الموقف الأمريكي من التصعيد في غزة بين هوس دعم إسرائيل وازدواجية المعايير
أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن يوم 7 أكتوبر الجاري: “إن الولايات المتحدة الأمريكية تقف إلى جانب دولة إسرائيل الآن، تمامًا كما فعلت منذ اللحظة التي أصبحت فيها الولايات المتحدة الأمريكية أول دولة تعترف بإسرائيل بعد 11 دقيقة من تأسيسها، قبل 75 عامًا!”. وتكفي هذه العبارة لتوضح الدعم والتحيز الأمريكي المطلق لإسرائيل عبر إداراتها المتعاقبة، وأنها حليفها الأوثق.
وفي الأزمة الأخيرة ما بين طوفان الأقصى وإعلان إسرائيل حالة الحرب وبدء العملية العسكرية “السيوف الحديدية” التي أطلقت عبرها العنان لرد مدمر في قطاع غزة، وحشدت قواتها البرية لغزو بري محتمل للقطاع؛ اتسم الموقف الأمريكي حتى هذه اللحظات بدعم إسرائيل المطلق دون الدعوة لأي تهدئة للحيلولة دون سفك دماء الأبرياء، وانفجار حرب موسعة في المنطقة. ويوضح العرض التالي طبيعة هذا الموقف الأمريكي.
دعم سياسي ودبلوماسي مطلق
فور وقوع هجمات حركة حماس على إسرائيل يوم 7 أكتوبر الجاري، سرعان ما تبلور الموقف الأمريكي الداعم بقوة لإسرائيل للدفاع عن نفسها دون أي قيد أو شرط، مما منح إسرائيل الضوء الأخضر لتنفيذ سياسة الأرض المحروقة والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، والتدمير الشامل للبنى التحتية والمباني السكنية والمساجد والمرافق الصحية بقطاع غزة، وترديد دعوات للتهجير القسري لأهالي قطاع غزة؛ في محاولة لتنفيذ خطة إسرائيل بتصدير الأزمة إلى دول أخرى، أو التهجير القسري لأهالي القطاع من الشمال للجنوب، والاستيلاء على مدينة غزة ومناطق حولها، هذا إلى جانب فرض حصار شامل على القطاع وقطع المياه والكهرباء والوقود، مما حول قطاع غزة إلى منطقة منكوبة بالكامل وأدى إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة، مما خلف أكثر من 2750 شهيدًا، وإصابة نحو 9700 أخرين، هذا إلى جانب وجود نحو 1000 شخص مفقودين تحت أنقاض مباني غزة المدمرة.
فسارع الرئيس الأمريكي بالاتصال برئيس وزراء إسرائيل، وأعرب عن إدانته لهذا الهجوم الذي وصفته أمريكا بأنه هجوم مروع على يد إرهابيي حماس، وأكد أن الولايات المتحدة الأمريكية “علي أهبة الاستعداد لتقديم كافة وسائل الدعم المناسبة لحكومة إسرائيل وشعبها”، مانحًا لإسرائيل “الضوء الأخضر لتفعل ما يحلو لها“؛ إذ أكد أن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها وشعبها، “وحذر أي طرف آخر معادٍ لإسرائيل من أن يحاول الاستفادة من هذا الوضع”، وعاد ليؤكد أن الدعم الأمريكي لإسرائيل راسخ ولا يتزعزع، وأنه سوف يستمر في تواصله مع رئيس وزراء إسرائيل.
وفي اليوم نفسه، عاد “بايدن” ليؤكد الدعم الأمريكي لإسرائيل، والتأكد من حصول إسرائيل على كافة المساعدات التي تحتاجها للدفاع عن نفسها، مؤكدًا أن أعمال حماس (تصرفات لا يمكن الدفاع عنها أخلاقيًا!)، مؤكدًا الدعم الأمريكي القوي الذي لا يتزعزع لأمن إسرائيل، محذرًا أي جهة معادية لإسرائيل من استغلال هذه الهجمات لتحقيق مكاسب، مشيرًا إلى تشاوره مع أعضاء الكونجرس وتوجيهه لفريق الامن القومي الخاص به للتعامل مع نظرائهم الإسرائيليين “وزارة الدفاع والاستخبارات، والدبلوماسيين” للتأكد من حصول إسرائيل على كافة احتياجاتها”.
