن الشرق الأوسط تجاه العديد من القضايا، منها حرب العراق على سبيل المثال، وهو ما أكد لهذه الأجيال أن حكومتهم لا تدعم دائمًا الجانب الإنساني لكنها تنفذ ما يفيد مصالحها مهما كانت عواقبه.
أيضًا في ظل وجود منصات التواصل الاجتماعي التي سمحت بوجود أصوات مختلفة تنشر الجانب الآخر لحقيقة الوضع، مما فضح تضليل الإعلام الغربي الذي يدفع بأجندته وينشر المغالطات والأخبار الكاذبة ليروج لصورة معينة، ولا يغطي الأحداث بحيادية مثلما يدعي، يضاف إلى ذلك اعتراف الكثير من هذا الجيل، خاصة من طلبة الجامعات، بأنهم يحصلون على معلومات تاريخية عن قيام دولة إسرائيل والصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر على مدار 75 عامًا، لأول مرة عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما ضخم إحساسهم بأن حكومتهم تضللهم وتخفي عنهم الحقائق بشكل علني حتى يصلوا لمصالحهم.
ولا يجب أن ننسى العامل البشري، فمن المؤكد أن انتشار العرب في المجتمع الأمريكي له دور فعال وفي غاية القوة أيضًا، حيث يمكننا ملاحظة أن الثقافة العربية والإسلامية بدأت في الانتشار بشكل واضح وكبير في المجتمع الأمريكي، مما نتج عنه زيادة تقبل العرب وثقافتهم، وزوال الصورة النمطية عن العرب على أنهم رجعيون وغير متحضرين، وهي الصورة التي كانت متصدرة في أذهان الأجيال الأكبر سنًا، بشكل تدريجي، وهو ما ساعد في تفهم هذه الأجيال للقضية الفلسطينية والتعاطف معها ورؤية وحشية الجيش الإسرائيلي على حقيقتها.ختامًا، من الصعب تفسير ارتباط الشعب الأمريكي والغربي بإسرائيل وشعبها، أو حتى أسباب اختلاف هذا الموقف عبر الأجيال، وذلك لعدم وجود خطوات يمكن تلخيصها في نقاط واضحة تبين الارتفاع أو الانخفاض في تأييد إسرائيل، نظرًا لأنها تجربة إنسانية تشكلت بالكثير من الأحداث والمؤثرات المختلفة على مر عقود من الزمن وما زالت تتشكل وتتغير. ولكن ما نستطيع أن نجزم به هو أن مثلما تحول فكر الشعب الأمريكي من معارضة الفكر الصهيوني إلى الدفاع المستميت عنه، واتهام كل معارضيه بمعاداة السامية وتشجيع الفكر الإرهابي والنازي، يمكن ما يحدث الآن أن يكون بوادر لتحول تدريجي آخر في فكر الشعب الأمريكي، ليرى الصورة كما هي دون انحياز إلى إسرائيل.