وهو ما حدث بالفعل؛ سواء على المستوى الرئاسي ، أو على مستوى كبار مسؤولي إدارة “بايدن” مثل وزيري الخارجية والدفاع، ومستشار الامن القومي وغيرهم؛ إذ كثف المسؤولون الأمريكيون اتصالاتهم مع الجانب الإسرائيلي بشكل يومي لتأكيد الدعم الأمريكي القوي لإسرائيل، والتباحث بشأن ضمان إطلاق سراح كافة الأسرى، لاسيّما وأن بينهم أمريكيين.
وقد جاءت زيارة كل من وزير الخارجية ووزير الدفاع الأمريكيين لإسرائيل بهدف اظهار المساندة والدعم لإسرائيل، وفي هذا الاطار شددت نائبة الرئيس الأمريكي كاملا هاريس على أن التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل ثابت لا يتزعزع، وأعادت التأكيد على الالتزام الأمريكي بتوفير كافة وسائل الدعم لإسرائيل.
وعلاوة على ذلك، قامت أمريكا بحشد الرأي العام الغربي الذي تبنى الموقف الأمريكي في منح الضوء الأخضر للاحتلال الإسرائيلي في حربه ضد غزة، متبنين الرواية الإسرائيلي المغلوطة بشأن ما وقع من أحداث. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى نفي البيت الابيض تصريحات الرئيس الأمريكي خلال اجتماعه بقادة الطائفة اليهودية الأمريكية، برؤيته صور أطفال إسرائيليين “قطعت رؤوسهم على يد حماس”، وأكد البيان أن هذا الأمر لم يتم التحقق منه.
دعم عسكري واسع
أعلن الرئيس الأمريكي تشاور إدارته مع الكونجرس لطلب اتخاذ إجراءات عاجلة لتمويل متطلبات الأمن القومي لإسرائيل فور عودة الكونجرس إلى الانعقاد. وأعلن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن الدعم الأمريكي المطلق للجيش الإسرائيلي، وتوفير الحكومة الأمريكية لحزمة من المساعدات الأمنية والعسكرية العاجلة التي يحتاجها للدفاع، تتضمن: الذخائر، والصواريخ الاعتراضية لتحديث القبة الحديدية، وعددًا من المعدات والموارد الإضافية دون توضيح ماهية هذه المساعدات والمعدات.
هذا إلى جانب تعزيز وضع القوات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط؛ إذ أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة حاملة الطائرات المقاتلة “جيرالد ر. فورد” إلى شرق البحر المتوسط، وهي أكبر حاملات الطائرات في العالم، وتشتمل هذه المجموعة على حاملة طائرات البحرية الأمريكية “جيرالد ر. فور” (CVN-78)، وطراد الصواريخ الموجهة من فئة “تيكونديروجا يو إس إس نورماندي”(CG 60)، بالإضافة إلى مدمرات الصواريخ الموجهة من فئة “أرلي-بورك يو إس إس توماس هودنر” (DDG 116)، ويو إس إس راماج (DDG 61) ويو إس إس كارني (DDG 64) ويو إس إس روزفلت (DDG 80)، هذا إلى جانب زيادة عدد اسراب الطائرات المقاتلة التابعة لسلاح الجو الأمريكي من طراز إف-35 وإف-15 وإف-16 وإيه-10، فضلًا عن إصدار توجيهات لكافة القوات الأمريكية في مختلف أنحاء العالم بأن تكون على أهبة الاستعداد لتعزيز وضعية الردع هذه في حال دعت الحاجة لذلك. ومع استمرار الحرب، أعلن لويد أوستن إرسال حاملة طائرات جديدة “يو اس اس أيزنهاور”، ومجموعة السفن الحربية التابعة لها إلى شرق البحر المتوسط.
ويهدف هذا الدعم إلى أمرين أساسيين: أولهما: دعم إسرائيل ولكن ليس في حربها ضد غزة لأن حركة حماس تعد ذات قوة محدودة من حيث الأسلحة والتكنولوجيا وغيرها، لذا ليس من المنطقي حشد القوات الأمريكية بهذا النحو. لذا قد تكون بهدف منح دفعه معنوية لجيش الاحتلال الذي لحقته هزيمة نكراء إثر عملية طوفان الأقصى التي أوضحت الاخفاق والفشل الاستخباراتي والأمني والعسكري الإسرائيلي، وانهيار أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.
أما الهدف الآخر المعلن فهو تعزيز الردع الإقليمي لردع أي جهة معادية لإسرائيل من استغلال الوضع لتحقيق مكاسب لها، أو توسيع نطاق الصراع. ولعل هذا الأمر كان خطوة استباقية من الولايات المتحدة الأمريكية؛ تحسبًا لدخول دول أو جهات غير حكومية في صراع مفتوح مع إسرائيل قد ينشب نتيجة حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على أهالي قطاع غزة.
حيث تتصاعد مخاوف القيام بأعمال عسكرية ضد إسرائيل، وفتح أكثر من جبهة لاسيما في حالة الاجتياح البري، وذلك من جبهات “سوريا، وحزب الله بلبنان، والحوثيين باليمن”، لاسيما بعد أن شهد جنوب لبنان تصعيدًا عسكريًا بالتزامن مع حرب إسرائيل على غزة، وبدأ الجيش الإسرائيلي حشد قواته على الجبهة الشمالية، وتبادل القصف الصاروخي بين الطرفين، هذا إلى جانب إطلاق صواريخ من الأراضي السورية، وقصف إسرائيل لمطار حلب مرتين وكذلك مطار دمشق. فيما أنذرت إيران إسرائيل من تحول الصراع إلى حرب إقليمية. وعلى الرغم من ضعف احتمالية تمدد هذا الصراع إلى جبهات أخرى فإن إطالة أمد الحرب في ظل تصاعد احتمالية الاجتياح البري الإسرائيلي لغزة قد يؤدي إلى سيولة أمنية في المنطقة تنذر بتوسع نطاق الصراع .
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من الدعم العسكري الأمريكي القوي لإسرائيل فإن الإدارة الأمريكية أعلنت في أكثر من مناسبة عدم وجود نية لديها لنشر أي جنود أمريكيين على الأرض، وأكد الرئيس بايدن يوم 16 أكتوبر عدم وجود حاجة لإرسال قوات أمريكية إلى المنطقة.
محاولة وسم الصراع بأنه صراع ديني
اتسم الموقف الأمريكي بإغفال الحديث عن أسباب هذه الحلقة المفرغة من العنف، والتي تتمثل في انسداد الأفق السياسي لحل القضية الفلسطينية، وممارسات وإجراءات الاحتلال الإسرائيلي العنصرية، وإغفال أن تحقيق السلام والتعايش السلمي بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ووقف دائرة العنف تلك لن يتأتى إلا بالحل الشامل والعادل للقضية الفلسطينية وفقًا لحل الدولتين، والعودة لحدود الرابع من يونيو 1967، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وذلك وفقًا للمبادرة العربية ومقررات الشرعية الدولية بهذا الشأن.
واتسم الخطاب الأمريكي بأنه خطاب دعاية انتخابية نظرًا لقرب الانتخابات الرئاسية الأمريكية المزمع عقدها عام 2024؛ ففي إطار سعي الرئيس الأمريكي وإدارته إلى الحصول على دعم الجالية اليهودية في أمريكا، جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي ووزير الخارجية الأمريكي تحمل نوعًا من المزايدة، ليس فقط في تكرار خطاب الدعم القوي لإسرائيل، وأن أمريكا وإسرائيل شريكان لا ينفصلان، بل في محاولة الزج بأن هذا الصراع ضد اليهودية.
ففي خطاب ألقاه الرئيس الأمريكي يوم 9 أكتوبر ذكر: “ليست هذه بمأساة بعيدة هنا، فالعلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة عميقة، ما حصل أمر شخصي بالنسبة إلى العديد من الأسر الأمريكية التي تشعر بألم هذا الهجوم والندوب التي خلفتها آلاف السنين من معاداة السامية واضطهاد الشعب اليهودي”.
وفي كلمة أخرى للرئيس الأمريكي يوم 10 أكتوبر قال: “لقد أعاد هذا الهجوم إلى الأذهان ذكريات مؤلمة وندوبًا خلفتها آلاف السنين من معاداة السامية والإبادة الجماعية للشعب اليهودي.. حماس لا تدافع عن حق الشعب الفلسطيني في الكرامة وتقرير المصير. هدفها المعلن هو إبادة دولة إسرائيل وقتل الشعب اليهودي”، وأضاف “نتخذ خطوات داخل بلدنا.. قامت أقسام الشرطة بتعزيز الإجراءات الأمنية حول مراكز الحياة اليهودية بأمريكا.. على مدى 75 عامًا، وقفت إسرائيل باعتبارها الضامن النهائي لأمن الشعب اليهودي في جميع أنحاء العالم حتى لا تتكرر فظائع الماضي مرة أخرى أبدًا.. ليس هناك أدنى شك، الولايات المتحدة تقف وراء إسرائيل.. نحن مع إسرائيل، كونوا متأكدين من ذلك”.
وعقد الرئيس الأمريكي اجتماعًا مع قادة الجالية اليهودية بأمريكا، وحضره كل من: مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ومستشارة الأمن الداخلي ليز راندال، ومستشارة السياسة الداخلية نيرا تاندن؛ بهدف تأكيد دعم الإدارة الأمريكية لإسرائيل ومكافحتها لمعاداة السامية، هذا إلى جانب الاعلان عن تضامنهم مع الجالية اليهودية”. وسبق ذلك اجتماع للوزارات الأمريكية والوكالات الحكومية فور وقوع أحداث يوم 7 أكتوبر لمناقشة “تطوير استراتيجية الرئيس الوطنية لمكافحة معاداة السامية”.
وخلال جولة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في منطقة الشرق الأوسط التي زار خلالها كلًا من: إسرائيل، والأردن، وقطر، والسعودية، والإمارات، ومصر، مع لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الأردن، بهدف تقديم الدعم الكامل لإسرائيل، ومنع التصعيد الإقليمي وبحث تأمين إطلاق سراح الأسرى، وتحديد آليات حماية المدنيين؛ استهل “بلينكن” حديثه خلال زيارته لإسرائيل كما يلي: ” أود أن أذكر شيئًا شخصيًا، لا أقف أمامكم اليوم كوزير لخارجية الولايات المتحدة فحسب، بل أيضًا كيهودي، لقد فر جدي موريس بلينكن من المذابح في روسيا، ونجا زوج والدتي صامويل بيسار من معسكرات الاعتقال في أوشفيتز وداخاو ومايدانيك.. أدرك بشكل شخصي الوقع المروع للمذابح التي ارتكبتها حركة حماس بحق اليهود الإسرائيليين، بل اليهود أينما كان! “.
ولكن هذه الرسائل الداعمة لإسرائيل على هذا النحو غير المحسوب ستكون بمثابة سكب المزيد من الوقود على الحرائق لأنهم لا ينظرون بتوازن للطرفين ولا يسعون حتى الآن للتهدئة، ويلقون بخطاب يؤجج صراعات وكراهية.
وجاء رد الرئيس عبد الفتاح السيسي على هذا الموقف الأمريكي خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي لمصر يوم 15 أكتوبر، بعبارات تتسم بالحنكة السياسية، وواضحة للرأي العام العالمي نقلت حقيقة الوضع في المنطقة العربية ووضع اليهود بها، مع توضيح أن التطرف لا دين له، ورفض أي مساس بالمدنيين، مع توضيح أن رد فعل إسرائيل تجاوز حق الدفاع عن النفس إلى العقاب الجماعي لقطاع غزة الذي يعيش فيه 2.3 مليون فلسطيني، هذا إلى جانب طرح خارطة طريق موجزة لتجاوز الأزمة الراهنة بشكل لا عودة فيه إلى دائرة الصراع والعنف المفرغة وإرساء السلام، عبر خفض التوتر واحتواء الازمة وإعادة جميع الأطراف إلى الطريق الصحيح، ومنع دخول أطراف أخرى للصراع، وتيسير دخول المساعدات لقطاع غزة المحاصر دون مياه أو كهرباء أو وقود.. والاستماع للمعنيين بالقضية والعالمين بأسباب الأزمة، للعودة للأسباب الجذرية للأزمة ومن ثم حلها، وفقًا للقرارات الدولية بهذا الشأن.
وجدير بالذكر أن الرئيس السيسي قبل لقاء وزير الخارجية الأمريكي ترأس اجتماع مجلس الأمن القومي، ونتج عن الاجتماع 6 قرارات مهمة هي: مواصلة الاتصالات مع الشركاء الدوليين والإقليميين من أجل خفض التصعيد ووقف استهداف المدنيين، وتكثيف الاتصالات مع المنظمات الدولية الإغاثية والإقليمية من أجل إيصال المساعدات المطلوبة، والتشديد على أنه لا حل للقضية الفلسطينية إلا حل الدولتين، مع رفض واستهجان سياسة التهجير أو محاولات تصفية القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار، وإبراز استعداد مصر للقيام بأي جهد من أجل التهدئة وإطلاق واستئناف عملية حقيقية للسلام، مع التأكيد أن أمن مصر القومي خط أحمر ولا تهاون في حمايته، وتوجيه مصر الدعوة لاستضافة قمة إقليمية دولية من أجل تناول تطورات ومستقبل القضية الفلسطينية.
النظر بعين واحدة لحقوق الإنسان
أكد الرئيس ووزير الخارجية الأمريكيين مرارًا أن إسرائيل دولة ديمقراطية مثل أمريكا، وتتصرف وفقًا للقانون، وتتمسك بقوانين الحرب، فمثلًا أشار الرئيس الأمريكي إلى أنه “ناقش مع رئيس الوزراء الإسرائيلي كيف أن الديمقراطيات مثل إسرائيل والولايات المتحدة تكون أقوى وأكثر أمنًا عندما نتصرف وفقًا لسيادة القانون!.. الإرهابيون يستهدفون المدنيين عمدًا ويقتلونهم.. أما نحن فإننا نتمسك بقوانين الحرب – قانون الحرب، هذا مهم، وهناك فرق..”، ووصف قتل المدنيين الإسرائيليين بأنه “مأساة إنسانية، وفظائع على نطاق مروع”.
فيما ذكر وزير الخارجية “بلينكن”: “ما يميز إسرائيل والولايات المتحدة عن الديمقراطيات الأخرى هو احترامنا للقانون الدولي وقوانين الحرب، بحسب الاقتضاء. نحن نبذل قصارى جهودنا للتأكد من أننا نتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين.. نحن نعلم أن إسرائيل ستتخذ كافة الاحتياطات الممكنة تمامًا كما نفعل نحن. وأكرر أن هذا ما يميزنا عن حماس والجماعات الإرهابية التي تمارس أبشع أنواع الأعمال
ولكن بدا تغير طفيف في الموقف الأمريكي بعد ذلك، حيث بدأت تهدأ حدة نبرة الخطاب الأمريكي تجاه الدعم المطلق لإسرائيل دون شرط أو قيد، أمام الموقف العربي الموحد بشأن أهمية وقف الانتقام الإسرائيلي الجماعي ضد أهالي غزة، وأهمية توفير ممرات آمنة لإيصال المساعدات لقطاع غزة، والموقف المصري برفض خروج الرعايا الأمريكيين والجنسيات الأخرى من القطاع عبر مَعبر رفح إلا مع فتح ممرات آمنة لدخول المساعدات الإنسانية لأهالي قطاع غزة، هذا إلى جانب ضغط الرأي العام العربي وبعض الدوائر الأمريكية والعالمية، وتحذيرات المنظمات الدولية من الكارثة الإنسانية في قطاع غزة.
ويدلل على ذلك الاتصال الهاتفي لوزير الدفاع الأمريكي مع نظيره الإسرائيل يوم 14 أكتوبر، والذي ناقش أهمية الالتزام بقانون الحرب، بما في ذلك التزامات حماية المدنيين وكذلك معالجة الأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة. فيما أعلن “بلينكن” بشكل قاطع رفض فكرة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، عقب زيارته للدول العربية لاسيما بعد لقائه مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والذي سبقه الموقف المصر الاستباقي الرافض بشكل قاطع وصريح لأي محاولات للتهجير القسري للفلسطينيين داخل أو خارج قطاع غزة، مع توضيح أن السماح باستضافة اشقائنا الفلسطينيين يهدد بتصفية القضية الفلسطينية. ويأتي هذا الأمر في إطار عقيدة مصر وسياستها الدائمة بدعم القضية الفلسطينية؛ وفقًا للمبادرة العربية والقرارات الدولية بهذا الشأن، وحق الشعب الفلسطيني لإقامة دولته على أرضه وليس على أرض أخرى، وأن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية.
وقد أعقب زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى مصر إعلان مستشار الأمن القومي جيك سوليفان تعيين الدبلوماسي الخبير في شئون الشرق الأوسط ديفيد ساترفيلد مبعوثًا أمريكيًا للقضايا الإنسانية في الشرق الأوسط؛ لضمان وصول المساعدات الإنسانية وخاصة للشعب الفلسطيني في غزة، والتنويه بأنها أولوية قصوى للرئيس الأمريكي، والتأكيد على التشاور مع مصر وإسرائيل والأمم المتحدة لإيصال المساعدات لغزة. وأعقب ذلك إعلان الرئيس “بايدن” يوم 16 أكتوبر أن إسرائيل سترتكب خطأ إذا احتلت غزة بريًا.
ومع ذلك، على الرغم مما شاب الموقف الأمريكي من التغير في حدة التصريحات، فإن واشنطن لم تحث إسرائيل على التهدئة ووقف العمليات العسكرية، ولا تزال تؤكد دعمها الصارم لإسرائيل لحقها في الدفاع عن نفسها، متغاضية عن تجاوز إسرائيل لهذا الحق بشكل سافر أقل ما يوصف أنه جريمة حرب، وإبادة جماعية. ويتواصل هذا الدعم من خلال حديث مصادر إسرائيلية عن زيارة مرتقبة للرئيس الأمريكي إلى تل أبيب؛ في استمرار لإظهار الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل.
وختامًا، تؤكد الولايات المتحدة الأمريكية دائمًا على إعلاء قيم حقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة والمساواة، لكن ازدواجية المعايير ظهرت بشكل سافر في الأزمة الراهنة؛ إذ أعلنت الإدارة الأمريكية مرارًا رؤيتها لأعمال العنف التي وصفتها “بالوحشية” ضد الرجال والنساء والأطفال الإسرائيليين، متبنية الرواية الإسرائيلية عما وقع من أحداث يوم 7 أكتوبر، ناظرة بعين واحدة على أحداث هذه الأزمة، متخطية أسبابها وجذورها وأنها قضية احتلال يمارس فيها المحتل الإسرائيلي اعتداءات وحشية متكررة على الشعب الفلسطيني، ويطبق سياسات الفصل العنصري في الضفة الغربية والقدس الشرقية، هذا إلى جانب الحصار المستمر والممتد لقطاع غزة، مما يؤجج الصراع في ظل غياب الحق الفلسطيني المشروع وفقًا للقرارات الدولية، متغافلة ما يرتكبه الاحتلال من حرب دموية وإبادة جماعية للشعب الفلسطيني، مبررة لإسرائيل ما تقوم به وتصفه بأنها تتصرف وفقًا لقوانين الحرب وتحترم القانون الدولي وتحمي المدنيين! رغم ما تقوم به من جرائم وانتهاكات تخالف كافة القوانين والأعراف والمواثيق الدولية.